في الرّابع من شهر يناير من العام الجاري 2021، حلّت الذكرى السّابعة لرحيل الطفلة فاطمة أزهريو التي وافاها الأجلُ المحتوم بالمستشفى الجهوي لمدينة الحسيمة (شمالي المغرب) بعد صراعٍ مريرٍ مع مرض السّرطان، فارقت الحياة وهي لمّا تزل في ربيع العُمر وعزّ الشباب. وقد أكّدت المُؤشرات، في حينه، أن وفاتها كانت نتيجة الإهمال الطبيّ الذي طالها وهي في طور العلاج من هذا المرض اللعين. والله أعلم.

ها هي ذي ذكرى رحيلها تحلّ بيننا، وإليها وإلى روحها الطاهرة، أقدّم هذه الكلمات، وهذه الآهات المنسكبة من مخادع القلوب، والمنهمرة من مآقي ميازيب دموع هؤلاء الذين رافقوها إلى مثواها الأخير.

وفاة هذه الطفلة البريئة في المستشفى الجهوي بمدينة الحسيمة في مثل هذا التاريخ خلّفت حالة غير مسبوقة من الذّعر، والتذمّر، والامتعاض، ولقد أقامت هذه النازلة الدّنيا وأقعدتها، وكانت لها آثار وتداعيات وظلال وخيمة ليس فقط في مدن بني بوعياش، وإمزورن، والحسيمة، والمنطقة برمّتها؛ بل تعدّتها إلى مجموع التراب الوطني، وإلى العديد من البلدان الأوروبية.

هذه الفتاة الطّفلة البريئة التي كانت، قبل أن يداهمها المرض الخبيث، كالفراشة الحائمة تذرعُ شوارعَ مدينتها الآمنة ذهاباً وإيّاباً إلى المدرسة، وهي بَعْدُ في عزّ صحّتها، وبهاء شبابها، ورونق نضارتها، سالمة، غانمة معافاة، ضاحكة، باسمة، هاشّة، باشّة، وبعد ذلك أخذت حياتها طريقاً ذات اتجاهات ملتوية، وسبلاً ذات متاهات منعرجة غير مرغوبة، أصبحت فاطمة تغدو، وتروح بدون انقطاع إلى المستشفيات والمصحّات والمستوصفات، في مدينتها، وفي منطقتها، ثمّ في المدن المجاورة، وبعد ذلك طفقت رحلة المكابدة والمعاناة والعذاب والآلام في كبرى حواضر هذا البلد الأمين، إلى أن اختطفتها يد المنون في عزّ شبابها، وشرخ عمرها، وربيع حياتها، وإشراقة أيّامها، وريعان سنيها، وهي لم تكن قد تجاوزت بعد الرّابعة عشر من عمرها المعنّى. رحلت عن عالمنا قهراً، وقسراً، وغصباً، وعبثاً، واعتباطاً، حتى لو نادى منادٍ، وصاح صائحٌ، أو هتف هاتفٌ من وراء الغيب ليُرجع ما حدث إلى “المقدّر” أو “المكتوب” وإلى حُكم الله وإلى قضائه المحتوم الذي لا مردّ له. فارقت فاطمة المسكينة هذه الدنيا الفانية، وهي بعد تتنسّم أولى نسائم الحياة، وتتسنّم أول سلاليم مداخل ومسالك شعابها المُستعصية، وتتسلّق أخاديد تضاريسها الوعرة. وتهيم في متاهاتها المعتمة، ودروبها الحالكة.

كلّما تجدّدت ذكرى رحيلها ما انفكّت الغصّة عالقة كالعلقم في الحلق، وما برحت الحرقة ملازمة الجوف، ولصيقة بجدران التراقي، وما برح الألم المُمضّ يعصر الأفئدة، كلّ الأفئدة الشّريفة، ويقضّ مضاجعَ القلوب، كلّ القلوب الرّحيمة المحبّة للخير، والبرّ، والإحسان، وما فتئت مأساتها تنهك الأنفس المكلومة، وتنهش الضلوع المعذّبة بدون انقطاع إلى يومنا هذا المشهود، متألمة، متحسّرة، متأوّهة، تائهة، مشدوهة، مندهشة، مذهولة، مروّعة لهول ما حدث، وثقل عبئه على كاهل أهلها، وأخواتها، وأحبّائها، وأحبابها، وذويها، وأسرتها، ومعارفها، وأقاربها، وجيرانها، وصديقاتها، ورفيقاتها في صفوف الدّرس والتحصيل، وأساتذتها، ومعلّميها، وأبناء وبنات حيّها، وقريتها، ومدينتها، ومدشرها، وضيعتها، وجهتها، ومنطقتها، ووطنها الواسع، وبلدها الشاسع الكبير بسكّانه الأوفياء، وأناسه البسطاء، وقاطنيه الطيّبين الذين تضامنوا معها، وتآزروا، وتعاطفوا مع محنتها، ومعضلتها، ومُصابها الجلل بشكل منقطع النظير في مجموع التراب الوطني.

لا بدّ أنّ أهلها ما فتئوا يتذكّرون أنها جاءتهم كوردة نديّة، كباقة عطر طريّة، كملاك طاهر نزلت من السّماء لتغسلَ الأحزانَ، وتزيح الأدرانَ عن أفراد عائلتها، ولتُذهب اللوعة، والأسىَ، والأسيّة، والكآبة، والضنك عن قلوبهم، وأنفسهم. كان يشعّ من عينيها بريق غريب غامض يسطع كالشّرر ذكاءً، وفطنةً، ولبابة، ويقظة، جاءت ضيفة خفيفة الظلّ، حلوة الملامح، دقيقة التقاطيع، بريئة القسمات، جاءت لسنوات قليلة معدودة، ثم إلى السّماء عادت من حيث أتت.

كان أهلها ينظرون إليها، وهي تعاني آلامَ المرض الخبيث، وهي تقاسي تباريحَ الأسى والمعاناة، ثمّ أخيراً وهي تواجه سكرات الحِمام، فكانوا يحدّقون فيها في ذهول، وهم يسألون، ويتساءلون ما بها؟ ولا من مجيب.

كفراشة بيضاء حالمة، كانت تنتقل بين ربوع وأحضان ذويها وأهلها، ثمّ سرعان ما توارت عنهم صغيرة. توارت عن الأنظار وهي بعد طريّة العود، غضّة الإهاب، كما جاءت، فخلّفت وراءها لدى عائلتيها الصغيرة والكبيرة آلاماً كبيرة مبرحة، وكِلاَماً عميقة جارحة غائرة.

من أين جاءت؟ أيّ هراء هذا الذي نراه ونرمقه؟ أيّ عُجب هذا الذي نسمعه ونراه ونشاهده!؟ من أين جاءت؟ وكيف جاءت؟ لماذا جاءت؟ وكيف ذهبت؟ ولماذا ذهبت؟ بهذه السّرعة الخاطفة ذهبت، فخطفت معها البريق من أعيننا، ونزعت السّكينة والطمأنينة عن قلوبنا، وزرعت فيها الحيرة، والقلق، والوساوس، والشكّ، والتساؤل، والشدوه، والذهول. ربّاه أيّ عذاب هذا نسومه، ولكن إنّه حُكمُك، إنه أمرُك، إنه قضاؤك، فلا مردّ له، ولا غالب له أو عليه.

فاطمة، يا نفحة من رياض الخلد هلّت على أهلها في ليالٍ شتوية قارصة قاسية، فمنحتهم الدّفء، والسعادة، والهناءة، والسكينة، والطمأنينة، والوفاء، وبسطت عليهم أردية الجَذل والسرور، وألبستهم ثوبَ الهناءة، وقلّدتهم سربالَ الحبور ولو إلى حين.

يا خليلة الملائكة، وبنت النّور، وتوأمة الرّوح الخالدة، كيف ضنّت عليك وعلى أهلك أيامُك؟ وشحّت عليك وعليهم لياليك؟ كحلم عابر عشتِ بين أناسك، وذويك، ثمّ أهذا هو المآل؟ لقد غاض نبع المُنى في أنفسهم ولم يجدوا للسّعادة بعدك طعماً، ولا للفرح مذاقاً، ولم يكن لهم من المصير المحتوم أيّ ملاذ، ولا هروب، ولا فرار، ولا مناص.

كان قدومكِ إلى ذويكِ عيداً، وأبيتِ إلاّ أن تودّعيهم يوم عيد، حيث الشموع مشتعلة، والقناديل موقدة، والمصابيح مضاءة، وحيث نور الله الوهّاج يسطع في قلوب المؤمنين، وأفئدة القانتين، ويشعّ في دنياه الواسعة، وفى سمائه الشاسعة، وفى كونه الفسيح، وملكوته اللاّنهائي. أنتِ فيهم ما بقوا، أنتِ فيهم ما حيوا، فلئن غاب جسمُك، وتوارى عنهم فرسمُكِ واسمُكِ ساكنان في مخادع كلّ القلوب، وإنّ ذكرياتك الصغيرة الهادئة، ستظلّ عالقة بجدار الذاكرة، وفي أفئدة السّاكنة، وعلى ثبج كلّ لسان، وبين مضغة كلّ جَنان. كلّ من رآك، كلّ من رمقك، وتلظّى بآلامك وتأوّه بعذابك، ستظلّ ذكراك عنده ساطعة ناصعة، حيّة متجدّدة.

أيّ سرٍّ سرمدي أنتِ أيّتها البريئة؟ أيُّ قبسٍ قدسيّ أنتِ أيتها الطاهرة؟ أيّ جُرم مارد حلّ بك؟ أو سَهم مارقٍ أصابك؟ أيّ إعصارٍ عتيٍّ هبّ على حياتك الهادئة الوديعة؟ كيف حاق بك ما حاق بنبيّ الله أيّوب؟ كان البيتُ يفيض نوراً وحبوراً ببسمتك النديّة، الحلوة، وبضحكتك الوردية العذبة، بلغْوِك الطفولي البريء، وبدروسك، وخربشاتكِ الأولى، وبهمساتك الخافتة، وصخبك الصّارخ، وبكائك المرير الكتيم، وعطرك الشجيّ، وطيفك البهيّ، وظلّك النقيّ، وبكلّ ما كان فيك، أو منك، أو لك، أو إليك.

أيّة يدٍ امتدّت إليك من وراء الغيب، واختطفتكِ في لمحٍ من العين، أجاءت لتنتشلك ممّا كنتِ فيه، وممّا كنت تعانينه، وتقاسينه، وتسومينه في دنياكِ من أسىً، ونكدٍ، ومرارةٍ، ومضضٍ، وضنكٍ، وألمٍ، وعذاب؟ سنوات قليلة، معدودة، عِجاف، قاسية، مظلمة، ظالمة، رهيبة هي كلّ نصيبك من هذه الحياة الدّنيا الفانية، أيُّ حيفٍ حاق بك يا “أزهريُو”، يا أختَ النور، وسليلة الزّهو… ويا باقة، ويرقة من عطرٍ طريٍّ، غيبيٍّ، سرمديٍّ، سديميّ.

كضياء الشّمس السّاطعة في يومٍ ملبّد، مكفهرّ، عبوس أطلّت على أهلها، وأخواتها، وذويها، وأصدقائها، وصديقاتها، وزميلاتها في المدينة، والحيّ، والجماعة، والمدرسة، ولكنّها سرعان ما خفتت، واختفت، وتوارت عن أنظارهم جميعاً، وتركتهم في متاهات الغيوم، والظلام، والعذاب المقيم.

كشعاعٍ من قمرٍ مضيئٍ في ليلةٍ شتويةٍ حالكةٍ أنارت دياجيَهم، ثم غابت عن الأنظار بين طيّات السّحب الدّاكنة، المتراكمة، فغاضت الضياء، وخبَا بريقها في أعين وقلوب أهلها، وتلاشى الشّعاع وتبدّد، وضاعت، وتناثرت، وانتشرت أنوارُه في الأفق النّائي البعيد، وتبخّرت، وغابت، وامّحت في سديم الزّمن الغادر الآثم الذي لا يني ولا يرحم.

أيّتها الصّغيرة البريئة قرِّي عيناً في تربتك الفيحاء، وصبراً جميلاً لأهلك، وذويك، ومعارفك، ومدينتك، ووطنك؛ فوالداك جابا بك الدّنيا طولاً وعرضاً، طمعاً في شفاء، أو بحثاً عن ترياق، أو دواء، أو خلاص، أو أمل، فلم يفلحا. أجل والدكِ المُعنّى ووالدتكِ الرّؤوم لم يذوقا طعماً للنّوم والكرىَ، ولا فسحة للرّاحة والهناءة منذ أن داهمك ذلك الدّاء اللعين، ونشبت المنيّة أظافرها في جسدكِ النحيل. كانا ساهريْن، ساهديْن، مُتعبيْن، باكييْن، شاكييْن، متوسّليْن، رافعيْن أكفّ الضراعة والرّجا، داعيْين السّماءَ علّها تتلطّف، وتتعاطف، وترأف، وتخفّف عنك ما ألمّ بك، وحاق بك، وما أصابك، وأخيراً جاء المَنون، لينتشلكِ ممّا أنتِ فيه من عذابٍ مقيم ويسلّمكِ للسّلام الأبدي الخالد.

أيّها الصغيرة البريئة ماذا نملك أن نقول؟ وماذا بقي لنا أن نقول؟ وماذا يمكننا أن نقول؟ وماذا في وسعنا أن نفعل بعد رحيلك؟ عليكِ وعلى روحكِ الغضّة، الزكيّة، الطاهرة ألف رحمة وسكينة.. وسلام إلى يوم تُبعثين.

hespress.com