قال سمير بنيس، مستشار دبلوماسي خبير في العلاقات الدولية، إن تصريح وزيرة الخارجية الإسبانية حول ضرورة احترام السيادة الإسبانية ووحدتها الترابية، يتماشى مع توجه المغرب على مدى العقود السبعة الماضية، حيث عمل المغرب على ضمان احترام جيرانه وشركائه، خاصة إسبانيا، لوحدته الترابية، إلا أن إسبانيا تحاشت لعقود تحمل مسؤوليتها التاريخية والاعتراف بمغربية الصحراء، وإن كان موقفها خلال السنوات الماضية تميز بنوع من الحياد الإيجابي.
وحاول بنيس، في مقال له بعنوان “سبتة ومليلية والصحراء والأسباب الكامنة وراء فتور العلاقات بين الرباط ومدريد”، الإجابة عن سؤال طرحه حول “الحياد الإيجابي أم العداء الغامض؟”، قبل أن يتطرق للقوة التفاوضية للدبلوماسية المغربية في العلاقة بين الرباط ومدريد.
وورد ضمن المقال ذاته أنه “ينبغي أن يكون لإسبانيا موقف واضح بشأن الصحراء؛ إذ لم يعد بوسعها الاستمرار في تكرار أن الرباط ومدريد تتمتعان بعلاقات ممتازة، بينما تتهرب من مسؤوليتها في النزاع ولا تتحلى بالشجاعة والواقعية لتقديم دعم ضمني للموقف المغربي”.
وهذا نص المقال:
سارعت الحكومة الإسبانية بالرد على البيان الذي أدلى به رئيس الحكومة المغربية، سعد الدين العثماني، في وقت سابق من الشهر الفارط حول مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين. وقال العثماني في حديث للقناة التلفزيونية السعودية “الشرق”، إن “سبتة ومليلية جزء من الأراضي المغربية”، مضيفا أنه “ستكون هناك حاجة لفتح نقاش حول مستقبلهما مع الحكومة الإسبانية”. وعلى الرغم من أن المغرب قد وضع مسألة سبتة ومليلية جانباً مدى السنوات الـ 15 الماضية، إلا أنه لطالما طعن في سيادة إسبانيا عليهما وحثها على فتح مناقشات حول مصيرهما.
وقد أثار تصريح العثماني صدمة في المشهد السياسي والإعلامي في إسبانيا، مما دفع وزيرة الخارجية في الدولة الأوروبية، كريستينا غالاش، إلى استدعاء السفيرة المغربية لدى إسبانيا، كريمة بنيعيش. وخلال الاجتماع، أكدت المسؤولة الإسبانية أن الحكومة الاسبانية تنتظر من جميع شركائها احترام سيادتها ووحدة أراضيها.
إن تصريح المسؤولة الإسبانية يتماشى مع توجه المغرب على مدى العقود السبعة الماضية، حيث عمل على ضمان احترام جيرانه وشركائه، خاصةً إسبانيا، لوحدته الترابية. إلا أن إسبانيا تحاشت لعقود تحمل مسؤوليتها التاريخية والاعتراف بمغربية الصحراء، وإن كان موقفها خلال السنوات الماضية تميز بنوع من الحياد الإيجابي.
الحياد الإيجابي أم العداء الغامض؟
على مدى السنوات الخمس عسرة الماضية، اتخذت إسبانيا موقفاً يتسم بالحياد الإيجابي إزاء النزاع، وأعطت في بعض الأحيان الانطباع بأنها تدعم الموقف المغربي. وقد كان هذا الموقف تطوراً محموداً، على ضوء الدور التاريخي لإسبانيا في النزاع. غير أنه حينما جاءت ساعة الحقيقة وكان على هذه الأخيرة اتخاذ موقف صريح، فشلت في القيام بذلك، مما تسبب في توتر صامت بين البلدين.
تعيش العلاقات بين المغرب وإسبانيا نوعاً من الفتور بعد سلسلة أحداث أبانت عن التباعد الحاصل بين البلدين على الرغم من تصريحات مسؤوليهما حول متانة العلاقات بينهما. وبدأ التوتر بين الرباط ومدريد يطفو على السطح بعد أن أهان عضو في حزب اليمين المتطرف فوكس في مليلية الشعب المغربي، واتهم المغرب بابتزاز إسبانيا.
بعد ذلك، نشر بابلو إغليسياس، زعيم حزب “يونيداس بوديموس” اليساري الراديكالي نائب رئيس الحكومة الإسبانية، في منتصف نوفمبر، سلسلة من التغريدات حث فيها الأمم المتحدة على السماح للصحراويين بممارسة حقهم في تقرير المصير. وعلى الرغم من أن الرباط لم تصدر أي تعليقات رسمية على التغريدات، إلا أنه يمكن اعتبار تلك الخطوة عملاً عدائياً لا يتماشى مع نوعية العلاقات التي تجمع البلدين.
ويمكن اعتبار الموقف غير الودي لإسبانيا تجاه مغربية الصحراء منذ اعتراف الرئيس ترامب بسيادة المغرب عليها، القطرة التي أفاضت الكأس. وتجلى ذلك في التصريح الذي أدلت به وزير الخارجية الاسبانية، أرانتشا غونزاليس لايا، حيث قالت في نفس اليوم إن قرار الرئيس الأمريكي أخذ الحكومة الإسبانية على حين غرة.
أياما قليلة بعد ذلك، قالت أرانتشا في تصريح لإحدى الإذاعات الإسبانية إن حل نزاع الصحراء لا يتوقف على بلد واحد، مهما كان قوياً ومؤثراً، وأكدت ضرورة التوصل إلى حل يحظى بإجماع دولي في إطار العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة.
على الرغم من اختيار لغتها بعناية للتأكيد على الدور المركزي الذي ينبغي أن تلعبه الأمم المتحدة في إنهاء النزاع، إلا أن إسبانيا أبت إلا أن تعبر عن دعمها الواضح أو الضمني للمغرب. كما أن الخطاب الذي استعملته إسبانيا كان بعيدا كل البعد عن البيان الذي أصدرته الحكومة الفرنسية.
وإن كانت فرنسا لم تعترف حتى الآن بشكل لا لبس فيه بسيادة المغرب على الصحراء، فقد كانت واضحة بشأن خطة الحكم الذاتي المغربي، وأكدت أنه يشكل أساساً لمفاوضات جادة وذات مصداقية للتوصل إلى حل سياسي. والأسوأ من ذلك أن إسبانيا، وفقاً لصحيفة “الاسبانيول” الإسبانية، كانت على اتصال بفريق الرئيس المنتخب جو بايدن لإقناعه بالعدول عن قرار ترامب.
تعزيز القوة التفاوضية للدبلوماسية المغربية
ما قامت به الحكومة الإسبانية لا يتناسب مع ما يتوقعه المغرب من شريكه الاقتصادي والتجاري الأول. ولعل ذلك كان هو السبب وراء تأجيل الاجتماع رفيع المستوى بين مدريد والرباط الذي كان من المفترض أن يعقد يوم 17 دجنبر. وعلى الرغم من أن حكومتي البلدين أكدتا أنه تم تأجيل الاجتماع بسبب وباء “كوفيد-19″، إلا أن استقبال الملك محمد السادس لوفد أمريكي إسرائيلي بعد خمسة أيام يظهر بوضوح أن الوباء لم يكن السبب الحقيقي.
ونظراً للتوتر الكامن بين الرباط ومدريد وانزعاج المسؤولين المغاربة من الموقف الإسباني، فمن غير الواضح متى سيعقد هذا الاجتماع، على الرغم من أنه قد تم تحديد موعده مبدئياً في فبراير المقبل. وما لم توضح إسبانيا موقفها وتبدي استعدادها للتعبير، على الأقل، بشكل ضمني عن دعمها لمقترح الحكم الذاتي المغربي، فإن فرص عقد الاجتماع في فبراير تبقى ضئيلة جدا. وحتى ولو عقد الاجتماع، فمن غير المنتظر أن يحظى رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، باستقبال من طرف الملك محمد السادس.
ويظهر أن تصريحات العثماني حول سبتة ومليلية لم تكن اعتباطية أو زلة لسان، بل تعكس استياء المغرب من غموض الموقف الإسباني بخصوص سيادته على صحرائه. كما يمكن اعتبار تصريحات العثماني رسالة مبطنة للحكومة الإسبانية تعبر عن استياء المغرب من غياب الشجاعة والواقعية السياسية لديها للتعبير بشكل واضح عن موقفها من النزاع، وكذا تنبيهها إلى ضرورة عدم السماح لأي عضو من أعضائها للعبث بالوحدة الترابية المغربية أو استعمالها لأهداف سياسوية وشعبوية.
يرى عديد من المراقبين أنه ينبغي للمغرب أن يضغط على إسبانيا لكي تحذو حذو الولايات المتحدة، أو لكي تتكلم بصوت واحد حول هذا الملف وألا تترك المجال لأي من أعضائها للتعدي على الوحدة الترابية للمغرب، خاصة وأن إسبانيا-إلى جانب فرنسا، تتحمل مسؤولية نشأة وإطالة هذا النزاع. كما أن مدريد تعلم جيدا أن هذه المنطقة كانت خاضعة لسيادة المغرب قبل أن تسيطر عليها إسبانيا ابتداء من عام 1884، وأن الأرشيفات الدبلوماسية الإسبانية مليئة بالوثائق التي تثبت ذلك.
فإذا كانت إسبانيا تريد الاستفادة من فوائد الحفاظ على علاقات قوية مع المغرب، فقد حان الوقت لكي تضع خطابها المبهم جانباً وتعترف بحقوق المغرب التاريخية والقانونية على أقاليمه الجنوبية. وفي هذا الصدد، ينبغي أن يكون الاعتراف بمزايا مقترح الحكم الذاتي المغربي باعتباره الأرضية التي يمكن البناء عليها من أجل التوصل إلى حل سياسي قابل للحياة كأول خطوة على إسبانيا اتخاذها لكي تعبر بشكل لا لبس فيه بأنها تسعى للحفاظ على متانة العلاقات بين البلدين والرقي بها إلى مستوى يخدم مصالح وتطلعات شعبي البلدين.
فليس هناك شك أن اعتراف الولايات المتحدة بالسيادة المغربية على الصحراء قد عزز موقف المغرب أكثر من أي وقت مضى. كما أنه في السياق الإقليمي للوقت الراهن، فإن المغرب يمتلك العديد من وسائل الضغط لمطالبة إسبانيا باعتماد موقف واضح وثابت ينسجم مع التطورات التي طرأت على العملية السياسية ويحترم مصالح المغرب ومشاعر الشعب المغربي.
إن مغرب اليوم ليس هو ذلك البلد الذي قام رئيس الوزراء الإسباني السابق، خوسيه ماريا أثنار، بابتزازه في أواخر التسعينات وأوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. فالسياق الدولي لم يعد كما كان قبل 20 عاماً، حيث تقوت قدرة المغرب التفاوضية بشكل ملحوظ. والأهم من ذلك أنه بحكم القرب الجغرافي بين البلدين، فإن الاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي لإسبانيا يرتبط إلى حد كبير بالاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للمغرب.
حان وقت الاختيار
ينبغي للإسبان أن يقروا ويتفهموا أن الصحراء تعتبر مسألة مصيرية ليس بالنسبة للنظام الملكي فحسب، بل لعامة الشعب المغربي، وأن المغاربة يدركون بشكل متزايد الأثر الكارثي والمدمر لإطالة أمد هذ النزاع على حاضر ومستقبل البلاد.
على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، كان هناك اتفاق ضمني بين المغرب وإسبانيا تم على أساسه إعطاء الأولوية لتعزيز المصالح الاقتصادية والأمنية ووضع القضايا الخلافية مثل سبتة ومليلية جانباً، مما دفع إسبانيا إلى اتخاذ موقف الحياد الإيجابي بخصوص الصحراء. إلا أن تغريدات إغليسياس المعادية للمغرب والتفاعل السلبي لحكومة مدريد مع القرار الأمريكي بالاعتراف بمغربية الصحراء، قد أدى إلى نسف ذلك الاتفاق الضمني.
وكلما تعزز الإجماع الدولي حول ضرورة التوصل إلى حل سياسي مبني على مقترح الحكم الذاتي المغربي، ومع ارتفاع وتيرة الدول التي تعترف بشكل واضح بسيادة المغرب على الصحراء من خلال فتح قنصلياتها، ارتفع سقف انتظارات المغرب من حلفائه الرئيسيين لاتخاذ قرارات تتماشى مع هذا الإجماع الدولي.
إن استقرار إسبانيا وأمنها، فضلاً عن نجاح استراتيجياتها الخاصة بالهجرة ومكافحة الإرهاب، يعتمد إلى حد كبير على تعاونها الوثيق مع المغرب. وعلى مر السنين، بذلت الرباط جهوداً كبيرة لمساعدة مدريد على الحد من تدفق المهاجرين غير الشرعيين، فضلاً عن منع وقوع عدد من الهجمات الإرهابية على الأراضي الإسبانية.
لهذا السبب وغيره، ينبغي أن يكون لإسبانيا موقف واضح بشأن الصحراء؛ إذ لم يعد بوسعها الاستمرار في تكرار أن الرباط ومدريد تتمتعان بعلاقات “ممتازة”، بينما تتهرب من مسؤوليتها في النزاع ولا تتحلى بالشجاعة والواقعية لتقديم دعم ضمني للموقف المغربي. وكما تدافع إسبانيا بشراسة عن مصالحها الاستراتيجية، يعمل المغرب جاهداً للحفاظ على مصالحه، وخاصة وحدة أراضيه غير القابلة للتفاوض.
على إسبانيا أن تأخذ هذا الواقع بعين الاعتبار وأن تُراعي توقعات المغرب من خلال إبداء تفهم واحترام لرغبته في الحفاظ على وحدته الترابية. إن الكرة الآن في ملعب إسبانيا، التي عليها أن تعطي إشارات واضحة للمغرب عن نيتها الصريحة في تحمل مسؤوليتها التاريخية في هذا النزاع، وفي العمل بحسن نية معه لتحقيق الاستقرار والازدهار والسلام والاحترام المتبادل بين الشعبين المغربي والإسباني.
أما بالنسبة لسبتة ومليلية، فإن المستقبل كفيل بتوفير الظروف المناسبة والسياق الزمني المناسب ليقوم البلدان بالتفكير في التوصل إلى حل خلاق وواقعي يمكن أن يحافظ على مصالح كل منهما.