يرى الوزير السابق لحسن حداد أن أزمة الثقافة في المغرب جعلت المثقف غير مؤثر لا في السياسية ولا على المجتمع، مشيرا إلى أن “الإرهاصات التي شهدناها في الستينات والسبعينات، والتي كان فيها مثقفون يؤثرون في الجامعة وسوق الأفكار وعلى رجال السياسة، صارت في خبر كان الآن”.

ونبه حداد، البرلماني حاليا عن حزب الاستقلال، في مقال له توصلت هسبريس بنسخة منه، إلى “توارى دور المثقف، وأنه أصبح يغرد في واد بينما المجتمع في واد آخر”، منتقدا ما وصفه بـ”انعدام الإشعاع الدولي للمثقف المغربي لأن المؤسسات أهملته، على عكس ما يقع في كثير من بلدان الجنوب، ولأنه لم يواكب قضايا العصر ووسائله في التواصل، ولأنه أصابه الإحباط نتيجة تبخر أحلام الثورة والتغيير ونتيجة تواطؤ النخبة مع الوضع القائم”.

وهذا نص مقال حداد:

لعبت الثقافة في شقيها العالِم والشعبي في مغرب ما بعد الاستقلال، دورا طلائعيا في تأطير النخب والمجتمع. بالموازاة مع الصراع السياسي من أجل الاستقلال ومن أجل السلطة (في فترة ما بعد الاستقلال)، كان هناك زخم ثقافي قِوامه التدافع من أجل استلهام التجارب والنماذج التعبيرية من التاريخ والثقافة الشعبية وتجارب أمم أخرى، وذلك من أجل بناء متخيل، متنوع المواقف، حول الوطن والمجتمع والذات والمجموعة.

هذا الزخم هو الذي طبع الإنتاج المتفرد على مستوى المسرح (الهاوي والمحترف)، والثورة الغيوانية (بمجموعاتها المتعددة)، والإنتاج المعرفي والفلسفي والنقدي للمفكرين الرواد (علال الفاسي، عبد الله العروي، عبد الكبير الخطيبي، فاطمة المرنيسي، محمد عابد الجابري، وغيرهم)، والسينما الطلائعية وتجربة النوادي السينمائية، وخصوصية التجربة الروائية المغربية والشعر المغربي الحديث الثائر في وجه السلف العاشق للقافية والكلام المنظوم، وجمعيات التجديد الثقافي، خصوصا الأمازيغية منها، وتجارب إعادة كتابة الثقافة الشعبية، خصوصا التعبيرات الغنائية والجسدية المتعلقة بالكينونة الهوياتية للمجموعات التي تؤثث الفسيفساء السوسيولوجية والثقافية المغربية متعددة الروافد.

هذا الزخم كاد أن يؤسس لقاعدة انطلاقة ثقافية حقيقية في المغرب، ولكن عملية أدلجة الثقافي التي اعتمدتها النخبة الفكرية آنذاك جعلت التجربة لا تنضج، بل وتوارى زخم الثقافة ما أن تجاوز الفرقاء مرحلة الصراع على السلطة، لتجد الثقافة نفسها يتيمة دون مثقفين ودون فعل ثقافي يؤسس لتعبيرات قوية حول التجربة المغربية يكون لها صيت على المستوى الوطني والدولي.

طبيعي أن تتأثر الثقافة بالإيديولوجيا وتؤثر فيها. والعلاقة فيما بينهما علاقة معقدة، متشعبة ومن الصعب جدا تحديد تمظهراتها المتعددة في منظومة القيم والتعبيرات والتمثلات الثقافية. والإيديولوجيا إما واعية بحمولتها القيمية ذات الأبعاد السياسية أو مُضْمَرة في تعبيرات أدبية وشعبية غير واعية بتمثلها لمنظومة فكرية وقيمية معينة. في المغرب، أثرت الإيديولوجيا بشكل مباشر في التعبيرات الثقافية، خصوصا العالِمة منها. وهذا التأثير أعطى بعدا قيميا للثقافة ذات الحمولة الإيديولوجية أو السياسية المباشرة، وجعل من التعبيرات غير الصريحة (خصوصا التعبيرات الشعبية أو تلك التي لا تمجد الفعل السياسي الصريح) في مواقفها السياسية عبارة عن وعي شقي أو انخراط في نظرة ميتافزيقية للعالم. أدلجة الثقافة خلقت تعبيرات هجينة، ذيلية للمواقف السياسية، خصوصا في خضم الصراع على السلطة إبان العقود التي تلت استقلال المغرب.

في الفكر الماركسي، هناك من يؤمن بأن البنى الفوقية التعبيرية والسياسية والمؤسساتية والمجتمعية هي انعكاس مباشر للبنى التحتية المادية والاقتصادية. هذا ما يسميه فريدريك جيمسون (مستوحيا موقفه من رواد مدرسة فرانكفورت: أدورنو وهوركهايمر وبنيامين) “الماركسية البديلة”. على الطريقة نفسها، فإن من ينتظرون من الثقافة أن تعكس موقفا إيديولوجيا أو سياسيا معينا، يخلقون منها “ثقافة بديلة”، متدنية وهجينة.

لم تكن كل التعبيرات الثقافية العالِمة التي ظهرت في فترة ما بعد الاستقلال هجينة وذيلية، ولكن أغلب النقاش الذي رافق الصراع الثقافي كان يدور حول ضرورة تسييس الثقافي لكي يساهم في الثورة المنشودة أو التغيير المنشود. بل إن النقد الثقافي كان يعطي بعدا قيميا للإشارات السياسية في التعبيرات الثقافية، وهي إشارات ومواقف كانت مطلوبة، خصوصا وأن المؤسسات الثقافية كانت لا تعدو عن كونها مواقع خطابية للقيام بالسياسة بطريقة أخرى.

أزمة الثقافة هي أزمة حدود، أزمة هوية، أزمة استقلالية، وهو ما فوت على الفعل الثقافي في المغرب فرصة التطور والنمو والتأثير وطنيا ودوليا. النتيجة هي محاولات هنا وهناك ومبادرات فردية وجماعية لم تؤسس لصناعة ثقافية لها ضوابطها وقواعدها وديونطولوجيتها وتتفاعل مع السياسة والايديولوجيا والمجتمع من منظور إنتاج التعبيرات وخلق التمثلات في إطار جدلية مستمرة بين حرية التعبير الثقافي وقضايا المجتمع الملحة، الأخلاقية والفلسفية والمعيشية والتاريخية والسياسية والمصيرية.

ترجع أزمة الثقافة إلى سوء فهم لدور المثقف ودور الثقافة، وكذا لعلاقة الثقافي بقضايا المجتمع. مقولة المثقف العضوي التي قال بها غرامشي خلقت انتظارات مغلوطة لدى الكثير من المثقفين والنقاد المغاربة، وجعلت من المثقف فقط أداة للتعبير المباشر عن هموم طبقة أو فئة معينة. بل إن سيطرة تصور سياسي معين في الجامعة وعلى مستوى مؤسسات وفضاءات الإنتاج الثقافي جعلت العضوية مرتبطة بما كان يصطلح عليه آنذاك بـ”الجماهير الشعبية”، وهو مصطلح ينم عن رومانسية ثورية لا أساس سوسيولوجيًّا لها. هذا يعني أن نموذج المثقف العضوي كان مفهوما معياريا ملتصقا بإيديولوجيا معينة دون غيرها. لهذا، فرغم أن بلزاك، مثلا، يعبر عن هموم الطبقة البورجوازية الفرنسية في صراعها مع بقايا الفيودالية وحكم النبلاء في القرن التاسع عشر، فهو من المنظور المعياري الذي قال به نقاد الثقافة المغاربة ليس عضويا، لأن العضوية بالنسبة لهم هي عضوية هذه الفئة العريضة (المتخيلة أصلا) التي تسمى بـ”الجماهير الشعبية”.

من قالوا بأن دور الثقافة ليس هو خلق الثورة ولكن المساهمة في الصراع والزخم الفكري لتمثل أقوى للواقع في كل تعقيداته وللمجتمع في تنوعه وغنى روافده، كانوا قلة قليلة، لأن الكل كان منبهرا بالفن الطلائعي في نسخه السوريالية والتجريدية، وسينما إزنشتاين ومن بعده كودار، والرواية الجديدة الفرنسية المحطمة للنسق والسنن البالزاكي، وبالبريختية كثورة في حد ذاتها في عالم المسرح. كتّاب أمريكا اللاتينية استلهموا هذه الأفكار كذلك ولكنهم سألوا وساءلوا واقعهم، وواقع مجتمعاتهم، وطرحوا سؤال الحداثة في علاقته مع التعبيرات والتمثلات الموجودة في البنيات المجتمعية المكسيكية والكولومبية والشيلية وغيرها، واستطاعوا إنتاج ثقافة مُقَعَّد لها بشكل قوي على مستوى الثقافات المحلية ولكنها عالمية من حيث القضايا التي تطرحها. في المغرب استوردنا الأفكار وفرضناها على الواقع دون مساءلته وتمحيصه وفهمه. لهذا جاءت بعض أفلامنا ورواياتنا ضربا من الطلائعية المثالية التائهة في التجريد وطرح القضايا الاستتيقية التي لا يستوعبها الواقع الثقافي المغربي، لأن ما كان يهم هو تسييس الفعل الثقافي وإعطاؤه بعدا ثوريا مهما كلف الأمر.

لنأخذ البريختية مثلا. قال برتولد بريخت بضرورة تقويض مقولة التعاطف بين المتفرج والممثلين على الخشبة في المسرح التقليدي (البورجوازي؟) عبر تكسير الجدار الخيالي الموجود بينهما والتأكيد على أن الفعل المسرحي هو فعل تمثيلي محض وليس انصهارا في عالم الحلم الدي تصنعه الخشبة، وهو الحلم الذي يستلب المتفرجين ويجعلهم يقبلون بوضعهم الاجتماعي. ولكن ليس هناك شيء يؤكد أن الحلم يخلق الاستلاب ويحول دون وجود وعي طبقي أو غيره؛ بل إن مسرح بريخت ومن تبعه في الغرب كان يثور ضد نماذج ثقافية معينة بالإضافة إلى الهدف الثوري الذي كان يقول به. في المغرب لم تكن هناك تجربة مسرحية بقواعدها وأنماطها أسست لممارسات متجذرة وجبت الثورة ضدها. البريختيون في المغرب ثاروا ضد فراغ وكل ذلك في إطار فعل مثاقفتي يستورد صراعات فكرية بعيدة عن البيئة المغربية.

من جهة أخرى، ما سماه ماو تسي تونغ بـ”الثورة الثقافية” (التي تأثر بها كثيرون كمقولة)، كان لها أثر وخيم على البنيات السوسيولوجية التقليدية في الصين، والتي هي أساس الفعل الثقافي مساندا كان أو طلائعيا. هدم وسائل إنتاج الثقافة البورجوازية-كما كان يسميها ماو ومن بعده بول بوت وغيرهم-كان مغامرة ضد الثقافة، لأن الثقافة في أصلها فعل متجذر، وملتصق بالوضع القائم، ورغم أن هناك من يثور ضدها أو يقوض قوالبها (كبريخت وكودار وأوزو ونيرودا وروبير كريي وميرو وغيرهم)، فإن كنه الثقافة العالِمة بورجوازي بالمعنى الألماني للكلمة، أي فعل مدني متواطئ موضوعيا مع الوضع القائم. ماو كان يفهم هذا، ولكن الثورة الثقافية التي قال بها قوضت حتى الأسس التي يمكن بناء فكر طلائعي تحرري عليها.

حتى الثقافة الشعبية فإن احتفاليتها وتركيزها على الجسد ونقضها للأخلاق البورجوازية (قراءة باختين لرابليه) لا يعدو كونه فعلا هامشيا، أي إنه غير ممكن إلا على هامش الثقافة المسيطرة. بل وإن الهامش يستمد ثوريته وموقفه النقدي من الثقافة السائدة التي هي عادة ما تكون ثقافة طبقة وسطى تستمد جذورها من التاريخ والايديولوجيا ومفهوم متعال للوطن والمجتمع. لا يمكن للثقافة الشعبية أن تكون شعبية في غياب ثقافة بورجوازية عالِمة وغير عالِمة. الثقافة الشعبية هي في أصلها فعل مضاد لا وجود له دون وجود معيار مجتمعي ينتفض ضده (إن قبلنا بأطروحة باختين حول دور الثقافة الشعبية عند رابليه وبوكاتتشيو وفضاءات أوروبا الثقافية البديلة في عهد النهضة).

أزمة الثقافة هذه هي التي جعلت المثقف في المغرب غير مؤثر لا في السياسية ولا على المجتمع. الإرهاصات التي شهدناها في الستينات والسبعينات، والتي كان فيها مثقفون يؤثرون في الجامعة وسوق الأفكار وعلى رجال السياسة، صارت في خبر كان الآن. توارى دور المثقف وأصبح يغرد في واد بينما المجتمع في واد آخر. أضف إلى هذا أن الإشعاع الدولي للمثقف المغربي هو شبه منعدم، وذلك لأن المؤسسات أهملته على عكس ما يقع في كثير من بلدان الجنوب، ولأنه لم يواكب قضايا العصر ووسائله في التواصل، ولأنه أصابه الإحباط نتيجة تبخر أحلام الثورة والتغيير ونتيجة تواطؤ النخبة مع الوضع القائم.

لهذا، وجب إعادة النظر في الفعل الثقافي برمته في المغرب. وهذا يقتضي بعد نظر ورؤية حول دور الثقافة ودور المثقف ومكانة المغرب الثقافية في منظومة القيم الكونية. هذا يتطلب وجود تصور مستقبلي، وتدبيرا استراتيجيا، ووضع أسس صناعة ثقافية متينة، وتخصيص الموارد اللازمة للنهوض بكل أشكال التعبيرات، وتحصين التراث، وتثمين الفضاءات، وصقل كفايات الفاعلين والرواد والمؤثرين والشباب والمجموعات المتعددة… لا تنمية بدون ثقافة، ولا هوية بدون ثقافة، ولا مستقبلا دون فعل ثقافي فاعل، ناجع، متجذر، ناقد ومنتقد، ولكنه مستقل وقوي.

hespress.com