قال الشاعر والناقد أحمد العمراوي، الكاتب العام لفرع اتحاد كتاب المغرب بالرباط، إن “الثقافة تأثرت أكثر من غيرها على المستوى العالمي بالاجتياحات المتتالية لكوفيد 19، إذ أغلقت المسارح ودور العرض، ومازالت الأنشطة الثقافية الحضورية معلقة من معارض للفنون والكتاب، ومن ندوات ومؤتمرات ثقافية”، مشيرا إلى أن “لغة الجسد تقلصت، وهي لغة حارة تحقق التواصل بأزيد من 70% مقارنة بلغة الكلام”.

وأضاف المتحدث ذاته، في مقال له بعنوان “التغيرات الثقافية في زمن الكوفيد المعظم..التواصل الثقافي البارد”، أننا “أصبحنا نتحدث من وراء حجاب حتى في اللقاءات المباشرة بحجب الفم والوجه بكمامة يُغرم من تجاهل ارتداءها..في تباعد مفروض للمحافظة على الذوات الجماعية ومن أجل بقاء فرضته السلطة الجماعية”.

وأشار العمراوي، المختص في المحترفات الكتابية وصعوبات التعلم و”الكوتشينغ” المدرسي، إلى أن “المثقف، والشاعر منه على وجه الخصوص، يحتاج إلى الصراخ في هواء طلق أو داخل قاعات مملوءة بجمهور ينتظر وينصت بشغف لإلقائه”، مشيرا إلى أن “الباث يحتاج إلى نظرات الآخرين، إلى تحريك الرأس، إلى تصفيقات حارة تصل إلى الأذن وتحقق متعة تدخل الذات وتحق الاستمرارية في الكتابة والإبداع”.

وهذا نص المقال:

1

هل تُغيِّر الثقافةُ العالمَ حالياً أم هل سيغيِّر العالمُ الثقافةَ؟ سؤال عريض يصعب الإلمام بمفاهيمه الأساس بحكم التغيرات المفاجئة الّتي حصلت على التواصل عالمياً ومحلياً. الثقافة. العلم. التواصل. التغيرات. كل مفهوم يرتبط بمحليته بما أن الثقافة العالمية ليست سوى ثقافة المحلي في الأصل. هذا على الأقل ما علمتنا التجارب الثقافية في الأدب والعلوم الإنسانية منذ غابرييل غارسيا ماركيز ونجيب محفوظ ومحمد شكري وآخرون كثر. فلكي تكون عالمياً عليك أن تكون محلياً أولاً، وبعدها يحصل الانتشار الكبير عالمياً.

تَحدثُ الحيرة مع هذا التحوّل الكبير الّذي لحق بالعالم كله طيلة سنة 2020. سنة الجائحة، والجائحةُ هي كل ما يأتي على الأخضر واليابس مادياً ومعنوياً، فما الّذي تغيّر في الفكر والواقع خلال هذه السنة؟

تأثرتِ الثقافةُ أكثر من غيرها على المستوى العالمي بالاجتياحات المتتالية لكوفيد 19. أُغلقت المسارح ودور العرض، ومازالت الأنشطة الثقافية الحضورية معلقة من معارض للفنون وللكتاب، ومن ندوات ومؤتمرات ثقافية. تقلصت لغة الجسد. لغة حارة تحقق التواصل بأزيد من 70% عن لغة الكلام. لقد أصبحنا نتحدث من وراء حجاب حتى في اللقاءات المباشرة بحجب الفم والوجه بكمامة يُغرم من نجاهل ارتداءها. تباعدٌ مفروض للمحافظة على الذوات الجماعية ومن أجل بقاء فرضَتْه السلطة الجماعية. والكائن الفردي الذي قيل عنه من زمان إنه كائن اجتماعي سيُعوِّض اجتماع العمران باجتماع الآلات الجديدة. اجتماعٌ عن بعد، فهل يمكن أن يكون هناك كائن اجتماعي عن بعد؟

2

عالمٌ افتراضي يعوض عالم اللقاءات المباشرةفي التسوق والتعليم وفي الثقافة. ويحدث التفاعل، ويُصِرُّ المثقف على الحضور عبر المنصات بشكلٍ فردي أو من قبل مؤسسات. تُعقد لقاءات وتتم عن بعد دون كمامات، واللمس لا يحدث إلا عبر الآلة. آلةٌ باردةٌ لا تحقق تقاطعَ الأنفاس وحرارتها مباشرة. تعويض ضروري قد يدق ناقوس الخطر بالنسبة للتواصل التقليدي الذي تتقارب فيه الأجساد لحد تبادل القبل والعناق وتلاقي الأيدي.

3

وطنٌ جديد يسعُ الجميع، هذا هو الظاهر، إلا أن الكاتب والشاعر والمثقف عامة في حاجة للآخر. آخر هو من يؤشر على مصداقية الباثّ. المتلقي ضروري فهل يعوض الوطن الجديد الافتراضي الوطن الجسدي الحضوري؟

يحتاج المثقف والشاعر منه على وجه الخصوص إلى الصراخ في هواء طلق أو داخل قاعات مملوءة بجمهور ينتظر وينصت بشغف لإلقائه. الباثُّ يحتاج لنظرات الآخرين، لتحريك الرأس، لتصفيقات حارة تصل الأذن وتحقق متعةً تدخلُ الذّات وتحق الاستمرارية في الكتابة والإبداع. هي الزاد الذي يمد الكاتب بالقوة. يحدث هذا في زمن الكوفيد ولكن عن بعد. قد تتعطل الآلة الناقلة للتواصل في أوج نشوة التلقي مما يجعل الشاعر الحساس الشّاك يربط الأمر بالمؤامرة. مؤامرة عالمية ضد الشعر والثقافة والكتابة، فمهما كان التعويض فهو لا يشكّل إلا حلاًّ مؤقتاً، إذ لا بد من تبادل الأنفاس الحارة بشكل مباشر.

4

أمسياتٌ شعرية يتقوت بها المؤلف المثقف الشاعر الفنان. أمسياتٌ حضورية ستُعوَّض بأمسيات من نوع جديد، فالافتراضي الإلكتروني يعوض الحضوري للضرورة التي قد تصبح هي الأصل لا المعوِّض. هل يتم كل هذا من أجل المحافظة على سلامة الجسد من الاختلاط؟ قد يسلم الجسد في حالتنا هذه ولكن النفسية ستصاب بالإحباط وربما بالاكتئاب، أمسيات جديدة لا يظهر فيها إلا ما تريده الآلة أن يظهر لك. لا أحد يمنعك بالخروج من القاعات الافتراضية، فالمتحكم هو المتلقي لا الباث. لقد تمت بالفعل أمسيات افتراضية دعت لها مؤسسات وجمعيات ثقافية في المغرب وفي كل أنحاء العالم، ولكنني أكاد أجزم بالنسبة للمغرب وفي اللقاءات الثقافية التي تمت أن نسبة عالية منها كان فاشلاً على مستوى التفاعل التواصلي الحقيقي ما دامت الآلة هي المتحكم لا الجسد، وما دام الجسد في صراع مع الكوفيد الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.

5

وتأتي الجائحة. وتكون هي السبب في كل هذا. جائحةٌ لا حدود لها دفعت الناس لتغيير عاداتهم مع أنفسهم أولاً قبل تغييرها مع الآخرين، أقرباء أو أباعد. الكل رهين محبسه الضروري، حيث من الحسنات اختصار مسافة التنقل للقاء قد يتجاوز الحدود المفروضة على المجتمعات. ولكن، كم لقاء تواصلياً إلكترونياً تم بين أفراد مجتمعات مختلفة اللغة والثقافة والعادات؟ إذا استثنينا ما يتم عبر منصات التواصل الخاصة بالأمم المتحدة أو عبر تواصل إعلامي بين الدول في قضية جديدة طارئة، فلا شيء حدث على مستوى الثقافة، وكأن قدر الثقافة هو التواصل المباشر لا غير.

لقد أصبحت الثقافة أكثر محلية وكأنها عادت لحالتها الأصلية. أصبح المثقف المحلي يسعى بكل الوسائل لبث صوته للآخرين، صارخاً: ما زلت هنا، ما زلت أكتب، ما زلت أفكر في قضايا المجتمع والذات والناس، ورغم ذلك نتساءل: كم فرداً تابع لقاءات شعرية مثلاً، تمت عبر منصات معينة؟ أكاد أجزم أن الحضور الافتراضي كان معدوداً على رؤوس الأصابع. حضور اللقاءات عادة يتم لحاجة. حاجةُ لقاء بالآخر بشكل مباشر لتوقيع كتاب، للحديث بشكل مباشر بين مثقف وقارئه، لأخذ صور ستنشر عبر الشبكات التواصلية، وهذه الآلات الباردة ستعوض ما لا يعوض، فهل تحتاج هذه الآلات الإلكترونية لروح لتؤثر أكثر؟ علما أن هذه الآلات قد زادت في عزلة الكاتب وانطوائه.

هي الجائحة إذن التي تأتي على النفس والنفس. وقد أخر التواصل الإلكتروني المسمى عن بعد الجائحة قليلاًوانتشارها ولكنه لم يقض عليها لحد الآن.

6

2020 بصفريها ورقميها المزدوجين مرت ولم تمر. مرت في الزمن ولكنها لاصقة في نفسية المثقف ويصعب التخلص من تبعاتها إلا بمجهودات فردية وصبر جماعي يحمل يقين الانتصار، ومع ملامح القضاء على الجائحة من طرف العلماء لا المثقفين، قد يبدو ضوء ضئيل في الأفق سيجعل الكاتب والشاعر متأملاً. يقف في المشهد يسترجع كل الانكسارات، ويحصي خساراتها باحثاً عن ربح آخر. ربح تواصلي، سيتم حتماً من طرف الشاعر. أليس الشاعر هو آخِرُ من سيبقى على وجه الأرض كما عبر عن ذلك سيجموند فرويد ذات زمن؟

hespress.com