يردّد “العربي” أو “با عرّوب” موّاله الأبدي المفجوع بفراق صديقه “بوجميع”، الذي رحل مبكّرا: “من المُحال يا قلبي باشْ تنساه”، ثمّ تنفجر القاعة وتخلق عوالم متحرّرة من سطوة الزّمن، يندفع الجمهور إلى المجموعة على شاكلة موجة عاتية تقاوم وجع البطش والظّلم والطّغيان بالموسيقى، تتدخّل السّلطة وتحاول حماية أفراد المجموعة من الجمهور الثّائر، وتضعهم داخل “صطافيط” أو سيارة الشّرطة.

بقيّة القصّة يحكيها لجريدة هسبريس الإلكترونية سعيد محافظ، الذي يستعدّ لإصدار كتاب جديد حول مجموعة ناس الغيوان، التي رافقها في الكواليس والسّهرات والحفلات الوطنية: “كان ذلك في شهر أكتوبر عام 1989 بمدينة القنيطرة، حيث كانت مجموعة ناس الغيوان تحيي سهرة شعبية بالمجّان بحضور الأعيان، وكان الجمهور بأعداد غفيرة، ما تسبّب في فوضى عارمة وسط المسرح”.

وتدخّلت الشّرطة لحماية أفراد المجموعة الغيوانية من الجمهور المندفع، “إذ قامت بوضع كلّ من العربي باطما وعمر السّيد وعلال ياعلا وعبد الرحمن باكو داخل ‘الصطافيط’ لحمايتهم من الفوضى، وظن الجمهور بهذا الفعل أنهم اعتقلوا، لهذا اعترضوا طريق سيارة الأمن وحاولوا قلبها وإخراج أفراد الغيوان منها”، يحكي محافظ الذي كان يتواجد داخل سيارة الشّرطة إلى جانب “ناس الغيوان”، مردفا: “كنا نتمايل يمينا وشمالا داخل ‘الصطافيط’، وهنا دبّ الخوف”.

باقي تفاصيل الواقعة موجودة في الكتاب الجديد تحت عنوان: “لما حلقت في سماء ناس الغيوان”. وقال الكاتب محافظ: “حكيت قصة انتهاء السهرة في بدايتها، إذ انتهينا داخل سيارة الشرطة، التي حاول الجمهور قلبها لإخراجنا منها. كانت لحظات عصيبة لكنني شعرت بسعادة وأنا وحدي مع ناس الغيوان داخل ‘الصطافيط’”.

“بعد تمايلها بقوة الجمهور، فقدنا التوازن داخل مركبة الشّرطة، فصاح باطما ‘مشينا فيها’، واختلط الضّحك مع الخوف”، يقول الشّاهد الوحيد على هذه الواقعة، مضيفا: “العربي باطما كان ذا كاريزما طاغية وحضور قوي، وكان أحيانا فرحا وأخرى حزينا، ما يعني أن مزاجه كان متقلبا، وهي صفات تكون عند الكثير من الفنانين؛ ولهذا كان يكتب كثيرا حتى يتغلب على حزنه الداخلي”.

أما علال، “مايسترو المجموعة”، فيصفه الكاتب محافظ بـ”الموسيقي الكبير والأكاديمي البارع، قليل الكلام، وواضع موسيقى ناس الغيوان”؛ في حين قال عن عمر السيد إنه “فنان من نوع آخر، يكتب بالصيحات أو ما يسمى ‘التهنهين’، شخصية لطيفة يحب التنكيت ويخلق المرح أينما حل، وليس منعزلا، ولهذا له شعبية طاغية”، مردفا: “بينما ‘باكو’ عالمه صعب الاقتراب منه، فهو مسكون بالفعل بـ’الحال’ دون تصنع، وحتى عويله في أغنية ‘غير خدوني’ وصيحته الشهيرة خرجا تلقائيا ولم يحذفا في التسجيل؛ إنه شخصية فنية فريدة”.

وعن إصداره الجديد قال الكاتب: “هي رسالة لعشاق الغيوان، وأنا واحد منهم. حاولت فقط توضيح بعض الأمور الغامضة التي كانت في الكواليس، وحاولت تقريب ناس الغيوان على طبيعتهم باعتبارهم أناسا متواضعين رغم ما كانوا يعيشونه من شهرة وحب الناس. ورسالتي أوجهها أيضا إلى بعض من يحكون الخرافات عن ناس الغيوان مع أني لم أرهم يوما في الكواليس مثلا”.

من جانبه، أورد العربي رياض، الذي أشرف على الكتاب، أنّ الأخير “يحمل مجمل كواليس ناس الغيوان في سهراتهم بالمغرب وسفرياتهم وتنقلاتهم، وينقلها الكاتب بعين الطفل الذي كان متشبثا بمرافقتهم وحضور سهراتهم، إذ يرصد أمزجة أعضاء الفرقة في كل حفل حضره وتفاعلات المعجبين والجمهور في فترة الثمانينيات، ومختلف المواقف التي صادفوها والطرائف التي وقعت لهم في رحلتهم الفنية هذه”.

ويبرز المتحدث ذاته أن “الكتاب أيضا يوثق بشكل غير مباشر الفترة الزاهية للفن المغربي، حيث يعرج على مجموعة من الأفلام السينمائية والتلفزية والمسرحيات التي شاركت فيها الفرقة بمعية فنانين مغاربة مقتدرين”.

كما يقول الإعلامي العربي رياض في مقدمة الكتاب: “بكل عفوية ينتقل بنا سعيد محافظ من كواليس إلى أخرى، ويرسم لنا حركات وسكنات العربي باطما وعبد الرحمان باكو وعمر السيد وعلال يعلى، وغيرهم ممن يحيطون بهم، مبرزا الأجواء التي يقدمون من خلالها أعمالهم، ومترجما أحاسيسه وشعوره وهو يلتقط تلك المشاهد”.

وفي إحدى الحلقات يقول الكاتب: “رأيتهم في الكواليس، قامات مثيرة وشعر كثيف، وجوه تحمل دلالات مختلفة، لا يتحدثون كثيرا، بل حتى في ما يخص الأعمال التي سيقدمونها فوق الخشبة لم يسبق أن سجلت أنهم اتفقوا حول ما سيقدمونه أو كيف سيبدؤون. الكل منغمس في جو خاص إلى أن يأتي صوت عمر السيد معلنا أن دورهم حان.. لا تسمع منهم إلا همهمات من قبيل: باسم الله .. يالاه آ لمعلم … يصعدون الخشبة، تتعالى الهتافات والصيحات من لدن الجمهور مصحوبة بشعارات أو هتافات تحمل أسماء أعضاء المجموعة أو مطالبة بأداء أغنية معينة .. تعلن أنامل علال على آلة البانجو عن انطلاق الفرجة، ليتحول أعضاء المجموعة من أناس بسطاء كما رأيتهم في الكواليس إلى أسود تزأر بكلام منغوم يسلب العقول والأجساد”.

hespress.com