لقد خلق الإله العالم، كما خلقَ البحرُ اليابسةَ، بالانسحابْ. فريدرش هولدرلين.
حياة قاصرة هو فيلم تجريبيٌّ طويل للمخرج والفنان البصري المغربي سمحمد فتاكة، قام بإخراجه عام 2015. يفتتح المشهد الأول على اقتباس يُقرّ وينفي في الآن نفسه وجود إله ما، عبر مقارنته بالماء الذي، عبر انسحابه عنها، يخلق اليابسة. يترك الاقتباس مكانه لمشهد عُلْوِيٍّ بطيءٍ مثل عين طائر ترصد انبثاق الأرض. هكذا، يعود عُنصر الماء في مرّات عديدة باعتباره تبايُناً يُحصي ويتعقّب تيه البطل.
يُشبه ذلك أي قصة اعتيادية لشاب مهاجر يعطي دورساً في اللغة العربية في فرنسا، ربما هو في هذه الحالة شابٌ موهوب، لكن كل من لا يفهم العربية لن يستوعبه، ولن يكون في مقدوره تقييم قدراته، تلك القدرات الكامنة في اللغة وحدها.
فريد يفقد ثلاثة أشياء: الإسم والجسد واللغة
عندما يبلغ فريد فرنسا، لا يُنْطَقُ اسمه إلا مرّة واحدة، كما لو كان الأمر طريقة لتعيينه وتنميطه، ثم يختفي الاسم إلى الأبد، مثل شيء سار على سبيله ثم حاد عنه. يختفي هذا الاسم أثناء مشاهدة الشخصية للآخرين المحيطين بها، وعدم اكتراثهم لها.
لجسد فريد بريق ولمعان، بيد أنّ انعكاسات ألوان الملابس التي يرتديها تغطسه في المناظر والفضاءات التي يعبرها، حتى أنّ تلك الألوان تنسخ بنيته تماماً: يصير جسده مغطى بالطين، مُفكّراً ومُبلّلاً ومُعصّرا، فيتحوّل إلى جِبْسٍ هَشٍّ. كذلك يتخلّى عنه جسده تدريجيّاً لأنه مُنفلتٌ ولامادي.
يد سوريالية ومفككة تطفو فتقلق فريد وتُرهبه، وعندما يُثَبِّتُها على الجدار، وسبّابتها بارزة، تظهر لنا إحالة غير مقصودة على عمل “الأصبع” للفنان الروسي آندريه موناستيرسكي، وفي ذلك نتوءٌ مبهمٌ لذات منفصلة عن ذاتها.
تبقى اللغة ربما هي آخر من يتخلّى عنه، ومن هنا يمكننا فعلاً أن نستخلص موهبته: يجد نفسه أمام مُشغّله، ابن بلده، يتحدثان العربية، لكن سرعان ما يرتبك، كما لو كانت اللغة تخونه هي نفسها. وحتى بعد إنشاده قصيدة أمام الجمهور، قصيدة بالعربية تُكرّر كيف أن كل ما يملكه مُتحوّلٌ؛ حتى بعد ذلك يجد فريد نفسه وحيداً، يُحدّق في الماء الأسود، في الليل، في صفحة مغمورة بالحبر دون فائدة.
وشيئاً فشيئاً، وهو يُعلّم الأطفال العربية، تتهاوى لغته من حوله، ومع أنه يبدو قادراً على تحديد الأشياء وتسميتها، إلاّ أنّ يده وفمه يفقدان قوتهما، حتى أن الصغار يفقدون بدورهم الثقة في اللغة.
يختفي فريد في انعكاسه الخاص، والأمر لا يتعلق بموت نرسيس، ولا بالموت نفسه، وإنما هو انمحاء أثر لم يحصل يوما على أهمية وانتهى إلى الضياع.
في هذه الأثناء، يرجع طيفٍ آخر لفريد، إنّه قرينٌ منفصل ومستقل، رجل متقدّم في السن، يشبهه ويضحك في وجه صديق يهُمّ بالرحيل.