شرع العالمُ في تجريب اللقاحات المضادّة لفيروس “كورونا” وسطَ تنافس محموم بين شركات الأدوية والمنظّمات الدّولية؛ وهو ما نتج عنه بروز نشاط مكثّف في مجال البحث والتّطوير، وإعلان عدد من الدّول دخولها في تجارب سريرية وإقرارها تطعيم مواطنيها باللقّاحات المكتشفة، بينما تستمرّ الجهود المكثفة والحاجة العالمية للسيطرة على هذه الجائحة العالمية.

وتستعرضُ مقالة بحثية منشورة في مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أعدّتها الدكتورة سارة عبد العزيز سالم، أهم المبادرات العالمية التي انطلقت لتصنيع وتوزيع اللقاحات، وخريطة اللقاحات المتاحة حاليًّا، والمزايا والعيوب لكل لقاح، وكذلك خريطة التوزيع العالمي لتلك اللقاحات بين الدول، وأهم التحديات التي تواجهها.

وتشدّد الدّراسة البحثية على أنّ التعاون الدولي شكّل عاملًا أساسيًّا ومهمًّا في الإسراع من عملية تطوير اللقاحات ضد فيروس كورونا المستجد، حيث قدم التعاضد الدولي كلًّا من الدعم المالي والتقني للوحدات البحثية وشركات الأدوية. ومن أهم المبادرات العالمية التي انطلقت لدعم عملية تطوير اللقاحات ما يلي:

1ـ عملية سرعة الالتفاف (Operation Warp Speed (OWS: جاءت كجزء من استجابة إدارة “ترامب” للجائحة، وهي عبارة عن تعاون بين العديد من الإدارات الحكومية الأمريكية، بما في ذلك الصحة والدفاع والزراعة والطاقة وشؤون المحاربين القدامى والقطاع الخاص. حيث قامت بتمويل عدة وحدات بحثية وشركات أدوية، من بينها (Janssen) و(Moderna) و(Novavax) و(Merck) ، بالتعاون مع جامعة أوكسفورد وشركة (AstraZeneca) وسانوفي وجلاكسو سميث كلاين.

2ـ مبادرة (ACTIV): هي مبادرة فرعية من داخل (OWS)، حيث دخلت بموجبها معاهد الصحة الوطنية الأمريكية (NIH) في شراكة مع أكثر من 18 شركة أدوية بيولوجية، بما يهدف إلى تسريع تطوير الأدوية واللقاحات المرشحة لـمواجهة انتشار فيروس كورونا.

3ـ مبادرة (COVAX): هي جزء من برنامج منظمة الصحة العالمية للوصول إلى مسرع أدوات كوفيد، وتأتي بالشراكة مع تحالف ائتلاف ابتكارات التأهب للأوبئة (CEPI)، و(Gavi)، وهي منظمة غير ربحية توفر اللقاحات للبلدان النامية. وتهدف المبادرة بشكل عام إلى توفير ما بين ملياري جرعة بحلول نهاية عام 2021، لحماية السكان المعرضين لمخاطر عالية في جميع أنحاء العالم. على أن يتم تزويد الدول المنضمة للمبادرة بجرعات كافية لتغطية حوالي 20% من سكانها على المدى الطويل.

وتظل هناك بعض الجهود الأخرى المحدودة، حيث يقوم كل من الاتحاد الإفريقي ومركز مكافحة الأمراض في إفريقيا بتجميع بعض التمويلات لشراء اللقاحات وتوزيعها داخل القارة أو زيادة القدرة التصنيعية؛ وهو ما قد يساعد مثل هذه الدول منخفضة الدخل في إفريقيا وأمريكا اللاتينية على تعزيز مكانتها في سوق اللقاحات العالمية.

مع بداية نونبر، بدأت الجهود العالمية لابتكار لقاح آمن وفعال في مواجهة فيروس (كوفيد-19) تؤتي ثمارها، نتيجة للمضيّ قدمًا في عمليات التطوير والتجارب السريرية بسرعة غير مسبوقة، حتى أضحى العالم أمام ما يقرب من 200 لقاح مرشح لمواجهة الفيروس. وتتمثل أهم تلك اللقاحات التي حصلت على تصاريح بالاستخدام فيما يلي:

1ـ لقاح شركتي (Pfizer) و(BioNTech): وهما شركتان متعددتا الجنسيات في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا. وقد أصدرت كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وكندا والبحرين والمكسيك موافقة تنظيمية/ طارئة على استخدام اللقاح. وتبلغ نسبة فعالية اللقاح حوالي (95%)، حيث يُؤخذ على جرعتين.

2ـ لقاح شركة (Moderna) الأمريكية: ويتقارب مع اللقاح السابق من حيث نسبة الفعالية وعدد الجرعات، إلا أنه لا يحتاج إلى درجة حرارة شديدة الانخفاض مثل اللقاح السابق، حيث تكفيه -20 درجة سليزيوس. ومن ثمَّ، فإنه أعلى من حيث التكلفة التي تصل إلى حوالي 33 دولارًا. ولم تصدر موافقات بعد على استخدام اللقاح.

3ـ لقاح (Oxford Uni-AstraZenca): وهي شركة بريطانية-سويدية، وتتراوح فعالية اللقاح بين 62-90%، إلا أنه لا يحتاج إلى درجات حرارة شديدة الانخفاض، وتبلغ تكلفته 4 دولارات فقط. كما تعهدت الشركة Oxford-AstraZeneca بتوفير 64% من جرعاتها للدول النامية. ولم تصدر موافقات بعد على استخدام اللقاح.

4ـ لقاح (BBIBP-CorV): وهو اللقاح الصيني الذي طوّره معهد بكين للمنتجات البيولوجية، والمجموعة الصينية الوطنية للصناعات الدوائية (سينوفارم)، حيث أقرته كل من الصين والإمارات العربية المتحدة. كما أقرّت الصين لقاحين آخرين هما لقاح (CoronaVac) واللقاح الذي طوره معهد ووهان للمنتجات البيولوجية، والمجموعة الصينية الوطنية للصناعات الدوائية “سينوفارم”.

5ـ لقاح (Sputnik V) الروسي: صنعه معهد (Gamaleya) الحكومي، كما أطلقت روسيا برنامج التطعيم الشامل في محاولة لوقف الانتشار اليومي للفيروس في البلاد. وذلك على الرغم من أن اللقاح لم يكمل بعد تجارب المرحلة الثالثة، بينما أكد المعهد أن فعالية اللقاح بلغت حوالي 92%.

كما أعلن المعهد الحكومي عن قيامه بتلقيح 150 ألف شخص فعليًّا، في حين أنه من المفترض تطعيم 70% من سكان روسيا البالغ عددهم 143 مليون نسمة. وتمنح روسيا الأولوية في التطعيم لكل من الأطباء والمعلمين لتلقي اللقاح أولًا، بدلًا من كبار السن؛ في حين يشيع تلقي اللقاح فعليًّا بين أعضاء النخبة السياسية والتجارية.

سادت حالة من التنافس المسبق بين دول العالم للحصول على اللقاح من أجل زيادة فرصهم في تأمين تغطية حاجة سكانها إلى اللقاح؛ وهو الأمر الذي بدأ بشكل مبكر، سواء من خلال قدرة تلك الدول على التطوير الذاتي للقاحات، أو استثمار تلك الدول في ضخ الأموال في عمليات البحث والتطوير للقاحات، والاستفادة من القوة الشرائية لعقد صفقات واسعة النطاق”.

ومن ثم، فقد أجرت الكثير من دول العالم والشركات متعددة الأطراف تعاقدات مسبقة مع عدد من الشركات والتي كانت قد أعلنت عن خوضها المراحل النهائية من التجارب السريرية للقاح، حتى قبل طرح أي لقاح مرشح في السوق. ويمكن استعراض حصص الدول وفقًا لتعاقدات السوق المسبقة (AMCs) المحتملة والمؤكدة على النحو التالي:

وتكشف البيانات المتاحة عن التعاقدات وفقًا لآخر تحديث في 11 دجنبر 2020، أن هناك حوالي 9.6 مليارات جرعة محجوزة بالفعل، وتنقسم إلى 7.2 مليارات جرعة محجوزة كمشتريات مؤكدة، مع 2.4 مليار جرعة أخرى قيد التفاوض حاليًا أو محجوزة كتوسعات اختيارية للصفقات الحالية القائمة.

ويتضح من خلال تلك التعاقدات أن الدول ذات الدخل المرتفع تمتلك حاليًا نحو 3.9 مليارات جرعة مؤكدة، في مقابل مليار جرعة حصلت عليها الدول ذات الشريحة الأعلى من الدخل المتوسط، وتأمين أكثر من 1.6 مليارات جرعة للدول في الشريحة الأدنى من الدخل المتوسط.

مع محدودية القوة الشرائية، لجأت الدول متوسطة الدخل إلى اعتماد إستراتيجيات أخرى للوصول إلى مقدمة قائمة الانتظار لالتزامات السوق المسبقة؛ فقد نجحت الدول ذات القدرة التصنيعية، مثل الهند والبرازيل، في التفاوض بشأن التزامات السوق المتقدمة الكبيرة مع المرشحين الرائدين للقاحات كجزء من اتفاقيات التصنيع.

وبالنسبة للبلدان التي ليست لديها القدرة على التصنيع أو تطوير اللقاحات، فقد شاركت من خلال البنية التحتية المتوافرة لديها لاستضافة التجارب السريرية، مثل بيرو، حيث دفعت بذلك الحل كوسيلة للتفاوض في صفقات الشراء المستقبلية.

على صعيد آخر، فإن بعض الدول الأخرى متوسطة الدخل، بما في ذلك الهند، ما زالت لديها برامج قوية لتطوير اللقاحات، إلا أنها قد تستغرق بعض الوقت ولكن اكتمالها وحصولها على الموافقات التنظيمية قد يغير المشهد العالمي بشكل كبير.

وتثير تلك التعاقدات العديد من التساؤلات حول تحديات العدالة العالمية لتوزيع اللقاح، وهو الأمر الذي خططت العديد من المبادرات العالمية السابق الإشارة إليها لتفاديه. فوفقًا للمخطط التالي، يتضح أن ما يقرب من 70 دولة ذات دخل منخفض ستكون قادرة فقط على تطعيم واحد من كل 10 أشخاص.

تتمثل أهم تحديات اللقاح الحالي فيما يلي:

1ـ محدودية القدرات التصنيعية: تتنبأ النماذج الحالية لعمليات تصنيع اللقاحات بأنه لن تكون هناك لقاحات كافية لتغطية سكان العالم حتى عام 2023 أو 2024؛ وهو ما يعني أن محدودية القدرات التصنيعية سيحد من عدد الجرعات المتاحة على المدى القريب.

2ـ لوجيستيات اللقاح: حيث إن تلك اللقاحات في الأغلب تحتاج إلى تجهيزات شديدة الدقة للحفاظ على فعالية اللقاح، بحيث يظل آمنًا وفعالًا؛ وهو الأمر الذي يستدعي وجود معايير معينة لعمليات التخزين والنقل. فاللقاح الذي قدمته شركة فايزر يحتاج إلى أقل من 70 درجة مئوية، وهو ما يُعد استثنائيًا بالنسبة للقاح.

3ـ عدم توافر البنية التحتية: بالإضافة إلى عدم المساواة في توزيع اللقاحات، قد تواجه الدول منخفضة الدخل أيضًا تحديات كبيرة في توزيع اللقاحات، خاصة في ظل حاجة العديد منها إلى اشتراطات خاصة من حيث التبريد والتخزين.

تواجه الدول النامية أيضًا مشكلات تتعلق بمحدودية سعة سلاسل التبريد، خاصة في المناطق الريفية والنائية، وتوريد الإبر والتخلص السليم من النفايات البيولوجية الخطرة. بالإضافة إلى نقص أعداد مقدمي خدمات التطعيم المدربين، لا سيما في المناطق الريفية.

4ـ اشتراطات التطعيم: حيث أعلنت خمس شركات طيران عالمية عن إصدارها بطاقة صحية رقمية للركاب المسافرين من خلالها، للتأكيد على أنهم خالون من فيروس كورونا قبل السفر؛ في محاولة لإنقاذ قطاع السفر والطيران من الانهيار التاريخي.

5ـ الحملات العدائية المضادة للتطعيم (anti-vaccine): شهدت العديد من دول العالم انطلاق الحملات المضادة من جانب مناهضي التطعيمات، حيث أتاح لقاح (كوفيد-19) الفرصة مرة أخرى لتلك الحملات.

بينما تشير التقييمات الاستخباراتية إلى أن غالبية الدعاية المضادة للقاحات، أو المضادة للتطعيم، التي يراها مستخدمو الإنترنيت في بريطانيا، تأتي من داخل بريطانيا، وأن هناك نسبة صغيرة يتم تضخيمها أو إطلاقها من قبل الدول المعادية، ولا سيما روسيا.

ويمكن تلمّس تأثير تلك الحملات من خلال استطلاعات الرأي، حيث كشف استطلاع رأي أجرته صحيفة “ليفادا” أن 59% من المستطلعين الروس لا يخططون للحصول على اللقاح، مقارنة بـ26% فقط من الأمريكيين في استطلاع آخر أجرته وكالة “أسوشيتد برس”.

وفي أوروبا، يعتقد واحد من كل ثلاثة فرنسيين أن اللقاحات بشكل عام غير آمنة، وفقًا لمؤسسة “ويلكوم ترست” الخيرية البريطانية. كما أكد 46% أنهم سيرفضون لقاح covid-19 عند تقديمه، وفقًا لاستطلاع Ipsos mori. . وفي أوروبا الشرقية، أكد أكثر من 40% من الأشخاص في بولندا والمجر أنهم سيرفضون لقاح (كوفيد-19)، إذا عرض عليهم.

6ـ انتشار الأخبار الكاذبة: تزامن مع إعلان العديد من الشركات عن اقتراب إجراء المراحل النهائية من التجارب السريرية انتشار سلاسل من الأخبار الكاذبة ونظريات المؤامرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، وهي الحملات التي جاءت في أغلبها ممنهجة؛ وهو ما يجعل الكثير من المواطنين في مختلف دول العالم، سواء المتقدم أو النامي، متشككين في اللقاحات المطروحة.

وقد تضمنت تلك الأخبار الكاذبة الادعاء بأن تلك اللقاحات قد تحول البشر إلى قرود، أو أن الصين تستهدف نقل فيروس كورونا من خلال شبكات الجيل الخامس (G5)، أو أن اللقاح سيُستخدم لزرع الرقائق الدقيقة، أو جعل النساء عقيمات.

وفي حين تواجه الدول المتقدمة مخاطر انتشار الأخبار الكاذبة، فإن مناخ عدم الثقة المنتشر في الدول منخفضة الدخل خاصة تلك التي ستشهد انعقاد الانتخابات الوطنية فيها سيعزز من حالة الرفض لتلقي اللقاحات أو الاستغلال السياسي لعملية توزيع اللقاحات في حشد المؤيدين، لا سيما في دول مثل إثيوبيا وبيرو.

7ـ الهجمات السيبرانية: بينما ينتظر العالم توزيع اللقاحات المضادة لفيروس كورونا، تجددت المخاوف بشأن الأمن السيبراني كتهديد محتمل للتسليم السلس لشحنات اللقاح. يأتي ذلك في الوقت الذي شهدت فيه عمليات تصنيع اللقاحات نفسها هجمات عديدة لقرصنة أبحاث اللقاحات.

ختامًا، يمكن القول إنه على الرغم من تمكن عدد لا بأس به من الشركات من تطوير اللقاحات المضادة لفيروس كورونا؛ فإن إتمام إنجاز عملية التلقيح تواجهها العديد من التحديات، بل أضحى إحدى المعضلات الحالية أمام الدول هي إقناع مواطنيها بأن اللقاح آمن وفعال. كما أن هناك عددًا من الدعوات التي وجّهتها الدول والمنظمات لإتاحة حقوق الملكية الفكرية الخاصة باللقاحات؛ الأمر الذي قد يزيد من قدرة الدول متوسطة ومنخفضة الدخل على تصنيع اللقاحات وتوفيرها لمواطنيها.

hespress.com