حسون، الخبير في طب الجراحة، كان مهتما، بل مولعا، بمعية زملائه، بتنظيم التظاهرات التنموية في مجالات الطب والتربية والتعليم والشؤون الأسرية بدول الجنوب. بفعل التراكمات العلمية والفكرية التي حققها والتي حولته إلى نجم عالمي في تخصصاته، وبعد تأمين مستقبل إخوانه وأخته الوحيدة ووالديه، أصبع مهووسا بمستقبل بلاده وشعبها، حيث لاحظ فيه مرافقوه أن انشغاله الدائم بهذا الموضوع، بدافع حبه لوطنه وغيرته على مستقبله، يكاد يصنف في خانة الهذيان. في تصريحاته الرسمية وغير الرسمية كان دائما يبدع علميا في تجسيد العلاقة الحقيقية التي يجب أن تربط السياسات والبرامج العمومية في قطاعات الصحة والتعليم والتربية والتنمية الترابية، مركزا، أينما حل وارتحل، على الأدوار الريادية للأسرة، كأول وأرقى مؤسسة للتنشئة، وما يترتب عنها من تراكمات إيجابية تعطي لمسار تقوية المؤسسات في كل القطاعات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وعلاقتها بفعالية الشعوب، معنى راقيا ومتميزا. ونظرا لكثافة أنشطته وقيمتها المعرفية، ووقعها الإيجابي جدا على المجتمعات الترابية، تعود على تلقي الدعوات من منظمات المجتمع المدني بمختلف أقاليم بلاده، ملتمسين منه مساعدتهم على إبرام عقود شراكات مع منظمات دولية في مجال بلورة المشاريع التنموية.

إن منهجيته العلمية، وحصيلة أبحاثه في المجالات السالفة الذكر، حولته إلى فاعل دولي، يتمتع بسمعة كونية، ولا تبخل أي مؤسسة عالمية في مده بالدعم الضروري لأنشطته في مجالات الأسرة والطفولة والشباب والديمقراطية الترابية. لقد طلبت منه يوما المنظمات الأممية المختصة تدويل مشروعه التنموي، لكنه التمس من مسؤوليها فترة زمنية حتى يتمكن من النجاح في تفعيله ببلاده، ومن تم العمل على جعل مضمون محاوره النظرية، المستنبطة من التشخيصات والدراسات العلمية، واقعا معاشا بمقومات ثقافية وتدبيرية مترسخة في سلوكات شعب بلاده على المستويين الفردي (المواطنة) والجماعي (المدنية والحداثة الثقافية).

لقد تم عقد عدة اجتماعات في مستويات دولية عالية في شأن المنطلقات المعرفية والإنسانية والفلسفية للبروفيسور حسون وتجربته وأهدافه، ليتم اتخاذ قرار دعمه بالقوة اللازمة في كل مبادراته. لقد علم هذا الجراح الماهر، من خلال تفاعلاته العلمية والفكرية اليومية، أن العالم يتوفر على فريق خبراء كبير دائم التفكير في مصير العالم بتحدياته ورهاناته، فريق مشكل من السياسيين والمفكرين والعلماء، لا يكل ولا يمل من التفكير في مسارات تنمية دول الجنوب، ليرقى هذا الورش الدولي إلى انشغال أساسي لدى مصادر القرار العالمي الرسمي وغير الرسمي. إنه انشغال موضوعي جدا يبرره إيمان القوى العالمية بكون وعي الجماهير الجنوبية وتطوير ثقافتهم لن يترتب عنه إلا تنوع الأذواق الاستهلاكية، وبالتالي الرفع من القدرة الشرائية والاستهلاك، وبالموازاة القدرة الإنتاجية بالنسبة للوحدات الصناعية والخدماتية والتجارية. لقد كانت هذه الاعتبارات واضحة في ذهن حسون، وهو يعلم بالوضوح التام أنها مقرونة بخطط جيوستراتيجية محكمة ومؤسسة على تحقيق بعدين أساسيين، يتجليان على التوالي في الحفاظ على تطوير تفوق الدول المتطورة كونيا وتفوقها في جميع المجالات، وتحديد الإمكانيات الضرورية لتحسين مستوى عيش شعوب الدول الفقيرة وتنمية دخول أفرادها، ومنها بلاده التي توصف بالنامية، وبالتالي توسيع الفضاءات التجارية، لتسويق السلع والخدمات، وتنشيط أسواق الشغل، وتوفير شروط تسهيل حركية رؤوس الأموال، وتكثيف المضاربات المالية في البورصات شمالا وجنوبا.

إن استنتاجاته، التي كانت دقيقة للغاية بسبب احتكاكه مع عباقرة السياسة والفكر والعلوم المتنوعة إقليميا وعالميا، مكنته من استكمال المعلومات والمعارف التي جعلت من مضمون الإشكالية التي كان يبحث عن بلورتها منذ شهور ذات وزن ثقيل ومعقدة الأبعاد. لقد طرح كل الألغاز التي كان يجهلها في شأن ممارسة السياسة في بلاده، ومدى توفر إمكانيات فتح منافذ تساعده على تسهيل نفاذ الجدية والمعقولية والمعرفة إلى عمق السياسات العمومية والمؤسسات التدبيرية، وبالتالي التمكن من اختراق الأوضاع السائدة في مختلف المستويات الترابية، وتغيير واقعها بتحويله إلى مصدر لجذب العقول، ومحفز للمردودية الفردية والجماعية. لقد شكل فريقا من ألمع الباحثين والمفكرين، وأسس على إثر ذلك منظمة غير حكومية منفتحة على كل الطاقات والفعاليات وطنيا وترابيا، بما في ذلك الطلبة اللامعين في سلك الدراسات العليا والباحثين في سلك الدكتوراه.

فبعدما انتهى من كل الترتيبات الخاصة بالمالية والميزانية بما في ذلك مساطر تنفيذها الشفافة، قرر صحبة قياديين من منظمته الجديدة تخصيص سنة كاملة للبحث والنقاش والحوار الداخلي لإجلاء كل أنواع الغموض عن منطق ممارسة السلطة في بلاده، وعلاقة المركز بالمجتمعات المحلية، بحيث راهن على الوصول إلى استنتاجات مقنعة ومؤكدة لحاجة وطنه إلى المرور إلى مرحلة جديدة. إنها المرحلة التي ستوفر كل الإمكانيات الضرورية لإخضاع قيادة كل المؤسسات الإدارية والقضائية والسياسية والإعلامية للحكامة الجيدة. لقد استشعر حسون أن ساعة التغيير قد أقبلت، وتحتاج إلى رجال ونساء من نوع خاص. إنه التغيير المنتظر الذي يجب أن يفضي من جهة إلى التعبير الفعلي، المؤسساتي والمجتمعي، قولا وفعلا، عن طموح إبادة المصالح الأنانية لدى الفاعل التنموي، ومن جهة أخرى إلى ترسيخ الروابط السميكة بين ثقافتي الحق والواجب في الأمدين القريب والمتوسط، وتحقيق رهان تحويل الأسرة والمؤسسات ذات الصلة في قطاعات التربية والتعليم والصحة في المجتمع والدولة إلى باعث لروح المثابرة والكدح والصدق وعدم البخل في تسخير الكفايات والتراكمات المعرفية لخدمة الوطن.

إن أول إشكالية حيرته في مجال قيادة التغيير في بلاده هو ترابط هاجس استمرارية النظام والدولة في تدبيرهما للمنعطفات والانتقالات السياسية، وتدبير العواصف الابتزازية التي تنبعث من هنا وهناك، والتي تزداد حدتها مع التقلبات التي تميز الحركات الاجتماعية من محطة إلى أخرى، وكذا أثناء حدوث تحولات مفاجئة في موازين القوى العالمية. لقد فطن أن مسألة توزيع الثروة (ميزانية الدولة ومصادر الخيرات الطبيعية والمعدنية والبحرية والصناعية والفلاحية) هي شبيهة بمنطق اقتسام جبنة دائرية كبيرة (كامامبير) بين المعبرين سياسيا عن حقهم في الحصول على النصيب منها، وأن المنافسة من أجل الزيادة من حجم الحصة منها قوية للغاية. في هذه النقطة بالذات، أسر له أحد الشخصيات النافذة أن البلاد مرت من عدة محطات إيجابية حرصت الدولة من خلالها، بسبب وعيها التام بارتباط المشروعية السياسية بالثروة المالية، ونجاح الاستحقاقات الانتخابية بالوساطة في توزيع الأقساط النقدية على النخب المحلية ونخب القرب، على المراهنة الدائمة على تحقيق التفوق في التوزيع، وما يترتب عن ذلك من تراكم الثروات لصالح رجالها. إنه الاعتراف الذي لم يكن متناقضا مع استنتاجات أبحاث فريقه. فمستويات الاغتناء ما بين أجيال رجال الدولة والسياسيين لم تحافظ على نفس الأقساط أو النسب في مختلف المراحل السياسية المعروفة. لقد أثبت ذلك علميا من خلال مبينات دائرية جسدت التحولات الديمغرافية والقبلية والعرقية للطبقة الحاكمة والنخب الموالين لها في مختلف المستويات الترابية، مؤكدة أن البلاد وصلت إلى مفترق الطرق. لقد تعاقبت الأجيال على الكسب السياسي والإداري، بالشكل الذي أفرز انعكاسا سلبيا على الوعي السياسي المجتمعي، خاصة مسألة تقابل وتفاعل مفهومي الديمقراطية الفتية والتنمية الترابية، إلى درجة وصل الرأي العام إلى مقت كلمة “نضال”، وأصبح مقتنعا أن الممارسة السياسية لم تكن يوما من أجل تحقيق وطن ديمقراطي يحتضن أبناءه، يتباهى الشعب بنمائه ورقيه، بقدر ما اختزلت الممارسة السياسية في مجرد التعبير عن نزعات فردية مرضية، لا يرى معتنقوها في السياسة إلى مطية للاغتناء غير المشروع، وضمان تفوق أبنائهم المادي على باقي أبناء الشعب. لقد اقتنع حسون أن السائد في المنطق السياسي لعقود مضت كان مرتبطا أكثر بالنضال من أجل النصيب المرادف للتعويض على سنوات الصراع، والسعي لتحقيق الموقع المناسب في الهرم الديمغرافي للمتنافسين السياسيين. كما برزت في مؤشراته التشخيصية أن زمن ارتباط الممارسة السياسية بالابتزاز والصراع من أجل الزيادة من حصة النصيب قد وصل إلى درجة تفنيد منطقه مؤسساتيا ومجتمعيا. فكل من استولى ظلما وعدوانا على ثروة، كيف ما كان حجمها، عليه أن يغادر فضاء الفعالية، ويتحول إلى داعم للمسار التنموي الجديد المحتمل.

إن الدراسة الدقيقة لتداول النخب على تدبير شؤون بلاده منذ استقلالها، بينت له أن فترات دخول الفاعلين إلى حلبة التنافس على تراكم الثروات كانت محسوبة بالدقة المتناهية، محددة تاريخ الدخول إليها وموعد الخروج منها. وبفعل هذا الارتباط غير الطبيعي، الذي ساهمت في تكريسه النخب الانتهازية، ضعفت الأحزاب في بلاده، وتميعت التمثلات الإيديولوجية، واستنزفت الطاقات الحزبية أو همشت، ليخضع مسار التنخيب في مجمله لمقاييس غريبة، لتتحول طبيعتها لأمد طويل إلى فقاعات جميلة مخادعة ومهددة، لم تساهم إلا في تفاقم حدة إضعاف الثقة في السياسة.

في نفس الوقت، أكدت الدراسة التي قامت بها منظمة حسون للتقارير الرسمية والبرامج الحكومية الحديثة، أن الدولة فتحت عدة أوراش طموحة للمرور إلى مرحلة جديدة، بمنطق جديد، وبرجال ونساء بطموحات وطنية. لقد تم التركيز على التكنولوجيات الحديثة من أجل ضبط معلومات وبيانات هويات الأشخاص والممتلكات المادية والفكرية المختلفة والمشاريع والمهام المدرة للدخول المتنوعة. إنها المستجدات التي تراهن من خلالها الدولة خلق القطيعة مع الماضي والمرور إلى نسق منطقي، يرفع من الدقة في تجسيد الموضوعية في إعادة تشكيل الطبقات الاجتماعية (إنعاش ميزانية الدولة من الضرائب المختلفة، وتقديم الدعم للطبقات التي تستحقه). كما لامس حسون أن الدولة تستعد لخلق نخب قيادية وطنية على المستويين السياسي والإداري لتدبير المرحلة الحرجة التي تعيشها البلاد، مستشعرة بالحاجة إلى تقوية ارتباط شرعية القيادة السياسية والإدارية بالكفاءة وشفافية وخبرة النخب، وأن الوضعية السياسية الحالية تسمح بذلك، ولن تطيق غير ذلك. لقد عاشت بلاد حسون، كباقي الدول العربية والمغاربية الأمواج العاتية للربيع العربي، وترسخ في الأذهان أن الشرعية السياسية التي تستند على العقيدة والقبيلة لا علاقة لها بالتنمية ونجاعة الفعلين العام والخاص، ولا بتحسين مستوى عيش المجتمع. لقد ثبت بلا أدنى شك، أن التيارات الإسلامية، التي أتاحت لها الظروف البروز في واجهة الأحداث، لم تكن مستعدة معرفيا لتحمل قيادة المنعطفات السياسية الجديدة، بحيث لاحظ المتتبعون أن جهودها المستثمرة، غير المدروسة، لم تنفذ إلى عمق القضايا المجتمعية، بقدر ما بقيت على هوامش الانشغالات الشعبية. إن هشاشة قدراتها السياسية والاقتصادية والثقافية جعل عدد كبير من نخبها في وضع اضطراري لدخول حلبة الصراع من أجل الرفع من النصيب من “الجبنة”، بينما تحول البعض الآخر، بسبب تهور سلوكياته ومواقفه، إلى لقمة صائغة انقض عليها المناوؤون.

وهو مسلح بكل هذه الاستنتاجات والمعارف العلمية، توصل في يوم ربيعي مشمس من إطار متعدد الاختصاصات اسمه “الساخي” بدعوة لإعداد برنامج عمل مجالي، بأهداف طموحة، لتحفيز الأطفال والشباب في وضعية صعبة على الانخراط، بالإرادة المطلوبة، في عدة أوراش تنموية بروافدها التربوية واللغوية والفنية والإبداعية وبأبعادها التكنولوجية. هذا الإطار، الفاعل الصادق، كان معروفا بجديته وبأدائه الإعلامي والثقافي المتقون، وبنجاعة فعله الإداري الذي لا يمكن تصنيفه إلا في خانة الدرجة الرفيعة، وبحبه لمدينته التي تفاقمت فيها مؤشرات الركود والتراجعات بالرغم من ارتقائها إلى عاصمة إقليمية.

مباشرة بعد الإطلاع على سيرة هذا الإطار من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، وعلى كل إنجازاته الفكرية والأدبية والفنية بشقيها المعرفي والميداني، لم يتباطأ حسون في مده بالموافقة المبدئية، بحيث ربط ترسيم التعاقد فيما بينهما بضرورة إنجاز تشخيص دقيق لمستويات التنمية الترابية، وبمدى انشغال المؤسسات بتحسين مستوى الساكنة ثقافيا وفنيا ومعيشيا. فبالرغم مما قيل له من طرف فاعلي محيطه في شأن طبيعة هذه الدعوة وتوقيتها، ملمحين أن مبادرة هذا الفاعل المسمى “الساخي” مشكوك في صدقيتها، وأن الشك في كونه مدفوعا للقيام بهذه الخطوة يبقى أمرا طبيعيا، كان جواب حسون واضحا : “إن الرجل معروف باستقامته، وغنى مستواه الفكري والعلمي والأدبي. وبذلك، حتى وإن كان مدفوعا، فإن ذلك لا يمكن تأويله سلبيا، بقدر ما يجب اعتبار المرحلة مرحلته ومرحلة أمثاله من أبناء شعبنا الأبي”.

في اليومين الموالين لإعلان الموافقة المبدئية، هاتف حسون مخاطبه الترابي، واتفقا على انطلاق العملية التشخيصية بعد أسبوع، بحيث تشبث حسون بتحويل هذه التجربة إلى مشروع ناجح، وبالتالي تقديمه كنموذج للترافع والتفاوض مع المنظمات الأممية المختصة لدفع الممولين الدوليين إلى الرفع من اعتمادات دعمهم لتنموية دول الجنوب.

فرح الساخي بهذا الخبر، وتجند على الفور على مكاتبة المؤسسات الرسمية الإقليمية في شأن هذا المشروع. وفي لقاءاته مع مختلف مناصب المسؤولية في مختلف القطاعات الحكومية، وعلى رأسها والي شؤون التنمية، لم يلامس للأسف الشديد أي حماس لديهم في شأن مبادرته. لقد أسر له أحد الفاعلين الإداريين يسمونه “الفهيم” نظرا لكثرة انتقاداته، أن ما يريد القيام به، يعتبر في منطق أولي الأمر والنخب السائدة بمثابة تغريدات خارج السرب، ليضيف أن تنظيم السرب من طرف قواده ومتعاونيهم هو أساس حمايته وتنقله بيسر من منطقة إلى أخرى. إن اللوبيات التحكم المسيطرة يتوجسون من النخب الجديدة والمبادرات التنموية خوفا على مواقعهم وكراسيهم. إن التجاوب مع مثل هذه المباردات كان دائما مرتبطا في المنطق السياسي السائد بتوفر ضمانة الانضمام إلى أحد المعسكرات السياسية المضمونة، وعليك البحث عنها.

غضب الساخي من هذا الواقع، وسأل الفهيم مجددا: “هل للتغريدات داخل السرب دليل يجب احترامه؟ أم أن واقع السرب لا يتجاوز كونه تكتل مصلحي لعرقلة المساعي التنموية الجادة التي يمكن أن تساهم في الإكثار من الأسراب الوطنية ذات الطاقات المتفاوتة والمتنوعة والمفيدة للجميع. على أي، إن دعم الخبير حسون لمبادرتي، وملامستي لمؤشرات التغيير التي تنبعث من أعلى هرم السلطة ببلادنا، يعتبران بالنسبة لي محفزا على الاستمرار والمقاومة مهما كان الثمن”.
سكت “الفهيم” مبتسما، معربا لمخاطبه أن في سؤاله وكلامه أجوبة كافية، يمكن اعتمادها كمنطلق للنضال من أجل تغيير الأوضاع، لتحل الأسراب التنموية، أي فرق النخب الجادة والفاعلة، محل الأسراب المصلحية التي ازداد صراع المتناقضات بداخلها بحدة غير مسبوقة، وكثر عدد انفجارات الفضائح في عقر فضائها المحصن. وأضاف أن المعركة ليست بالسهلة، وتتطلب الصبر وقبول مواجهة ومجابهة المخاطر، والتعبير على القابلية لتحملها ومواجهتها إلى النهاية. ولتشجيع الساخي على الاستمرار في العمل بإصرار وتفان، أنبأه أن أمير البلاد عازم كل العزم على تغيير الأوضاع، وأنه لا علم له بمستوى الجشع الذي أصبح مستشريا في العمل السياسي، خاصة قوة آليات التغرير، وتوسيع هوامش استقطاب النخب على أساس الريع والامتيازات غير المشروعة، وبالتالي ممارسة التعتيم ولغة الخشب في كل الخطابات والكتابات التي تصل إلى أعلى هرم في السلطة.

استبشر الساخي خيرا في كلام “الفهيم”، واعتكف مباشرة بعد ذلك على كتابة تقرير تشخيصي للأوضاع الترابية المختلفة وإكراهاتها وتحدياتها، وأرفقه بخطة متقونة، أمزج في محاورها الشقين المعرفي والإعلامي. وعندما توصل حسون بما أنجزه الساخي، وما بذله من جهد، انبهر بمعلوماته ومنهجيته وأفكاره وخططه التفصيلية الرامية إلى اختراق اللوبي المسيطر، وإرغامه على التخلي عن منطقه الأناني الهدام.

لقد جعلا من إشكالية مقارنة الموارد والوسائل المستعملة بوقع أداء الموارد البشرية على التنمية الترابية أساسا لبحثهما. في لقائهما الأول شكلا فريقا إقليميا من الباحثين لتتبع أداء الفاعلين الإداريين مع التركيز على مردودية النخب الجادة والرافضة للتغريد داخل السرب الفاسد، ومقارنتها مع مردودية الموالين المشكلين للوبي المنغلق الذي لا ينفتح إلا للمعبرين عن الولاء بعد قبول تورطهم في عمل دال عن فقدان الاستقلالية الذاتية.

بعد شهر من التحريات، التي تلاها فرز معلومياتي للاستمارات المنجزة، تم الوصول إلى استنتاجات تؤكد خلاصات دراسات حسون. لقد تبين أن عمل الفاعلين الجادين الرافضين للانضمام إلى السرب يمتاز بالإتقان وتحقيق الأهداف التنموية المنشودة، وأن ما يقومون به، وما يحققونه يوميا، ما هو إلا انعكاس لاجتهادهم ومثابرتهم الإرادية والتطوعية وخططهم وإيمانهم بحق المجتمع المحلي والإقليمي في التنمية. لقد تم الوقوف على كون أغلبهم يتنقلون راجلين أو بواسطة الدراجات الهوائية، ولا يستهلكون إلا القليل من الوسائل اللوجيستيكية. بينما مكونات السرب الضاغط والمستحوذ على كل الوسائل تقريبا، فمردوديتها ضعيفة للغاية في مجال التنمية، وأنشطتها فوضوية لا تمت بصلة لمبادئ التكامل والتشارك والتضامن والاندماج. أما حسون فذهب إلى أبعد من ذلك، حيث أنجز برنامجا معلوماتيا مكنه من حساب الاعتمادات التقديرية المستهلكة (المصاريف) من طرف أفراد اللوبي المسيطر، وقارن منجزاته مع تلك المحققة من طرف الفاعلين الأوفياء للوطن.

وبعد أيام معدودة من الجهد المضني، قرر الثنائي، حسون، الطبيب الجراح، ومخاطبه الترابي الساخي المعروف بسخائه المعرفي والمادي، تنظيم ندوة صحافية، والعمل على توفير ظروف امتداد صداها إلى ما وراء البحار والمحيطات. لقد حضرتها أشهر المنابر الإعلامية الوطنية والدولية، لينكب حسون، باستعمال منظاره الإلكتروني، على فضح خطورة أورام الجزء الأكبر من جسم وطنه للحاضرين. لقد تألم المتتبعون لهذا الواقع بسبب حدة تعفنه، لتتصدر الصفحات الأولى من الجرائد الورقية والإلكترونية وأخبار القنوات التلفزية المختلفة تفاصيل الندوة الصحافية واستنتاجاتها.

لم يمر عن هذا الحدث إلا سبعة أيام حتى صدر بلاغ من ديوان رئيس الدولة يأمر مستشاريه على خلق اللجن الوطنية الضرورية لتغيير كل القوانين المعتمدة في مجال إنتاج النخب السياسية والإدارية، وإعداد المشاريع التنموية وإنجازها، وخلق مؤسسات لتقييم السياسات العمومية بشكل دقيق، وبالتالي ربط التعيين والاستمرار في المسؤولية بالمردودية والمحاسبة. لقد نوه هذا الرئيس رسميا بعمل حسون وتشريحه للأوضاع، وأمر رجال الدولة الأوفياء باعتماده في الاستشارة بشكل دائم.
وبعد عام ونيف من هذا الزلزال، تغيرت الأوضاع بالكامل، وتخلصت المؤسسات من ذوي النيات السيئة والانتهازيين الذين قضى عليهم الجشع، واستمر تفعيل الاستراتيجيات لإضعاف لوبيات التحكم بتفريق مكوناتها وإخضاعهم بشكل دوري لامتحان الحكامة الجيدة. لقد تسرب الخوف إلى كل الفاسدين والمصلحيين، ليجد الساخي نفسه فاعلا معتمدا على مستوى تراب إقليمه، ليتأتى له، بدعم من حسون، من تحويل مشروعه التنموي إلى نموذج يحتدى به وطنيا ودوليا.

ومباشرة بعدما تم الاطمئنان على ديمومة مقاومة منطق الفعل العمومي والخاص للعراقيل المفتعلة ولضغط اللوبيات الفاسدة، قام حسون باستدعاء المنظمات الدولية لحضور ثلاث أيام دراسية، بحيث تكلف الساخي، تحت إشراف خبير الجراحة والصحة، وبشراكة مع المؤسسات الرسمية برؤسائها الجدد، بإعداد جدادات المشاريع التنموية الناجحة، ليتم عرضها ومناقشتها رسميا، وبالتالي تعميم هذه التجربة على جميع جهات البلاد. فمباشرة بعد ارتفاع مؤشرات التنمية البشرية في بلاده جراء تنفيذ مشروعه المتكامل، عين حسون سفيرا أمميا لدى دول الجنوب مكلف بنمائها، بحيث أصبحت قراراته المدروسة نافذة، ومشاريعه التشاركية نماذج يحتدى بها في مجال التنمية بأبعادها الإنسانية.

hespress.com