“وفي الأرضِ منأى للكريمِ عنِ الأذى .. وفيها لمن خافَ القلي مُتَعزَّلُ” الشنفري الأزدي.
هكذا على شاكلتي عملت أيام تعزُّلي في ظل كورونا ڤيروس دأبت على ترديد بيت الشنفري ذاك خفتا أو جهرا. كما أخذت أشغل النفس بارتشاف الشاي أو القهوة والماء الطهور تارةً وبتناول شتى الرُّطَبِ والمقويات تارة أخرى، ثم إني أردف ذلك بالقراءة علاجا وبالكتابة ترياقا لتكلس الحواس واهتراء الذهن.
وإني لأراني وغيري من الناجين لو أن تعزُّلنا هذا كان محفِّزنا على ممارسة الرياضتين الجسمانية والتأملية تباعا. هذا ما أحاول حمل نفسي عليه بقدر ما أستطيع كي أتفادى التركيز المفرط على هذه الهجمة الوبائية الشرسة التي يشنها علينا الڤيروس التاجي، وهذا ما أريد الشهادة عليه.
وعسى أن يُكتب لي بخواطري التحريض ولو بنزرٍ يسير على مقاومة الجائحة قدر الإمكان كيما وتهوين آثرها، علما أن الإنسانية قد عرفت طوال تاريخها المديد أوبئة كثيرةً متنوعة، وأنها لم تكن يومذاك مسلحة بما بين أيدينا اليوم من ثمرات التقدم الطبي والصيدلي، مما يبرر لنا أن نردد مع الشاعر فريدريش هولدرلين: “حيثما ينمو الخطر ينمو معه ما ينقذ”.
أما ما أدين له بالنجاة، وما يعينني على الطفو وتقصي أخبار الآخرين وسلوك سبيل الإخاء مع الناجين، فهو تجردي، في حالةِ تصوفٍ، لسماع سمفونياتي الأثيرة: كارمن، كارمينا بورانا، لاتراڤياطا، نشيد الفرح، الفصول الخمسة، ناهيك عن الموشحات وغيرها من بدائع الموسيقى التي تسحر اللب وتنعش الروح وتبثُّ في الوجدان نبضاتٍ من الهدأة والطمأنينة.
حينها أستسلم وزوجتي اليونانية المتعزلة مثلي لرقصة السيرتاكي أو السَّلاو وسواهما مما تنتعش بها الأنفس وترقُّ لها الأفئدة، ثم أروي لحليلتي من النكت والطرائف الهزلية ما يجعلنا، رغم سطوة الغمة، ننفجر معا ضاحكين لاهيين مع الإعتذار للمصابين والضحايا.
من جانب آخر، التعزل عندي ليس مرادفا للإنطواء المُحْبَط ولا للانعزال القهري، بل هو عودة إلى معالمي المضيئة المتناثرة، التي هي، علاوةً على الموسيقى، قصائدٌ لطيفةُ النظمِ بديعةُ المعاني أُنشِدها من الذاكرة بلغات مختلفة، قصائد خيطها رفيعٌ وضاءٌ شيق، ومحرابها واحد، لا شرقيٌّ ولا غربيّ بل هما معا، متداخلين في انسجام، متقاسمين أشعةَ الشمس ذاتها في رحاب متواصلة وحدائق غنّاء.
كما أن تعزلي يجود عليَّ بفرص غالية لأعيد اكتشاف رواية الطاعون لألبير كامو، وحبٌّ في زمن الكوليرا لغابرييل غارسيا ماركيز، وتدبير المتوحد لابن باجة، وكذلك بعض السير الذاتية، كسيرة تشايكوفسكي الذي قتلته الكوليرا، وابن خلدون الذي اختطف وباء الطاعون أبويه وثلة من شيوخه منتصفَ القرن الثامن الهجري، وكذلك السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي الذي مات هو أيضا بالوباء نفسه.
“من خلا ولم يجد فما خلا”، على حد قول الشيخ الأكبر ابن عربي. وإني لأرجو ألا أكون كذلك، لأني في تعزلي القسري اكتشفت أو أعدت اكتشاف أشياء لربما من قبل تقاسمتُ بعضها معكم عرضا وأودُّ الآن مشاركتكم إياها بكل أخوة ومحبة.
وبعد، فهل هناك دليل على حسن المراعاة ولطف الإشارة أنصع وأنقى من الذي قدمه الإمبراطور الرواقي مارك-أوريل في مدخل مذكراته أفكار من أجلي. ذلك أنه وعيا منه بوعورة مسالك حرية الإرادة البشرية، ورغبةً منه في تفادي كل إحراج، ترك للقارئ حرية الاختيار بين أن يتابعه في تأملاته التي كان يخُطها بين معركتين، أو أن ينصرف عنه متى راق له الانصراف.
إن السلطة والحكمة قلَّما تُحسنان الجنوح التوافقي. تلك قاعدة لها ككل قاعدة استثناءات، لعل أعلاها شأنا وأحقها بالذكر هذا الإمبراطور الفيلسوف، الذي مات بالطاعون في قلب عاصمته روما، غيرَ مخلفٍ وريثا يستحقُ أن يحمل عنه المشعل ويُخَلَّدَ أفكاره المبهرة!
أما أنا القارئ الشغوف، فإني أنتفع، متى دقت ساعات الانتكاس من إحدى تأملاته الحكيمة تدعو إلى أن ينظر المرء إلى نجوم السماء وكواكبها وكأنه معها في فلكها يدور. وهذا يعني أن نغير الوجهة والبوصلة، ولِمَ لا أن نتخلص بالمناسبة من تعزلنا الجبري، فنستبدل به خلوةً اختياريةً ذكيةً مرنة، فيها إيثارٌ صادق وعونٌ للمصابين كعون الكرام، وفيها حبٌّ فائضٌ للحياة والصحة المتسيِّدة. وقد جاء في حكمة صينية “إن ما لا يقتلنا يقوِّينا”. لعل الأمر كذلك. آمين!
لكرونا ڤيروس أوامر وموانع
إنه لوباءٌ اجتاح العالم أجمع وفضح نقائص سياساته الاجتماعية-الاقتصادية والصحية، كما عرّى عن مزالق عولمةٍ هوجاء لا خير فيها لعموم الناس، ولا أثر في منطقها للنزعة الإنسانية. إنها جائحة كوڤيد 19 الذي فرض على البشر سطوته العارمة وألزم أطباءهم ودولهم بإملاء أوامر وموانع صارمة لا محيد عن مراعاتها والتحوط بها حرفيا، وإلا فإن الموت المهين يتربص بهم الدوائر في كل مكان وحين. وذهبوا إلى وجوب تعلم التعايش مع الڤيروس الذي يقول العارفون إن إقامته بيننا ستطول وغزواته فينا ستتنوع وتصول، من بؤر جديدة ومكامن خبيئة وهجمات مباغثة وربما موجات جديدة أقوى من سابقاتها وأنكى وأشد إبادة وإيلاما. والخلاصة أن الڤيروس مازال بين ظهرانينا كامنا ساريا. والأوامر والموانع هي إجمالا كالتالي:
– يُمنع عنك منعا باتا التقارب والتلامس والمصافحة والعناق والتقبيل والإحتضان والسباحة الجماعية والحمام البلدي. وبإيجاز، عليك بالتخلي عن حرارتك المتوسطية وبتغريقها في قعر مياه هائجة متلاطمة.
– أغْلق فمك ما لم يكن الكلام تبيحه الضرورة القصوى، وإلا فإن لُعابك المتطاير قد يحمل الڤيروس اللعين إلى غيرك ثم إلى آخر فإلى آخرين، في تَفَشٍّ كاسح مميت لا مَرَدَّ له. حتى محياك تحت واقيته لا تلمسه قطّ، بل تصرَّف كأنه لم يعد جزءا من جسدك ولا من كيانك.
– ابتعد عن قريبك قدر ما استطعت، ولا تبالِ، وأنت تفعل، بما تأمر به الكتب المقدسة عكس ذلك. فالتقارب أمسى اليوم بمعيار كورونا بمثابة كمينٍ قاتل أو قنبلةٍ موقوتة.
– احرص، وأنت رهينُ تعزُّلك وسَأَمِك، على استهلاك برامج التلفزيون بنهم شديد، أو اجعل فمك رطبا بذكر الله، وكن في وحدتك قويا مرهفَ الحس طَليقَ النفس، وإلا فاصنع بنفسك ما تشاء. وعلى سبيل المثال فجِّر الصمتَ المدوِّي المحيط بك بموسيقى صاخبة كالتقنو، وإلا إن كنتَ روحانيا فعليك بالبحث عن السعادة الممكنة عند الهندوس أو عن الطمأنينة (أطركسي) عند الإغريق أو حتى في رقصةٍ صوفية، فتأخذك الجذبةُ إلى أن تغيب عن وعيك، فلا يوقظك من غيبوبتك إلا ماءُ الوردِ يُسكبُ على وجهك، فيحِلُّ فيك شيءٌ من روْح الملائكة أو أولياء الله.
– إن قصدكَ أحد يريد بك شرا أو مدَّ يده ليصفعك على خدك أو خديك، فبادر بالهرب هروبك من وحشٍ ضارٍ. فإنْ هو لاحقك مصرا اطلب النجدة أو ضع نفسك تحت أنظار شهود أو في حماية رجال الأمن.
– لا تمارس ما حَرُمَ من الجِماع، ففيه يتظاهر الموتُ الزؤام، نظرا لما يحويه من اللَّمم من تقاربٍ وتلامسٍ وتلاحمٍ تام.
– حذارِ إذن من المغامرات الغرامية، التي زِيد اليوم إلى إثمها خطرُ الڤيروس المحدث. فالنُّسْكَ النسك! إنَّ في هذا لمنجىً وخلاصا. فعليك بالسحر الحلال وحدَه، وإيّاك ثم إياك أن تضرب امرأتك مهما يكنِ السبب، لأنك إن فعلت ستضيف إلى تعزلك تعزلا سِجْنِياًّ أشدَّ وأمضى.
– إن أنت غادرت مسكنك بموجب ترخيص قانوني، فعليك بإحاطة نفسك بالحواجز وجَعلِ محيطك ذاته حاجزا، واحتطْ وتحوَّطْ ثم عدْ هرولةً إلى قاعدتك تنجُ بحياتك وتسلم.
– أما أنتم، معشرَ المسلمين، فإن في وضوئكم نعمةً إن أنتم أحسنتموه وأضفتم إليه الجمْدَ الكحولي، تمرغون به الكفين خمس مرات أو حتى أكثر في كل يوم، ذلك أن للضرورة أحكاما.
– أما اللثام الواقي فيتحتم وضعه على نصف الوجه السفلي كلما إلى الخارج غادرت بيتك. والمسلمون لن يجدوا صعوبة للتلبية، إذ كان اللثام في تاريخهم عادةً مستحبة بل أحيانا واجبة، كما عند الطوارق وقبائل صنهاجة مؤسسي الدولة المرابطية اللمثونية ويسمون أيضا باسم الملثمين لتوقي ضربات الشمس وعواصف الرمال والرياح الصرصر.
ختاما، إن الإنسان لتنازعه نفسه إلى الصراخ، متسائلا متى الفرجُ والحريةُ واللقاحُ الناجع ونهاية الڤيروس التاجي وبِئسَ التاجُ تاجُه. ولا شك أن لجراح هذا الوباء ندوبا لن تفارق من عايشه، والناجون سيكون عليهم التحرر مما علق بهم من رعب وهلوسة وخوف مقيم سكن منهم النفوس وسرى في الأجساد مسرى الهواء السَّام الملوَّث…
سيكون التطهرُ بالكوثر ضرورةً لا مناص منها، وسيكون على كلٍّ مِنَّا أن يحاول السعي من جديد إلى الحياة الصحية وينعم منها بما لذَّ وطاب، تلك الحياة التي– ضدا على قساوة القلوب وجفاف العقول وعلى سوء العيش – نريدها محتفيةً بالقيم والفضائل السامية التواقة إلى مراتع الصفاء ورحاب الضياء. والسلامُ على من وعى وصمد وآخى.