“ظاهرة التشرد هي القشة التي قصمت ظهر البعير”، هكذا يصف الفاعل الجمعوي عمر الياسيني واقع مدينة الفنيدق، التي أضحت ترزح تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة عصفت بكبار التجار قبل صغارهم، “وزاد توافد جموع من المراهقين الحالمين بالهجرة عليها الطين بلة”، يقول الياسيني بحسرة جلية في نبرات صوته وهو يستعيد ماضي المدينة المشرق ويندب حظها العاثر الذي حولها من فضاء خصب لاستقطاب المشاريع التجارية إلى مجرد محطة انتظار تستقطب المشردين والمدمنين.

جولة قصيرة في شوارع المدينة المحادية لسبتة السليبة، كافية لملامسة تلك الصورة القاتمة التي حملها بوح الياسيني لهسبريس؛ فكل شيء يغط في سبات عدا تحركات مجموعات متفرقة من المشردين، تصول وتجول بالشوارع والأزقة تتسوّل دريهمات لزبائن المقاهي والمطاعم، وآخرين منزوين بأماكن مهجورة، أو قبالة البحر، شاخصة أبصارهم نحو مرمى البصر، تفكيرهم يعانق حلما سرمديا، فيما أنوفهم تستنشق أكياسا بلاستيكية كأنها تحمل جرعات أمل تخمد عذابات الواقع وبواعث الألم في دواخلهم.

حلم الهجرة يغرق الفنيدق

يربط محمد عزوز، فاعل جمعوي بالفنيدق، بين استفحال ظاهرة التشرد بالمدينة وظهور ما سمي بقارب “الفانطوم” بسواحل عمالة المضيق الفنيدق، قبل سنتين، الذي تناسلت حوله إشاعات تفيد بقيامه بعمليات تهجير غير شرعية، “منذ ذلك الحين، بدأت مجموعات من المراهقين والقاصرين تتوافد على المدينة بغرض الهجرة”، يقول عزوز، معتبرا أن “طيّ هذا الملف لم ينه حلم الوافدين على الفنيدق الذين مكثوا بها يتربصون فرص مغادرتها نحو إسبانيا”.

وأوضح الناشط الجمعوي ذاته، في تصريح لهسبريس، أن “حلم الهجرة حوّل الفنيدق إلى مدينة للمشردين، وهو إشكال ساهم في تناسل ظواهر اجتماعية سلبية ذات علاقة، أبرزها التسوّل والسرقة والمبيت في العراء”، معتبرا أن ظاهرة التشرد عادت لتطفو على السطح مجددا مع بداية أزمة فيروس كورونا، “بلجوء عدد من المشردين إلى محاولة العبور نحو سبتة بشتى الوسائل، ليحظوا بمأوى في مركز الإيواء في أفق أن تحين الفرصة لاستكمال حلم الهجرة نحو الضفة الشمالية”، وفق قوله.

ويرى عزوز أن “هذا الحال شجّع عددا من المراهقين والشباب على النزوح إلى الفنيدق، وهو ما حوّلهم إلى مشرّدين بشوارعها”، داعيا المسؤولين إلى “ضرورة التدخل العاجل لوضع حد لهذا الوضع”، والإسراع بالبحث عن حلول ناجعة للظاهرة التي انضافت إلى المشكل الأساسي للمدينة، المتعلق بالأزمة الاقتصادية التي أرخت بظلالها عليها بعد إغلاق معبر سبتة، مشددا على أن تناسل كل هذه المشاكل وتفاقمها “ستكون له أبعاد وانعكاسات وخيمة وخطيرة على المدينة وساكنتها”.

انعكاسات اجتماعية مقلقة

“بدل أن تستقطب الفنيدق الاستثمارات والمشاريع، أصبحت تستقطب أعدادا من المشردين، ما عمّق الفوضى والعشوائية التي تعيشها منذ مدة”، هكذا يلخص عمر الياسيني، أحد النشطاء المدنيين بالفنيدق، واقع المدينة، مؤكدا أن “ظاهرة التشرد التي استفحلت مؤخرا، فرّخت ظواهر اجتماعية سلبية أخرى تسيئ لصورة المدينة التي أصبحت تعرف تزايدا في نسبة المدمنين على المخدرات والكحول، وتفاقم أعداد المتسوّلين، وهو ما يشكل كذلك بيئة خصبة لتفشي السرقة”، معتبرا أن الأمر “يدعو للقلق”.

وتابع الياسيني حديثه لهسبريس بأن “ظاهرة التشرد أصبحت مصدر إزعاج لساكنة الفنيدق بشكل عام، ولزبائن المقاهي والمطاعم وأصحاب المحلات الغذائية على وجه الخصوص، نتيجة إلحاح المشردين في التسوّل”، وزاد: “أينما وليت وجهك، تصادف جموعا من المراهقين، ذكورا وإناثا، في وضعية رثة، إنه لأمر مؤسف حقا، ولا بد من إيجاد حل لهذا الوضع حتى لا يتحول إلى آفة اجتماعية من شأنها أن تشكل مصدر تهديد للسلم الاجتماعي”.

واعتبر المصدر ذاته أن “لجوء هؤلاء المشردين إلى المبيت في العراء، في ظل غياب أي مأوى يحميهم من تقلبات الطقس، خاصة في فصل الشتاء، لا يخلو من مخاطر”، موضحا أن “برودة فصل الشتاء قد تشكل خطرا على حياة هذه الفئة المنسية، كما قد لا تسلم من مخاطر الاستغلال الجنسي من طرف بعض الذئاب البشرية”، وزاد قائلا: “إذا كانت تداعيات جائحة كورونا قد أثرت سلبا على من يملك دخلا قارا، فما بالك بمن لا يملك شيئا”، داعيا المسؤولين إلى التدخل العاجل لإنقاذ هذه الفئة الاجتماعية الهشة.

انعدام برامج الإدماج

ساءلت خديجة الزياني، نائبة برلمانية عن حزب الاتحاد الدستوري بعمالة المضيق الفنيدق، دور الدولة وبرنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية الذي يستهدف 11 فئة، منها المشردون، على مستوى العمالة، مشيرة إلى أنه “إلى حد الآن، لا يوجد أي مأوى مخصص لهذه الفئة، وما من مبادرة تستهدفهم باستثناء نشاط موسمي تنظمه بعض الجمعيات كل فصل شتاء، بتنسيق مع السلطة المحلية، يطلق عليه اسم حملة الليالي الدافئة، يتم خلاله توزيع الأكل والملابس عليهم”، نافية وجود أي مبادرة لإعادة إدماجهم.

ولفتت الزياني إلى أن مركزا إقليميا للمساعدة الاجتماعية تم إحداثه بمرتيل، “لكن لا يمكن القول إنه يفي بالغرض بشكل كاف، لكون وظيفته تقتصر على تقديم المساعدات للمشردين بإعادة إدماجهم في محيطهم العائلي”، مشددة على أنه “غالبا ما يفر هؤلاء الأطفال مجددا من أسرهم، بعد إعادتهم إليها”، مرجعة الأمر إلى “التفكك الأسري والفقر والاشتغال في سن مبكرة، وهي ظروف لا تلائم وضعية الأطفال لأن مكانهم الطبيعي هو المدرسة”، وفق رأيها.

وأفادت النائبة البرلمانية ذاتها، في حديث لهسبريس، بأن مركزا كبيرا كان قد تم بناؤه بمدينة الفنيدق، “وكان من المفروض أن يخصص كمأوى؛ إذ شُرِع في تأهيله وتجهيزه حتى يتمكن من إعادة إدماج المشردين وتكوينهم، لكن للأسف الشديد، لم تتم الاستفادة منه، وتم تحويله إلى مركز للمسنين دون أن تعرف أسباب ذلك”، لافتة إلى أن “المركز كبير، وعدد المسنين الذين لدينا قليل جدا”، بحسب قولها.

وتابعت قائلة: “كنائبة برلمانية، طرحت أكثر من سؤال بخصوص هذه الظاهرة على القطاع المعني، وفي غالب الأحيان تكون الإجابة فضفاضة ولا تقدم جوابا شافيا يمكنه حل الإشكال”، مشددة على أنه “إذا لم يتم تدارك الأمر، فإن هذه الفئة، ستصبح مشروع أطفال شوارع في المستقبل”، محذرة من أن ذلك قد يعرضها لحوادث سيئة، “أخطرها أن يكونوا عرضة لحوادث سير مميتة، خاصة أثناء محاولتهم التسلل إلى سبتة عبر شاحنات قد تنتهي بدهسهم تحت عجلاتها”، وفق تعبيرها.

hespress.com