في غمرة الاحتفال الجماعي بأغنية “أهل الحال”، كان جمهور حي التقدم الشعبي وسط العاصمة الرباط في تلك الأمسية الصيفية من عام 1996 متحرّرا من كل الحواجز النفسية والنوازع الاجتماعية، التي كانت تحول دون فهم “المقصود الغيواني” من أغنية ذات رسائل سياسية وثورية، تنطلق الصيحات وتتراقص الأجساد وتغمر ألحان موسيقى هادرة الأسوار والبيوت القصديرية “العامرة”.
كانت المجموعة الغيوانية تتجاوب مع طلبات الجمهور الرباطي الباحث عن لحظة “تمرّد” جماعية ضد السلطة ولو بشكل “محتشم”؛ فالاختلاف ظاهر بين جمهورين: الجمهور “العاصمي” والجمهور “الكازاوي”، الذي مهّد طريق “الشهرة” لناس الغيوان، وهو جمهور كان ثوريا بطبعه، حتى قبل ظهور المجموعات الملتزمة التي انبثقت من أحزمة البؤس المحاذية للمدن الكبيرة.
بالعودة إلى سهرة حي التقدم الشعبي، يحكي سعيد محافظ، الذي رافق مجموعة ناس الغيوان في معظم السّهرات الفنية الوطنية، أنه “في تلك الاحتفالية الشعبية التي احتضنتها العاصمة كان أفراد مجموعة “ناس الغيوان” سيلتقون بجمهور حي التقدم الشعبي، المترامي على أطراف الرباط، “والتّقدم، مثل باقي الأحياء الشّعبية كـ”يعقوب المنصور”، كانت مجموعة ناس الغيوان الفرقة الوحيدة التي تطربهم وتغني معاناتهم، وهذا لقى تجاوبا كبيرا في تلك السّهرة”.
ويحكي محافظ، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية: “نحن في عام 1996، مهرجان الرباط بحي “التقدم”، سهرة لم أحضر مثيلتها من قبل، لأني رأيت الموت بعيني وأنا في سيارة عمر السيد مع ناس الغيوان، وقتها كانت تتكون من علال يعلى وعمر السيد ورشيد باطما ورضوان. وعلى الرغم من غياب العربي باطما وباكو، فإن شرارة الغيوان لم تنطفئ”.
وبدأت مجموعة ناس الغيوان تغني والجمهور كله من الأحياء الشعبية المجاورة لحي التقدم، كحي النهضة ودوار الحاجة ودوار الدّوم، وهي أحياء “مهمشة”.. وبالنسبة إلى ساكنيها، فإن ناس الغيوان هي ناطقة باسمهم، وتشعر بمعاناتهم، وتترجم ذلك الإحساس في أغانيها”.
ويضيف محافظ في تصريحه: “بدأ الحفل، وبدأ الهيجان، الجمهور يريد الاقتراب من أفراد الغيوان، والصعود إلى المنصة وترجمت الحب بالجذبة؛ إلا أن اللجنة المنظمة والقوات المساعدة كان لها رأي آخر ومنعت الجمهور من الاقتراب من المنصة”.
وبعد مرور حوالي نصف ساعة على بداية الحفل، هاج الجمهور الرباطي ودخل في شجار مع القوات المساعدة والحراس، بينما كان يتراقص على أنغام “هادي دنيا هذا طمع، فين غادا يا دنيا”.. انتهت “الفانتازيا” بحمل الحجارة. وعلى الرغم من كل هذا التّسيب، فإن مجموعة ناس الغيوان لم تتوقف من الغناء؛ إلا أن حجرة عشوائية وصلت “طام طام” رشيد باطما وكسرت جزءا منها، يقول محافظ: “كنت فوق المنصة جالسا على كرسي، وأنا أنظر إلى الساحة كأنها ساحة حرب، كرٌّ وفر وحجر واعتقال”.
بعد دقائق، طلب عمر السيد من أفراد المجموعة النزول إلى “خيمة الكواليس” المتواجدة خلف المنصة، يحكي محافظ: “دخلنا الخيمة ووصل الحجر إلى الخيمة حيث احتمينا فيها. هنا أمرنا عمر السيد بالاستعداد للذّهاب إلى سيارته “مرسيديس 240”.
عارضت الشرطة فكرة عمر السيد، خاصة أن الجمهور كان قد زاد هيجانه، طلبوا الانتظار حتى تهدأ الأجواء. أجابهم السّيد كيف سننتظر والحجارة وصلت الخيمة حيث نتواجد. ركبنا السيارة وانطلق عمر بسرعة فائقة إلا أن “حجرة” طائشة هشّمت الزجاج الأمامي للسّيارة”.
ويسترسلُ محافظ: “الوحيد الذي واجه غضب الجمهور هو عمر السيد، الذي ساق بسرعة وكادت السيارة تنقلب، ظننت أني سأموت مع “ناس الغيوان” وهذه هي خاتمتي معهم، إلا أن عمر السيد استطاع أن يُخرج السيارة من الساحة؛ وأخيرا رفعنا رؤوسنا وزجاج السّيارة مهشم، والكل صامت ومصدوم كأنه نجا من موت محقق”.
بعد مرور سنة على هذا الحادث، وفي سهرة جديدة بالمكان نفسه وللجمهور ذاته خلال عام 1997، “لم يكن “المنع” وتركوا الجمهور يصعد المنصة، بدأ بعض عشاق الغيوان بضرب أيديهم وصدورهم بالسكاكين.. وعلى الرغم من بشاعة الحادث، فإن مجموعة ناس الغيوان لم تتوقف عن الغناء واختلط الغناء بالدم. لحظتها، فهمت أن ناس الغيوان “روح” وليست فقط أفراد”، يقول محافظ.