تفاعلا مع حكم المحكمة التجارية القاضي بإدانة المكتب الوطني للسكك الحديدية، وأدائه تعويضا لمسافر جراء الضرر الذي لحقه بسبب تأخر القطار الذي كان سينقله إلى وجهته، أكّد القاضي السابق بالمحكمة الدستورية محمد أمين بنعبدالله وميشيل روسي أن “أشغال صيانة السكك الحديدية هي بالتأكيد مسألة مهمة، لكنها لا تشكل عناصر الحالة الفجائية، كون أن المكتب الوطني للسكك الحديدية هو الذي يتوقعها وينجزها، كما لا تشكل عناصر القوة القاهرة لكون المكتب هو الذي يقرر إنجازها”.
وورد في مقال محمد أمين بنعبدالله وميشيل روسي بعنوان “مسؤولية المكتب الوطني للسكك الحديدية عن تأخير نقل المسافرين”، ترجمه الكاتب عبد السلام التواتي، أن “المسؤولين عن تدبير مرفق النقل لا يمكنهم تجاهل أن الخلل الممكن حدوثه في عمل واشتغال هذا المرفق الذي يشرفون عليه، أو عدم احترام مبدأ واجب بلوغ الهدف المتعاقد بشأنه تجاه المرتفقين، أمر سيؤدي حتما إلى إثارة مسؤولية هذا المرفق وإدانته”.
وهذا نص المقال:
أدانت المحكمة التجارية بالدار البيضاء، من جديد، المكتب الوطني للسكك الحديدية عبر تغريمه بأداء تعويض لمسافر جراء الضرر الذي لحقه بسبب تأخر القطار الذي كان سينقله إلى وجهته.
في هذه القضية الجديدة، فإن المسافر الذي كان متوجها إلى مطار محمد الخامس من أجل رحلة إلى كندا بهدف حضور ملتقى بصفته ممثلا للمجتمع المدني، تأخر عن موعد رحلته، الشيء الذي جعله مرغما على تأخير رحلته إلى اليوم الموالي بعد استبدال تذكرته، وهو الأمر الذي تعذر معه حضور المسافر المذكور لليوم الافتتاحي للملتقى المذكور ولجلسته الافتتاحية.
علاقة بهذا، واستنادا إلى مقتضيات المادة 479 من مدونة التجارة، التي تنص على أنه “إذا تأخر السفر فللمسافر الحق في التعويض عن الضرر”، استنتجت المحكمة أن هذا المقتضى من مدونة التجارة يحتم على الشركة المكلفة بالنقل من بلوغ الهدف المتعاقد بشأنه، وأن هذه المسؤولية لا يمكن التبرؤ منها إلا عند ظهور قوة قاهرة أو حالة مفاجئة، حسب مقتضيات المادة نفسها من مدونة التجارة.
في المقابل، يتبين أن المكتب الوطني للسكك الحديدية، ومن أجل استبعاد مسؤوليته في هذا الصدد، دفع بأن التأخر المذكور نتج عن المسؤولية الملقاة على عاتقه، والمتعلقة بأشغال صيانة السكك، مما يجعل هذا التأخر في ظل هذه الظروف أمرا طبيعيا.
ارتباطا بهذا، فإن المحكمة، في هذه النازلة، استبعدت الدفع المذكور، معللة ذلك بكون أنه بالرغم من أهمية أشغال الصيانة غير القابلة للنقاش، فإن هذه الأشغال لا تشكل عناصر القوة القاهرة غير المتوقعة التي لا يمكن تفاديها، ولا عناصر الحالة الفجائية، وهي الأسباب الوحيدة التي يمكن اعتمادها من أجل الإعفاء من المسؤولية الملقاة على عاتق شركة النقل، إضافة إلى خطأ الضحية، وهي الأسباب الحصرية المحددة من طرف المشرع في نازلة الحال.
****
إن الحكم سالف الذكر يمكن تقريبه من حكم سابق للمحكمة التجارية بالرباط مؤرخ في 14 يناير 2019، ففي هذه القضية المشابهة التي ألحق فيها التأخير ضررا بأحد المرتفقين، قررت المحكمة إدانة المكتب الوطني للسكك الحديدية وتغريمه تعويضا عن الضرر الذي لحق الضحية جراء تأخيره اليومي عن العمل.
وفي هذه النازلة، فإن المرتفق، الذي يقطن بمدينة مكناس، لحقه ضرر كبير جراء تأخيره المتكرر على الخط الرابط بين مكناس والدار البيضاء، وهو الخط الذي كان يستعمله من أجل متابعة دراسته الجامعية بالدار البيضاء.
فأشغال صيانة السكك الحديدية هي بالتأكيد مسألة مهمة، لكنها لا تشكل عناصر الحالة الفجائية، كون أن المكتب الوطني للسكك الحديدية هو الذي يتوقعها وينجزها، كما لا تشكل عناصر القوة القاهرة لكون المكتب هو الذي يقرر إنجازها، وبالتالي فإن هذه الأشغال لا يمكن أن تكون سببا خارجا عن إرادة المكتب ولا حدثا غير متوقع وغير قابل للتفادي.
إن مثل هذه القرارات تكتسي أهمية بالغة لكونها تتعلق بسير المرفق العمومي وبأحد المبادئ الرئيسية التي يرتكز عليها هذا المرفق، وهو مبدأ الاستمرارية، الذي لا يعني فقط العمل بدون انقطاع، وإنما يعني أساسا العمل بانتظام واطراد. وفيما يخص نقل المسافرين، فإن اشتغاله يجب أن يتسق وفق ما هو مبرمج سابقا، حيث يجب على الشركة المكلفة بالنقل احترام توقيت الوصول، وبالتالي ليس من حقها التحجج بوسائل ضرورية من أجل التملص من مسؤوليتها، حيث الخضوع لحتمية بلوغ الهدف، وهي المسؤولية التي لا يمكن الإعفاء منها إلا ضمن ما هو مقرر في المادة 479
من مدونة التجارة، ذلك أن التعويض عن الضرر لا يمكن تفاديه إلا إذا نتج التأخير عن حالة مفاجئة أو عن قوة قاهرة.
وبالاحتكام إلى بعض القرارات الحديثة للقضاء الفرنسي، يتضح أن هذه القاعدة سارية المفعول حتى خارج تراب المملكة.
******
في فرنسا كما في المغرب، فإن هذه الدعاوى تدخل ضمن اختصاص القضاء العادي بالنظر إلى الطابع الصناعي والتجاري للشركة الوطنية للسكك الحديدية.
وعلاقة بهذا أصدرت محكمة الاستئناف بباريس قرارا بتاريخ 4 أكتوبر 1996 يقضي بفرض تعويض عن الضرر في مواجهة الشركة الوطنية للسكك الحديدية، بعض إثبات مسؤولية الشركة جراء التأخيرات المتكررة.
وفي الاتجاه نفسه، وفي قرار آخر مؤرخ في 22 سبتمبر 2010، أثبتت المحكمة ذاتها هذه المسؤولية بمناسبة تأخير بسيط.
فالمشتكي الذي كان محاميا في هذه الواقعة، كان يريد التنقل عبر الشركة الوطنية للسكك الحديدية من أجل الترافع أمام المحكمة الإدارية، من خلال التنقل أولا من منزله إلى محطة القطار LYON بباريس، ثم بعدها إلى مدينة NIMES عبر قطار آخر، حيث يتوفر هذا المحامي على 19 دقيقة حسب التوقيت المعتمد من طرف الشركة قصد تغيير القطار في المحطة نفسها، غير أن هذا التغيير لم يحصل جراء تأخر القطار الأول بسبب خلل في آلية تغيير السكة، وهو الخلل الواجب تحمل نتائجه من طرف الشركة الملزمة باحترام الوقت كنتيجة لازمة طبقا للمادة 1147 من القانون المدني، حيث تتحمل الشركة المسؤولية التقصيرية كاملة لأن سبب التأخر الناتج عن خلل في منظومة التغيير لا يشكل قوة قاهرة ولا عنصرا مفاجئا ولا حتى خطأ ناتجا عن المرتفق، هذا السبب الأخير الذي دفعت به الشركة لكون المسافر لم يتحرّ الدقة في اختيار القطارات التي لها هامش 19 دقيقة كفارق بين محطة الوصول وإقلاع القطار الموالي.
إن هذا الموقف المعبر عنه من طرف الاجتهاد القضائي الفرنسي تم تأييده بواسطة قرار للغرفة المدنية الأولى بمحكمة النقض بتاريخ 14 يناير 2016، حيث تتجلى أهمية هذا القرار الحديث في كونه يكرس واجب الأمن واحترام الوقت من طرف شبكة النقل.
فالمحكمة العليا في هذه النازلة لم تأخذ بالدفع المقدم من طرف الشركة، والمتعلق بالإصلاح التقني لتأمين سلامة المسافرين كسبب موضوعي في التأخر، حيث خضوع الشركة لواجب إيصال المسافرين لوجهاتهم حسب التوقيت المبرمج كنتيجة لازمة، وهذه المسؤولية الملقاة على عاتق الشركة لا يمكن إعفاؤها منها إلا إذا ظهرت ظروف غير متوقعة لا يمكن تفاديها.
والحقيقة في هذه القضية أنه بالرغم من أهمية أشغال الصيانة التي تقوم بها الشركة الوطنية للسكك الحديدية من أجل تأمين سلامة المسافرين، فإن الشركة، حسب قرار المحكمة العليا الفرنسية، لم تثبت الصفة غير المتوقعة لهذه الأشغال، التي لا يمكن تفاديها، وبالتالي فإن دفع الشركة المتعلق بواجبها المتمثل في تأمين سلامة المسافرين لا يمكن اعتماده كأساس لتبرير تأخيرات هذه الشركة، والذي يشكل تقصيرا في مسؤوليتها التعاقدية تجاه المسافرين.
وفيما يخص المرتفق، فمن واجبه طبعا في نازلة الحال، أن يبين أهمية وواقعية الضرر الذي لحقه، وهو الأمر الذي يتحقق في كل هذه القضايا المدروسة.
*****
إن الخلاصة التي يمكن استقاؤها في مختلف هذه القضايا، سواء في المغرب أو في فرنسا، كونها ستساهم لا محالة في ترسيخ حكامة المرفق العام، فالمسؤولون عن تدبير مرفق النقل لا يمكنهم تجاهل أن الخلل الممكن حدوثه في عمل واشتغال هذا المرفق الذي يشرفون عليه، أو عدم احترام مبدأ واجب بلوغ الهدف المتعاقد بشأنه تجاه المرتفقين، أمر سيؤدي حتما إلى إثارة مسؤولية هذا المرفق وإدانته، وبالتالي فإن هذا الأمر سيساهم طبعا في إعطاء الأهمية اللازمة لهذا المرفق ولظروف اشتغاله من أجل المصلحة الكبرى للمرتفقين.