التنظيمات الإسلامية في العالم العربي وفي دول الجوار، وإن اختلفت مسمياتها ما بين ذاك الذي يلقبونه بحزب الله، وحركة أخرى تسمي نفسها بحركة بحماس، والحزب التركي المدعو بحزب العدالة والتنمية، تلتقي جميعها على مشروع عقائدي وسياسي واحد وهو الانقلاب على كل الأنظمة القائمة بنية الاستيلاء على دواليب الدولة ومحاولة تصدير ذلك النموذج الديني إلى الخارج إسوة بنظام الخميني.

تلكم التنظيمات ومثيلاتها تحاول بداية أن تصل إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، وحينما يتأتى لها ذلك تستغل وجودها في السلطة لتسخرها خدمة لأهدافها الاستراتيجية وأولها جعل الدولة ومؤسساتها تحت رحمتها واستبدال النظام الديمقراطي بنظام لاهوتي. هذا هو حال حزب الله الذي يرهن لبنان كما يراه إقليما تابعا لولاية الفقيه، وكذلك الأمر بالنسبة لحزب العدالة والتنمية في تركيا الذي يحاول زعيمه رجب طيب أردوغان من موقعه كرئيس لتركيا استعادة نفوذ الإمبراطورية العثمانية وهيبتها من خلال التغلغل في مناطق متوترة من العالم العربي إما بشكل مباشر أو بالاستعانة بالتيارات الإسلامية المتواجدة وفي مقدمتها تيار الإخوان المسلمين. وحركة حماس هي الأخرى لا تشكل استثناء بخلقها لنواة دولة في قطاع غزة بعد أن بات القطاع كله رهينة لسلطة إسماعيل هنية، وبعد أن أجبر هذا التنظيم الإسلامي القيادة الفلسطينية على الرحيل من القطاع إلى الضفة الغربية في صراع محموم كان ينذر بإراقة أنهر من الدماء بين الطرفين.

ومادام المشروع السياسي لهذه الحركة قائم بالأساس على عرقلة المشروع السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية الداعي إلى التفاوض مع إسرائيل من أجل إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، فإن تلك الحركة تنزل دوما بكل ثقلها لكي لا تفلح القيادة الفلسطينية في تحقيق ذلك المشروع الذي يظل منشغلا بالاتفاق مع إسرائيل من أجل إقامة دولة فلسطينية. فأي نجاح في هذا الاتجاه قد يكون، كما تراه الحركة، على حساب مشروعها وعلى حساب وجودها أصلا كتنظيم إسلامي.

واليوم خرجت قيادة حماس ببيان تستنكر وتدين فيه قرار المملكة المغربية بما تقول عنه تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، بل من باب البهتان تعتبر ذلك القرار أنه جاء على حساب قضية الشعب الفلسطيني. ثم تسمح هذه الحركة لنفسها بالتوجه إلى الشعب المغربي وتدعوه إلى التصدي ومقاومة اختيارات المملكة. لكن كل متتبع للمسار السياسي لحركة حماس ونهجها في التشويش وأحيانا عرقلة كل الجهود التي تبذل من أجل إيجاد مخرج سياسي للقضية الفلسطينية، فإنه قد لا يستغرب من هذا الموقف الذي ليس هو تحديا للمغرب بقدر ما هو تحدٍّ للقيادة الفلسطينية في شخص رئيس السلطة السيد محمود عباس الذي أعطى تعليماته لكل القياديين الفلسطينيين بعدم الإدلاء بأي تصريح في موضوع استئناف العلاقات بين المغرب وإسرائيل. وبذلك، تعطي قيادة حماس الدليل على أنها في حل من أية أوامر وأن سلطتها في قطاع غزة لا علاقة لها بسلطة أبو مازن في رام الله بما يفيد أن الخلافات الفلسطينية في ماضيها وحاضرها ما زالت قائمة، كما تبقى تلك الخلافات رهانا إسرائيليا بين الأشقاء الأعداء لكي يظل الوضع على ما هو عليه.

ولأن هذه الخلافات الداخلية تبقى هي العائق في بلورة موقف فلسطيني موحد، وأن حماس هي التي تذكي نار الفتنة وتلعب دور “حمالة الحطب” في الإبقاء على هذا الانقسام، فإن إحداث أي اختراق للمسار التفاوضي مع إسرائيل قد يواجه صعوبات كثيرة بسبب المشاريع المتضاربة بين مشروع جماعة أبو لهب حاكم غزة الذي يتمسك بشرط تعجيزي وهو التحرير الكامل لفلسطين التاريخية وفي ذلك مآرب للحركة، وبين مشروع القيادة الفلسطينية في الضفة وهو إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967. وقد اجتمع القوم في بيروت خلال الأسابيع القليلة الماضية لتدارس إمكانية خلق جبهة موحدة بعد أن انطلق مسلسل العلاقات مع إسرائيل، حيث لم نسمع من أولئك القوم كالعادة إلا جعجعة ورحى تطحن قرونا. وقد فض الاجتماع ليتلاشى معه صدى الخطابات الرنانة والمهيجة لكل الفصائل الفلسطينية.

فحركة حماس ليست للمرة الأولى تلعب هذه الأدوار القذرة، فحاضرها كماضيها. فهي تريد انسدادا لكل الآفاق والإبقاء على الوضع كما هو لأنه يخدم مصالح القائمين على مشروعها الذي ليس هو مشروع الشعب الفلسطيني، بل هو مشروع يلتقي مع مصالح قيادة حماس التي هي جزء من مصالح القوى الإقليمية وعلى رأسها ولية أنعامهم الجمهورية الخمينية لدولة المرشد الروحي.

حركة حماس لم تكن تنظر بعين الرضى لاتفاقات أوسلو، وقد توجست منها وازداد قلقها لما بدأ تنزيل بنودها على أرض الواقع في عهد رجلي السلام إسحاق رابين وشمعون بيريس وشريكهما المرحوم الرئيس ياسر عرفات. وكانت مصلحة حركة حماس كما هي مصلحة المتطرفين في إسرائيل قد التقت على أمر واحد وهو ضرورة إيقاف هذا المسلسل، أي مسلسل أوسلو. وبالفعل، تم اغتيال إسحاق رابين من قبل متطرف يهودي يدعى “إيغال أمير” في مهرجان خطابي لأنصار السلام أمام بلدية تل بيب حيث كنت في موقع الحدث وشاهد عيان على هذا الفعل الإجرامي ليلفظ الرجل أنفاسه الأخيرة في مستشفى “إيخيلوف” القريب جدا من مقر البلدية. وبعد شهرين ونصف من اغتيال إسحاق رابين، أعلن شمعون بيريس في شهر فبراير من عام 1996 بصفته رئيسا للحكومة في المرحلة الانتقالية عن موعد لإجراء انتخابات مبكرة ليضمن لنفسه ولحزب العمل ولاية جديدة كي يواصل عمل سلفه رابين.

في هذه اللحظة التاريخية، كانت حركة حماس تتابع هذه التطورات بقلق كبير وعملت جاهدة لكي لا تؤول الحكومة الإسرائيلية القادمة إلى شمعون بيريس، لا سيما وأن استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي آنذاك كانت ترجح كفة بيريس على نتنياهو مرشح الليكود المنافس. وفي لحظة مفصلية من الحملة الانتخابية، بدأت حركة حماس في إطلاق مسلسل إرهابي من تفجير الحافلات ومراكز تجارية في العديد من المدن الإسرائيلية مما أدى إلى تآكل شعبية شمعون بريس لصالح بنيامين نتنياهو الذي تمكن في شهر يونيو من نفس السنة من تحقيق فوز لم يحسم سوى بأصوات معدودة.

وإذا كان هذا هو دأب حركة حماس ونهجها مع من يفترض فيهم أنهم شركاؤها في بناء الوطن، فكيف يتوقع منها أن ترحب بالإرادة الجادة التي عبر عنها المغرب هذه الأيام من خلال العودة إلى الساحتين الفلسطينية والإسرائيلية ليجدد أدواره التاريخية من أجل إحياء عملية السلام على المسار الفلسطيني. إن كل اتصال مع القيادة الفلسطينية لتأكيد المملكة المغربية على ثوابتها والتزاماتها تجاه القضية لا يزيد قيادة حركة حماس إلا تذمرا وكأن المغرب في نظرها ليس صديقا للقضية ولكنه عدو للحركة. هكذا هي قيادة حماس لها مصالحها وحساباتها التي ليست هي بالضرورة مصالح وحسابات الشعب الفلسطيني.

hespress.com