أكدت الإحصائيات المتعلقة بجرائم العنف التي جرت خلال الأشهر الأخيرة وجود اتجاه مقلق، وهو أن معدلات جرائم القتل في الولايات المتحدة كانت آخذة في الارتفاع عام 2020، وذلك بعد فترة طويلة من تراجعها.

وذكرت وكالة “بلومبرغ” للأنباء أن المؤشرات المبكرة تشير إلى استمرار ارتفاع تلك المعدلات في الولايات المتحدة، إذ أعلنت الكثير من المدن تسجيل ارتفاع جديد في معدلات جرائم القتل مطلع عام 2021.

ويرى الكثير من المحللين أن السبب وراء ارتفاع حجم أعمال العنف يعود إلى تفشي وباء كورونا، بينما يعزو آخرون الارتفاع الكبير إلى الرقم القياسي الذي سجلته عمليات شراء الأسلحة، أو الادعاء بأن الاحتجاجات ضد وحشية الشرطة أدت إلى تقويض تطبيق القانون بصورة فعالة، ما فتح الباب أمام الفوضى.

وتعتبر تلك الحجج مضللة، فإذا استرشدنا بالماضي سنجد أن أصحابها مخطئون، إذ إن الارتفاع في معدل جرائم القتل هو على الأرجح ناتج عن أمر آخر تماما، وهو انعدام الاستقرار السياسي.

وسعى المؤرخون منذ فترة طويلة إلى تفسير سبب عدم ثبات معدلات جرائم القتل، وارتفاعها وانخفاضها على مر الأزمنة. لقد كان ذلك صحيحا في الدول الأوروبية، وكذلك في الولايات المتحدة، حتى وإن كانت كل دولة سجلت معدلات مختلفة في أوقات مختلفة.

وتشير “بلومبرغ” إلى أن هناك أمرا واحدا ثابتا بين كل تلك الفوضى، وهو أن جرائم القتل داخل الأسرة – وهي تلك التي تتضمن ممارسة العنف بين الزوجين والنزاعات العائلية – نادرا ما تؤدي إلى ارتفاع المعدل العام لجرائم القتل.

وبدلا من ذلك فإن السبب عادة ما يكون زيادة معدل أعمال العنف بين البالغين من غير الأقارب. وقد تحولت فجأة الخلافات البسيطة بين الأصدقاء والمعارف والغرباء، التي كان يتم حلها في الماضي بطرق سلمية، إلى حوادث مميتة. ولكن لماذا حدث ذلك؟.

كان عدد قليل من الباحثين المعنيين بمعدلات جرائم القتل عبر التاريخ، من أمثال روجر جولد وجاري لا فري، توصلوا إلى نتيجة مماثلة – وإن كانت مذهلة – في تسعينيات القرن الماضي. وكانت النتيجة أن “ثقة الأشخاص في المؤسسات السياسية وفي بعضهم البعض مرتبطة ارتباطا وثيقا بمعدلات جرائم القتل”.

من جانبه، أكد عالم الاجتماع روجر جولد أنه تقريبا كل معدلات الارتفاع التي طرأت على جرائم القتل في فرنسا خلال القرن التاسع عشر كانت مرتبطة بفترات من انعدام الاستقرار السياسي؛ وفي الوقت نفسه وجد أن معدلات جرائم القتل ارتفعت أيضا في أجزاء من فرنسا بعيدة عن اندلاع الاضطرابات الثورية الفعلية؛ وببساطة، لقد كان العيش في ظل وجود انهيار سياسي كافيا لرفع معدلات جرائم القتل.

من ناحية أخرى، توصل الباحث جاري لا فري إلى أمر مشابه في الولايات المتحدة خلال فترة ما بعد الحرب، ولاحظ أنه بينما توصل علماء الاجتماع إلى كنز دفين من البيانات الإحصائية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فإن هناك متغيرين اثنين فقط أظهرا وجود اتساق وترابط مع ارتفاع معدلات جرائم القتل وانخفاضها.

وقد كان كلاهما مقياسا لنسبة الثقة في الحكومة، إذ تم طرح أسئلة على مجموعة من الأشخاص الذين شملهم البحث حول ما إذا كانوا يعتقدون أن حكومتهم سوف تقوم بالشيء الصحيح، وما إذا كانوا يعتقدون أن معظم مسؤولي الحكومة صادقون. وعندما تراجعت نسبة الثقة في الحكومة، ارتفع معدل ارتكاب جرائم القتل.

ثم تأزمت كل الأمور خلال الأزمة الإقليمية، وفي النهاية اندلعت الحرب الأهلية. وقد كانت هذه الكارثة دليلا على اختلاف الولايات المتحدة عن الدول الأوروبية؛ فبينما خاضت دول في أوروبا حروبا مع بعضها البعض بصورة متكررة، كانت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي انزلقت إلى حرب أهلية بين الأشقاء بهذا النطاق الهائل.

ومع ذلك فقد انخفض معدل القتل في أمريكا في نهاية الأمر بحلول السبعينيات من القرن التاسع عشر، ولكنه ارتفع من جديد بحلول نهاية القرن نفسه. وظل المعدل يرتفع ويهبط منذ ذلك الوقت، على الرغم من أنه ظل دائما أعلى مما كان عليه في أي دولة أخرى من الدول الغنية والمتقدمة.

ولم يزعم أي من هؤلاء الباحثين أن الاستقرار السياسي مفيد في حد ذاته. بعبارة أخرى، غالبا ما كان الاستقرار يتحقق من خلال أشكال من التضامن الذي كان يتسم بالإقصاء، إذ إن تراجع معدل جرائم القتل في أمريكا الاستعمارية كان ناتجا بصورة جزئية عن عثور المستوطنين الأوروبيين على التضامن مع بعضهم البعض، على أساس العرق.

hespress.com