“إنك رأيت الصورة ولكنك غفلت عن المعنى”
هو محمد بن بهاء الدين محمد بن حسين بن أحمد الخطيبي، ينتهي نسبه إلى الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولد في بلدة بلخ في خراسان (أفغانستان حاليا) في سنة 604هـ/1207م، لأسرة جمعت بين الوجاهة والعلم، فمن جهة كان أبوه فقيها وشاعرا وواعظا صوفيا حرص على تنشئة ابنه على الزهد والورع والتقوى، ومن جهة أخرى كانت أمه مؤمنة خاتون، أميرة من خوارزم وقد غرست في نفس ابنها حب الجمال ولقنته مبادئ الموسيقى.
لم يحد جلال الدين عن خط الترحال والسفر، فبسبب الاجتياح المغولي هاجرت أسرته وهو صغير إلى نيسابور، حيث أسعفه الحظ بلقاء الشاعر الصوفي “فريد العطار” الذي أهداه ديوانه “أسرار نامه” فكان بمثابة تأشيرة له نحو اقتحام عوالم الشعر والتصوف. وبعد نيسابور هاجرت عائلة الرومي إلى الشام، حيث التقى في دمشق بالشيخ الأكبر ابن عربي، ثم جاز إلى مكة المكرمة للحج لينتهي به المقام بالأناضول وبالضبط في قونية عاصمة السلاجقة، وهناك اشتغل الأب أستاذا ومرشدا روحيا ليخلفه ابنه جلال الدين بعد وفاته.
وفي نفس المدينة (قونية) هيأ له القدر لقاء الشاعر الصوفي شمس الدين التبريزي، فنشأت بين القطبين صداقة استثنائية لتقارب كيمياء روحيهما الباحثتين عن نشوة الاتصال بالمطلق، لدرجة أن تلك الصداقة كانت مثار حسد بعض المريدين، ومن شدة إكبار جلال الدين الرومي لصديقه التبريزي وحبه له، أنه حزن حزنا كظيما إثر وفاته (أو اغتياله كما تزعم بعض المصادر)، وقد تجلت تلاوين هذه العاطفة الجياشة تجاهه في ديوانه المسمى بـ “ديوان شمس التبريزي أو الديوان الكبير”.
أثنى الكثير من الدارسين على جلال الدين الرومي وإبداعه، خاصة المستشرقين منهم، فهذا “رينولد نيكلسون” الذي تولى ترجمة كتابه الشهير “المثنوي” إلى الإنجليزية يعده “أعظم شاعر صوفي في الإسلام “، يقول عن صوفيته:
“وشعره لا يقتبس صورة تأملات أصحاب نزعة وحدة الوجود، بل إن وحدة الوجود عنده، قد استولت عليها حرارة الإيمان والتهاب العاطفة، وكلاهما يحول التفكير النظري التأملي إلى صوفية”. اصطنع الرومي عدة وسائل تعبيرية للوصول إلى الله، منها الشعر والذكر والموسيقى، فالنسغ الروحي الذي يسكن الموسيقى هو ما يسعف المريد في التعرف على الذات الإلهية والانجذاب إليها، خاصة إذا ما صاحبت هذه الموسيقى طقوس الرقص الدائري.
إن شاعرنا الصوفي ابن الرومي، وإن كان -بحسب جان شوفليي- لم يضف إلى الصوفية عناصر مذهبية جديدة، فإنه أترعها بأشعار خالدة ذات نفس غنائي مؤثر، مما حذا بالبعض إلى مقارنته بالشاعر الإنجليزي ملتون وبالشاعر الفرنسي فيكتور هيغو.
ومن مصنفات جلال الدين الشهيرة نذكر: الرباعيات – ديوان الغزل – مجلدات المثنوي الستة… وهي المصنفات التي كان لها تأثير بالغ في الآداب التركية والعربية والفارسية والأردية مثلما أسهمت في تطور التصوف الإسلامي شكلا وجوهرا، وتبقى الطريقة المولوية (نسبة لمولانا الرومي) وإشعاعها في العالمين العربي والغربي حتى يومنا هذا أكبر دليل على ذلك.
لم يقف تأثير جلال الدين الرومي عند هذا الحد، بل إن مؤلفاته تمت ترجمتها إلى العديد من اللغات وامتد سحرها إلى الموسيقى، فوجدنا مشاهير نجوم موسيقى البوب (مادونا) يغنون أشعاره، كما اتخذت أشهر رواية تركية – وهي “قواعد العشق الأربعون” للكاتبة التركية إيلاف شفيق – سيرته الذاتية خلفية لها ومتحت أحداثها من تجاويفها.
انتقل جلال الدين إلى جوار ربه سنة 1273م، وأصبح قبره مزارا إلى يومنا هذا، فلتتنزّل عليه الرحمات.