عندما وضع المغرب الحجر الأساس للقطار فائق السرعة سنة 2011، وكان وقتها حلما لا يستطيع أحد التفكير فيه نظرا لتزامنه مع حراك شعبي، كتب كاتب فرنسي بعدها عما سماه “القطار فائق الإفلاس”، ليخلص إلى القول بأن “القطار السريع يمشي في بلاد الجِمال والحمير والعربات المجرورة في المدن منظر لم يسبق أن رآه أحد”؛ ولكن المعجزة حصلت فعلا، وها هو القطار فائق السرعة يطوي المسافات يوميا بين الدار البيضاء وطنجة في وقت قياسي في انتظار تمديد الخط نحو الأقاليم الجنوبية.

القطار السريع هو مبادرة ملكية، وكثيرة هي المبادرات الملكية التي تفوق من حيث سرعتها سرعة السياسيين المنشغلين بحسابات حزبية ضيقة، وجلهم يستفيدون من هامش الرخاء الذي توفره المبادرات الملكية، مع العلم أن هؤلاء المستفيدين لا يتحملون أية مسؤولية إذا ما تعلق الأمر بخسارة شعبية أو مغامرة سياسية، وكأنهم خلقوا فقط ليفترسوا.

اليوم، وبمناسبة الحديث عن الاستعدادات الانتخابية، فإن الالتفاتة إلى الحقل الحزبي الهش تفرض نفسها في ظل سيطرة أقليات دكتاتورية على المشهد السياسي المغربي الذي لا يعكس الواقع؛ بداية بالحزب الأول القائد للأغلبية الحكومية الذي يكتفي بتجنيد قواعده، ونهاية بالحزب الذي لا قواعد له. وكلا النوعين من الأحزاب لا علاقة لهما بـ”الأغلبية الصامتة من الشعب”، والتي تكتفي باستنكار التهافت على الريع السياسي.

في المغرب، تلتقي كل المشاريع السياسية في تقسيم الكعكة حتى لو كان ذلك على حساب الشعب، ولو بجمع المتناقضات؛ فكل من “الإخوان” و”اليساريين” والعلمانيين… استطاعوا التحالف داخل حكومة واحدة بدعوى الديمقراطية، بعدما قدم كل واحد منهم ناخبيه قربانا للمناصب الوزارية والامتيازات المرافقة لها؛ لكن ازدواجية الشخصية تحولت إلى عائق للتنمية، والكل يتذكر البلوكاج الحكومي الذي لعب فيه سياسيون معروفون دورا كبيرا، فكانت “النتيجة الإخوانية” هي التضحية بعبد الإله بنكيران والقبول بالشروط نفسها التي فرضت على رئيس الحكومة السابق.. المهم هو البقاء في الحكومة والاستمرار في البكاء..

هكذا، تحولت الأحزاب إلى عائق بين قائد الدولة وشعبه، بعد أن تحولت “الوساطة” التي تلعبها إلى آلية لابتزاز النظام والشعب.. هل من المعقول أن “يستولي” حزب العدالة والتنمية على الحكومة، ديمقراطيا، دون أن يكون له امتداد في احتجاجات الشارع، لولا أن “السياسة هي فن الابتزاز”؟.. ولنفترض أن النظام تنازل عن الكثير من صلاحياته لمعشر الأحزاب، ألم يقل بنكيران، في وجه الذين كانوا ينتظرون منه تنزيل الدستور الجديد: “أنا مجرد رئيس حكومة”، بينما رئيس الحكومة هو الذي يتحمل المسؤولية أمام الشعب.. أليست هذه مناورة وتملص من المسؤولية؟..

الذين يأكلون ويمشون في الأسواق هم أناس مثل الآخرين؛ لكنهم لا يتصورون أنفسهم ضمن مشروع دولة مؤطرة بالقانون، لا تعترف إلا بالحقوق والواجبات، بل يؤمنون بتنسيق مؤقت مع بقايا اليسار الفاشل، في انتظار التهام كافة المؤسسات، وعندها لن يكون أمام المواطنين أي اختيار في مواجهة الأقلية الدكتاتورية التي تسعى إلى التحكم الشامل في السياسة الدنيوية بحسابات الآخرة..

لحسن الحظ أن الدولة المغربية العريقة عصية على الابتزاز السياسي، وإلا لكان التحالف المفضوح بين تيارين لا تجمعهما إلا المصلحة الحكومية قد أفضى نتائج كارثية، بسبب غياب روح المبادرة والتنسيق.. ولا شك في أن أكبر فضيحة للسياسيين ومستعملي الدين في السياسة هي هروبهم من معركة المغرب في مواجهة وباء “كورونا”، وفي مواجهة أعداء الوحدة الترابية.. هل تعتقدون أن تحرير الكركرات تم عبر التقاط صور تذكارية لرموز الأحزاب السياسية في منطقة حساسة؟.. هل يمكن القول بأن اكتساح المغرب لنتائج التصويت في الاتحاد الإفريقي كان وراءه السياسيون؟ الجواب، طبعا، هو: لا..

إن الحديث عن الانتخابات المقبلة، وهو الموضة هذه الأيام، يفرض الوضوح أكثر من أي وقت مضى، والتغيير هنا والآن لا محيد عنه، ومعلوم أن استعمال المعطيات نفسها يؤدي إلى النتائج ذاتها؛ بينما العالم أصبح أكثر وضوحا، إلا في المناطق التي تشكل مرتعا خصبا للتخلف، حيث يتحول الناس إلى حطب، وحيث تتحول المدن إلى مناطق للجوء.. والأكيد أن استمرار الوجوه نفسها يؤدي إلى العزوف عينه..

hespress.com