تقوم مؤسسة راند الأمريكية للأبحاث بالتعاون مع وزارة الدفاع الأمريكية، منذ خمسينيات القرن الماضي، بتصميم محاكات لمناورات عسكرية وبوضع نماذج للسيناريوهات الأمنية العملية التي يمكن أن تواجهها الولايات المتحدة؛ مثل خوض حرب على جبهتين في وقت واحد ضد روسيا والصين.

والآن، حولت مؤسسة الأبحاث أدوات “سياسة الواقع” لديها للتعامل مع قضايا أكثر ارتباطا بمجالات البيئة، ومن هذا المنطلق تساءل مارك شامبيون، كبير محرري الشؤون الدولية، في تحليل نشرته “وكالة بلومبرغ للأنباء”، عن الكيفية التي ستغير بها الطاقة النظيفة العالم.

وذكر شامبيون أن مؤسسة راند أصبحت واحدة ضمن عدد قليل؛ لكنه يتزايد من مؤسسات البحث والجامعات وحكومة أوروبية واحدة على الأقل أصبحت تضع سيناريوهات وتنظم المناورات التدريبية للتعامل مع التداعيات الجيوسياسة لسيطرة الطاقة النظيفة على العالم في المستقبل.

ويمثل هذا الاهتمام أحدث إشارة إلى أن فكرة استخدام مصادر الطاقة المتجددة كبديل للوقود الأحفوري تسود حاليا؛ فقد كان العام الماضي نقطة تحول عندما انضمت الصين، وهي أكبر مصدر لتلوث الهواء في العالم، إلى باقي الدول والشركات الكبرى في تحديد موعد مستهدف للتخلص تماما من الانبعاثات الكربونية.

كما أن الاتحاد الأوروبي أنتج لأول مرة كميات كهرباء من المصادر المتجددة غير الكربونية تفوق الكميات المولدة من المصادر الكربونية، بينما أعاد الرئيس الأمريكي، جو بادين، قضية مكافحة التغير المناخي إلى جدول أعمال الرئاسة الأمريكية، بعد أن كان سلفه دونالد ترامب قد تجاهلها.

ويقول أولافور راجنار جريمسون، رئيس أيسلندا السابق الذي كان يرأس لجنة دولية لدراسة الجوانب الجيوسياسية للتحول في مجال الطاقة، إن “أي شخص يمكن أن يكون لاعبا رئيسيا في مجال الطاقة. هذه هي طبيعة الطاقة المتجددة”.

ويرى جريمسون أن المستقبل للطاقة النظيفة. وأصبحت أيسلندا تحصل على 85 في المائة من احتياجاتها من الطاقة من مصادر نظيفة، ويعتمد كامل إنتاجها من الكهرباء على مصادر متجددة. وكانت آخر مرة خاضت فيه أيسلندا نزاعا مع دولة أخرى حول موارد طبيعية، دارت حول مصائد الأسماك.

وقال جريمسون: “العالم يحتاج إلى نموذج جيوسياسي جديد (…) لا يمكن وضع مصادر الطاقة المتجددة في إطار النموذج القديم نفسه الخاص بطاقة الفحم والنفط”.

وحتى تفرض الطاقة المتجددة هيمنتها على العالم، يمكن أن تكون للنفط تأثيرات مدمرة طويلة المدى. فعلى مدى ثلاثة قرون تقريبًا كان الوصول إلى الوقود الأحفوري يحدد صعود وسقوط القوى العظمى؛ فقد ساعدت مناجم الفحم الوفيرة والموجودة في مواقع جيدة على إطلاق الثورة الصناعية لبريطانيا وتوسيع إمبراطوريتها.

كما عزز النفط والغاز القوة العسكرية للاتحاد السوفيتي السابق، وشكلت ثروة النفط والغاز ملامح “القرن الأمريكي”، بما في ذلك التحالفات الأمريكية وانتشار أساطيل الولايات المتحدة العسكرية حول العالم.

أما اندرياس جولدتو، رئيس مشروع دراسة التأثيرات النظامية للتحول نحو الطاقة النظيفة الذي تديره جامعة إيرفورت الألمانية، فإنه يقول: “نحن لم نقترب بعد من عالم تسيطر عليه الطاقة المتجددة”.

ويرى شامبيون أنه يمكن أن تكون لهذا التحول الأساسي في النظام العالمي تداعيات عديدة؛ حيث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يكافح من أجل المحافظة على صعود روسيا “كقوة عظمى في مجال الطاقة”.

كما أن انهيار صناعة الزيت الصخري في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب سيطرة الصين على صناعة مستلزمات الطاقة المتجددة، يمكن أن تحدد خريطة القوى العظمى في القرن الحادي والعشرين.

كما أن مبررات التحالفات والقواعد العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط قد تتراجع. أيضا يمكن أن يؤدي اختفاء العائدات الضخمة لتصدير النفط والغاز إلى انتفاضات شعبية، على غرار “الربيع العربي” في دول بترولية.

ويقول جولدتو إن الشيء الوحيد الذي نعرفه عن مراحل التحول هو أنها “ليست خطا مستقيما أبدا”. فلننظر إلى الصراعات في جمهورية يوغوسلافيا السابقة بعد انتهاء الحرب الباردة، أو إلى التحول من الاقتصاد المخطط إلى الاقتصاد الحر الذي بدأ في أواخر الثمانينيات. كما أن الكثير من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق من أوكرانيا إلى تركمانستان مازالت تعاني من الاضطرابات وبعيدة جدا عن النظام الديمقراطي بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود.

ويقول إيريك وارنيس، كبير خبراء الاقتصاد في شركة إيكوينور للطاقة النرويجية المملوكة للدولة، إنه من الصعب رؤية انتقال سلس وسريع إلى الطاقة النظيفة في ظل البيئة التنافسية والنزعات القومية السائدة في العالم حاليا. وشارك وارنيس في لجنة جريمسون، ويتفق بشكل عام مع استنتاجاتها المتفائلة بشأن مستقبل الطاقة.

ويضيف وارنيس: “لكي يحدث التحول الكامل في مجال الطاقة قد نحتاج إلى مناخ جيوسياسي معتدل نسبيا (…) وبدرجة ما، فإن هناك دائرة إيجابية علينا إنشاؤها لتوفير هذا المناخ”.

ويقول شامبيون إنه على الرغم من أن مصادر الطاقة النظيفة من الشمس إلى الرياح وأمواج البحر متاحة للجميع تقريبا، فإن المعركة ستكون حول من سيحقق أرباحا من المنتجات المستخدمة في إنتاجها.

وستكون هناك منافسة حامية بين دول العالم من أجل الحصول على احتياجاتها من ألواح الطاقة الشمسية وتوربينات طاقة الرياح، وهو ما يعني أن الكثير من الدول الأقل حظا لن تحصل على نصيبها من هذه المنتجات.

وتنتج الشركات الصينية حاليا حوالي 60 في المائة من إجمالي إنتاج العالم من ألواح الطاقة الشمسية؛ وهو مستوى من السيطرة تحلم به منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) عندما يتعلق الأمر بسوق النفط حاليا.

هذا الوضع يخلق ميزة تجارية كبيرة للصين؛ ولكن لا يمكن للرئيس الصيني، شي جين بينج، الاستفادة منها بسهولة لتحقيق أهداف جيوسياسية.

وعلى الرغم من ذلك، فإنه من المرجح أن تتركز عدم المساواة والتنافسات العالمية على الوصول إلى التكنولوجيا والتمويل ووضع المعايير والسيطرة على التجارة في المواد الخام الأساسية المستخدمة في صناعة مستلزمات مشروعات الطاقة المتجددة، حيث تسيطر الصين على أكثر من 90 في المائة من بعض المعادن الأرضية النادرة اللازمة لصناعة توربينات الطاقة والسيارات الكهربائية.

وقد استخدمت الصين، بالفعل، هذا الوضع الاحتكاري مرة واحدة؛ ما أدى إلى توقف إمدادات هذه المعادن إلى اليابان، بعد نشوب نزاع بين البلدين عام 2010 بشأن السيادة على مجموعة من الجزر.

hespress.com