قد تكون مرت 130 سنة على قيام الحركة القومية العربية، حركة قديمة صدئة مهلهلة كثوب خلق، دون تحقيق أي قيمة مادية للعرب، اللهم الخطب والكتب والقصائد والبكاء والنحيب والسب والشتم والهجاء من كل الألوان. استطاعت هذه الحركة أن تصبح المقدس الثالث بعد القرآن والسنة، وربما كان الشباب العربي يلعن الرب ولكنه لا يستطيع الانتقاص من القومية العربية وإلا فهو خائن للقضية مهرول نحو العدو ضال كافر مارق.

هذه الحركة التي تدعو إلى الإشفاق والرثاء، كان طموحها بعيدا عن العقلانية ألف سنة عادية وبعيدا عن التحقق مليارات السنوات الضوئية. أُلخّصهُ لكم في الحلم بوطن عربي واحد تحت راية واحدة تحت حكم واحد من المحيط إلى الخليج. وفي سنة 1891 سنة قيام الحركة القومية كان العرب أغلبهم يعانون من تحكم الاستعمار التركي أو الغربي، أي أن الدولة العربية الموحدة لن تقوم سوى بعد نهاية الاستعمار في جميع الجغرافيا العربية. كما أن اختلاف الأنظمة العربية يشكل صعوبة في وجود صيغة ما للتوحيد، إما أن تصبح الدول العربية كلها ملكيات أو كلها جمهوريات.

مع وعد بلفور سنة 1917 سيتوحد الشعور القومي والشعور الديني معا، لأن حماية فلسطين من اليهود سيجعل مسألة إلقاء اليهود في البحر فريضة دينية، وسيتجند القوميون والفقهاء من أجل تحقيق دولة عربية واحدة، جوهرتها الوسطى القدس العربي. هذا كان يتم دائما بسلاح فتاك رهيب هو سلاح اللسان والمداد. وستشتعل نار القومية في القلوب ولا تمس الأيادي والعقول الرزينة.

حرب الأسلحة الفاسدة سنة 1936 أول الإحباطات القومية التي كشفت عن الضعف الرهيب في العضلات العربية التي لا تستطيع أن تحمل خنجرا في وجه اليهود فبالأحرى الأسلحة القادرة على المواجهة العسكرية. وقيام إسرائيل كان ثاني الإحباطات الكبرى، هذه المرة بمباركة من مجلس الأمن، ومن الاتحاد السوفييتي نفسه صديق القوميين العرب. واستمر العرب في الانتصارات الماحقة بالسلاح الفتاك المذكور أعلاه، الخطب والكتب والقصائد والمؤتمرات وانضاف إلى ذلك سلاح آخر أكثر فتكا، وهو الإعلام، من جرائد وإذاعات.

سنة 1952 قامت ثورة الضباط الأحرار في مصر، وتبين أن قائدها “العظيم” من أشد القوميين شراسة وعزيمة وصدقا، فقرر أن يحول الحلم القومي إلى واقع مادي على الأرض، فاشترى الأسلحة وجند الرجال وأسس الاشتراكية مذهبا اقتصاديا واجتماعيا ثم مضى يقنع القوميين بالانضمام إلى الجمهورية العربية المتحدة تحت راية موحدة الألوان، لا يفرق بينها سوى عدد النجوم، سوريا، العراق، اليمن….

سنة 1967 تهيأ عبد الناصر للحرب من أجل محو اليهود، باتفاق مع القوميين الآخرين على الجبهة، وحتى لا نبخس القوميين حقهم نقول أنهم كانوا يمتلكون من السلاح والعتاد والرجال أضعاف ما يملكه اليهود -حاشا مقامكم – ثم قامت الحرب باستغفال استراتيجي ذكي من إسرائيل التي كانت تتهيأ للحرب أيضا، لكن دون كلام ولا ضجيج، وكانت مخابراتها قد توصلت إلى معرفة ما يفعله كل قومي عربي في فراشه مع زوجته، وحل الإحباط الثالث، إسرائيل الدولة الصغيرة التي لا يتجاوز سكانها أربعة ملايين تهتك كرامة عشرات الملايين من القوميين العرب في حرب خاطفة.

بعد ضياع الضفة والقطاع وسيناء والجولان ازداد لهيب القومية العربية بالأسلحة الخطيرة أعز الله بها أمة العرب والإسلام، انضاف إليها التلفزيون الذي انتشر في أغلب البيوت العربية بعد أن كان مقتصرا على نخبة الأغنياء. على أرض الواقع، لا تساوي القومية دولارا واحدا يشتري به العربي فطوره، أما في المساجد والكتب والجرائد والمجلات والإعلام والقصائد والأغاني فقد ازدادت النار اشتعالا حتى أصبحت القومية غير قادرة على قتل يهودي واحد لكنها قادرة على حجر واعتقال وترهيب أدمغة العرب وتوجيهها وأدلجتها جاعلة الخروج عنها حراما حتى ولو بالتفكير الذي يؤدي حتما إلى التكفير وفي أقل الصفات بشاعة خدمة الصهيونية والماسونية والرأسمالية والإمبريالية. ثم استقر الإحساس القومي في الأفئدة ظلما وعدوانا وبلا اقتناع، وأصبح العربي يخاف خيانة القضية أكثر مما يخاف الله.

قبل سنوات اعتقد الربيع العربي في القومية أكثر مما اعتقد في العدالة ودولة الحق والقانون والمساءلة، فلم يربح لا الديمقراطية ولا الدولة العربية الكبرى، بل قامت خلافة الإرهاب في العراق وسوريا غير عابئة بالقومية وإنما حالمة بتعميم وتطبيع السفك والقتل من المحيط إلى الخليج.

نحن اليوم أمام بقايا فزاعة القومية التي تحررنا منها بفضل الوسائل الجديدة للتواصل، التي دكت الوسائل القديمة المحتكرة من طرف الحكومات القومية، وقد أرى أن من أقدس المقدسات اليوم هو التحرر من وهم القومية العربية، فمن شاء أن يكون قوميا فهو حر ومن شاء أن يلقي بالقومية في البحر فهو حر كذلك، وهذا أدنى الإنصاف. أما أن نجد حزبا يسيّر البلاد، بعضه مع المصالح العليا للبلاد وبعضه الآخر مريض بداء القومية “يفسخ البيع” دون حياء، فذاك ما يثير الغرابة في شأن دولة يراد لها أن تسير في اتجاه الهاوية بدعوى الوفاء للقضايا القومية التي يعليها الجاهلون على القضايا المصيرية للوطن.

hespress.com