تاريخيا، ظلت المحاكم وما تعج به حاضرة بقوة كـ”تيمة” كبرى في السينما، وشكلت موضوعا شائكا ومعقدا في أبعاده الاجتماعية والقانونية والنفسية والسياسية والحقوقية. واختلف تناول موضوعة المحامين وصورتهم في السينما من منطلقات متعددة، وكذلك اختلفت داخل القصص السينمائية ألوان المحامين والمحاميات والقضاة والمتهمين بين الطيب والسيء والخبيث…

غدت قاعة المحكمة مشاهد سينمائية بامتياز بكل ما فيها من صراعات بين هيئات الدفاع والقضاة والمحلفين والمتهمين والشهود وحراس الأمن، وما تحمله ردهات المحاكم من رموز وصور ومن حركات جسدية ومن نبرات تعلو وتيرتها وتنخفض، ومن نظرات تتراوح بين الحقد والغبن والفرح. عكست السينما الأجواء العامة للمحكمة بعمارتها الهندسية وبما فيها من لباس القضاة ولباس المحامين وأناقتهم وأوراقهم ومحفظاتهم وتسجيل ملاحظاتهم على الأوراق وهمساتهم، وحضور العائلات المتابعة وقلقها، والرسامين، وفي بعض الأحيان نجد قاعة المحكمة غاصة بالمتجمهرين وأمام أبوابها عدد كبير من الجماهير المنتظرة والمتظاهرة ومن الصحافيين بكاميراتهم ينتظرون تصريحا من لدن المتهمين. السينما دققت في كل هذه التفاصيل وفي جزئياتها.

أبرزت السينما شخصيات المحامين وأهميتهم في عالم السينما، وتناول موضوعها القتل والاغتصاب والسرقة والانتحال والسياسة والصحافة والإعدام وأمراض المجتمع… نستعرض في هذا المقال مشاهد من أفلام بارزة تناولت موضوعة المحامين بأكثر من اتجاه نقدي.

فيلم “فيلادلفيا”

أكثر من عقد من الزمان بعد تحديد الإيدز لأول مرة بأنه مرض، يمثل فيلم “فيلادلفيا” (119 دقيقة / إنتاج أمريكي / 1993 / إخراج جوناتان ديم) مخاطرة كبيرة لهوليوود بفيلم بميزانية كبيرة حول مرض السيدا. ويعتمد على الصيغة الآمنة لدراما قاعة المحكمة لإضافة التشويق والحسم في قصة تتسم طبيعتها بالمعقدة.

“أندرو بكيت” في دور طوم هانكس، محام مثلي الجنس، يصاب بالإيدز. ونتيجة لإصابته به، تقوم شركة المحاماة التي يعمل بها بفصله عن العمل خوفا من انتقال العدوى إلى زملائه. يقرر أندرو مقاضاة شركته السابقة ويستعين بالمحامي “جو ميلر”، أدى دوره “دينزل واشنطن”، الكاره لمثلي الجنس. في أثناء سير القضية يكتشف ميلر أن أندرو لا يختلف عن أي شخص آخر وأن كونه مثلي الجنس لا ينقص منه أي شيء، فيحاول مساعدته في أخذ حقه قبل أن يتمكن المرض منه.

لا يحب ميلر المثليين لكنه يوافق على أخذ القضية في الغالب من أجل المال والبحث عن العدالة. تندرج القصة في الأنماط المألوفة للمواجهة في قاعة المحكمة حيث لعبت ماري ستينبرغن دور محامية الشركة القديمة بشخصية تتسم بعدم الرغبة فقط في دفاع احتيالي وتهمس إلى أحد أعضاء فريقها “أنا أكره هذه القضية!”. يعمل السيناريو الذي قدمه “رون نيسوانير” بمهارة لتجنب العبارات المعتادة في قاعة المحكمة. حتى مع تقدم القضية يتحول مركز ثقل الفيلم من المحاكمة إلى تقدم مرض بيكيت. بحلول الوقت الذي تصل فيه المحاكمة إلى نهايتها، تكون النتيجة المتوقعة في الغالب بمثابة نقطة مقابلة للنهاية الحقيقية للفيلم. يعتبر “فيلادلفيا” فيلما جيدا للغاية بشروطه الخاصة في إطار إبراز الصراع بين مكاتب المحاماة والمنافسة الشديدة بينهم وإبراز ما تعج به هذه المكاتب…

فيلم “بعض الرجال الطيبين”

فيلم “بعض الرجال الطيبين” (A Few Good Men) (134 دقيقة / 1992/ إنتاج أمريكي / إخراج روب رينر) نص فولاذي بأداء متوتر واتجاه متطلب وفعال. فيلم مثير للاهتمام ببعث سينما القانون العسكري وبجذب اهتمام المشاهد من البداية الى النهاية.

عن محاكمة عسكرية لبعض البحارة اتهموا في جريمة قتل مزعومة. أداء رائع من توم كروز بصفته محاميا، ومجموعة كبيرة من الشخصيات العسكرية: جاك نيكلسون، كيفن بيكون، كيفر سادرلاند، ديمي مور، كيفن بولاك… انطلاقا من مقولة “ليس كل ما يلمع ذهبا”، سيتعين عليهم القتال بدون أسلحة فقط بقوة الكلمة لتحقيق العدالة لصالح الأضعف (بلانكا مورسيا).

“A Few Good Men” هو أحد الأفلام الهوليوودية السائدة بامتياز، يحتوي على جميع عناصر النجاح: نجوم من الدرجة الأولى في هوليود، ميزانية ضخمة، نص جيد، ومواقف حادة بين هيئة الدفاع التي لن تهدأ.

نقطة انطلاق الحكاية وفاة جندي في قاعدة خليج غوانتانامو البحرية بكوبا. سرعان ما اتهم شابان من مشاة البحرية، هما داوسون وداوني، بالقتل؛ حيث يبدو أنهما تماديا في تعريض الضحية لإجراءات تأديبية غير محدودة تسمى “الرمز الأحمر” لانتهاكهما التسلسل القيادي في فصيلتهما.

للدفاع عنهما تم اختيار محامي البحرية خريج كلية الحقوق بجامعة هارفارد، الملازم دنيال كافي (توم كروز)، الذي يتمتع بسجل لا تشوبه شائبة في الدفاع المستميت عن المتهمين والبحث في القضية من خلال عمليات التتبع والتحري الدقيقة.

يبرز الفيلم ذهابًا وإيابًا جلسات استراتيجية لفريق الدفاع واستجوابات الجناة والندية بين دنيال كافي ومحامي الادعاء، وشدة التنافس والخبرة والمهارات في استحضار الوقائع ومناقشتها وتبادل الآراء المحتدم بين المحامين.

يعمل المخرج روب راينر على استخلاص أقصى استفادة من المواد وممثليه من خلال المسارات المتكررة للشخصيات من اندفاع الإثارة إلى أعماق اليأس، التي ستمنح المتفرج رحلة أفعوانية عاطفية مُرْضِية يتم التلاعب فيها به.

فيلم “وجهان للحقيقة”

فيلم “وجهان للحقيقة” (Primal Fear) (إنتاج أمريكي/ 1996/ 131 دقيقة / إخراج غريغوري هوبليت) مأخوذ عن رواية لوليام ديل، من بطولة “مارتن فيل”، أدى دوره ريتشارد جير، محام لامع في شيكاغو يطارد القضايا المتسمة بالإثارة. يتسم المحامي بالذكاء والدقة ولكنه مدفوع بالغرور، انفصل مؤخرًا عن مساعدة شابة تدعى جانيت فينابل (لورا ليني) وهي الآن خصمه في هذه القضية. يتطوع بخدماته عندما يُتهم مراهق من كنتاكي بقتل رئيس أساقفة.

لماذا؟ لأنه يعلم أن القضية ستكون الأكثر إثارة في العام ويريد أن يكون في صلب الحدث لأن هذه القضايا المثيرة تحظى بدعاية كبيرة تستحق الوقوف والمجابهة، وربما لأنه يعتقد أن الطفل قد يكون بريئًا.

قُتل رئيس الأساقفة في مشهد مروع وألقي القبض على المشتبه فيه، آرون ستامبلر (إدوارد نورتون)، بعد وقت قصير، عقب مطاردة مع الشرطة تم بثها على الهواء مباشرة. إنه مغطى بدماء رئيس الأساقفة. تدعوه العناوين الرئيسية “فتى الجزار لسانت مايك”. لكن هل ارتكب الجريمة؟ تقوم عالمة نفس تدعى مولي أرينجتون (فرانسيس مكدورماند) بفحصه أمام المحكمة، ويعتقد أن السؤال ليس له إجابة بسيطة، لأن الفتى تحت ضغط شديد ويشير إلى وجود شخص آخر في الغرفة.

يبدو أن المحامي مارتن فيل في قلب كل هذه الأحداث. هل من الممكن أن يكون آرون الشاب ساقطا في مؤامرة أكبر وأكثر شراً؟ الحبكة جيدة مثل حبكات أفلام الجريمة المشوقة ولكن الفيلم يحتوي على حبكة معقدة بسبب الشخصيات وأبعادها.

يدور الفيلم حول من فعل الجريمة؟ ولماذا؟ وحول شعور الشخصيات حيال ما حدث. ويستخدم المخرج تفاصيل حبكة المتاهة كخلفية لقضايا الهوية لأن هذا الفيلم له بعد تجاري. فالجريمة بالطبع مثيرة والاكتشافات مذهلة، لكن شخصية الممثل ريتشارد جير جيدة جدًا إلى درجة أنه منح الفيلم قوة دعم إضافية بقوته الأدائية.

فيلم “العدالة للجميع”

فيلم “العدالة للجميع” (And Justice for All) (إنتاج أمريكي 1979/ 117 دقيقة / إخراج نورمان جيوسون)، فيلم رائع عن قاض متهم بالاغتصاب والمحامي آرثر كيركلاند (آل باتشينو) أجبر على الدفاع عن القاضي الفاسد والمتهم بالاغتصاب. قاض لديه مشاكل مهنية خطيرة مع المحامي لأنه في إحدى المرات رفض الاعتراف بسبب شكليات بسيطة بأدلة دامغة تثبت براءة أحد موكليه.

دراما متواضعة للمحامين عن أخطاء النظام القضائي الأمريكي. فيلم شكوى صريح عن شخصيات تقلل من الحقيقة من خلال الأحداث الرهيبة التي يتم سردها. يخفي السيناريو أكثر من حبكة واحدة لكن في الفيلم مشاهد عنف، وقبل كل شيء يساهم حضور آل باتشينو المتميز في تنشيط الفيلم بشكل كبير.

فيلم “باسم الأب”

يتمحور الفيلم حول “جيري كونلون”، المواطن الإيرلندي الذي يدان عن طريق الخطأ بمشاركة “الجيش الجمهوري الإيرلندي” في التفجير الذي أودى بحياة خمسة أشخاص في مدينة غيلفورد.

يُظهر فيلم “باسم الأب” (In the Name of the Father) (إنتاج 1993/ إخراج جيم شيريدان) أهمية احترام النزاهة الشخصية وقواعد الإجراءات القانونية الواجبة للوصول الفعال إلى العدالة. شكوى اجتماعية مروعة حول السجن الحقيقي لأب وابنه المتهمين زوراً بارتكاب هجوم خلف خمسة قتلى. يمثل الفيلم دراما سجن بسيطة وتعبيرا عن النضال من أجل حقوق الإنسان في الحرية والنزاهة ضمن صدمة السجن الجائر. تظهر علاقة الأب والابن بمشاعر مختلطة عديدة: الإحباط والحب والعجز والاحترام وعدم التسامح. العمل الدرامي عالي المستوى ويتم حقن كل مشهد بنوع من التوتر باللحظات التي يشاركها الأب والابن. يتقدم سوء الفهم والغضب والعجز مشاعر مع تقدم الفيلم وتتحول في النهاية إلى فرح داخل قاعة المحكمة. الفيلم نص رائع يحمل قصة يتخللها الرعب مع الحنان بأبعاد الاحتقان السياسي.

تمكن المخرج شيريدان من استخراج الذهب من أداء الثلاثي الرائد دانيال داي لويس، وبيت بوستليثويت والممثلة إيما طومسون. يمثل كل مشهد يشاركه الأب والابن ذروة المشاعر المطلقة في سينما التسعينات. تبرز إيما طومسون التي تعرف كيف تمنح الكرامة والإنسانية في دور قصير لكنه رائع. باختصار فيلم رائع يعتبر أحد أفضل الأعمال الدرامية التي تجعلنا نتساءل عن النظام القضائي والكفاح من أجل الحقوق الأساسية. إنه شكوى اجتماعية كاملة بكل التفاصيل وصراعاتها.

فيلم “الزبون”

فيلم “الزبون” (The Client) (إنتاج 1994/ 116 دقيقة / إخراج جويل شوماخر) لديه كل شيء لينجح، حبكة مثيرة للغاية وسيناريو جيد التوجيه من قبل المخرج يتورط فيه أطفال في جرائم قتل أو انتحار/ مافيا / شرطة / محامون … والكل ينظرون إلى شاهد واحد.

اختار مارك وشقيقه يومًا سيئًا للتدخين في الغابة حيث ذهب محام له علاقة وطيدة بالمافيا لينتحر. بالمصادفة يقوم بإخبار الطفل بسر … من شأنه أن يضعه في مشكلة خطيرة. الكل يريد أن يعرف السر لكنه الطفل يرفض إخبار أي شيء. في هذا الصدد تظهر المحامية سوزان ساراندون (في دور ريجينا ريجي لوف) على الساحة والتي تعمل كمحامية في البداية وكصديقة لاحقًا لمصلحة الصبي وعائلته. والدة الصبي امرأة مطلقة ولديها طفلان قاصران وتعيش بالكاد في مقصورة وتعمل بجد في وظيفة سيئة لإطعام أسرتها، تشهد حياتها اضطرابا كبيرا.

سنستمتع بشد الحبل بين فريق المدعي العام روي الذي أدى دوره تومي لي جونز، والمحامية والصبي، لنرى من يأخذ القطة إلى الماء أولاً. تكون المؤامرات والتوتر جزءًا مهمًا من حبكة هذا الفيلم النفسي تمامًا. حتى المافيا ترى أن السر معرض للخطر إلى درجة أنها وضعت الصبي تحت المراقبة لقتله وبقية أفراد عائلته الفقيرة والمهشمة. فيلم تشويق جيد جدًا يستمر حتى النهاية.

فيلم “التحالف مع الشيطان”

فيلم “التحالف مع الشيطان” (The Devil’s Advocate) (إنتاج أمريكي/ 1997/ إخراج تايلور هاكفورد). كيفين لوماكس (كيانو ريفز) محام شاب لامع لم يخسر أي قضية، يعيش في فلوريدا سعيدا مع زوجته ماري آن (تشارليز ثيرون). في أحد الأيام يتلقى زيارة من محامٍ في نيويورك يمثل شركة محاماة قوية تنوي تعيينه. على رأس الشركة المرموقة جون ميلتون (آل باتشينو)، رجل دنيوي، لامع وجذاب لديه خطط مظلمة للغاية.

في هذا الفيلم يظهر الشيطان مرة أخرى ليستعير جسد آل باتشينو ليدخل عالم البشر. هنا يبحث الشيطان عن ابنه ليس فقط لتحويله إلى المسيح الدجال ولكن ليريه العالم كله الذي يمسنا.

“الناموس هو الكهنوت الجديد”، لذلك فإن للقصة خلفية كاملة مبنية على القانون. تجريد كامل لنظام القوانين المرعب حيث المال والسلطة هما الإله الوحيد وحيث تسود المملكة المادية على الشخصية العاطفية ودفع ثمن الأخطاء.

العالم في فوضى: تبجح في الأخلاق والأفكار والمشاعر. يُظهر الفيلم أن كل الشر الذي يثقل كاهلنا هو خطأ الشيطان، لكنه يحاول أن يجعلنا نرى أن الشيطان هو قوة بشرية تولد داخل كل فرد ويأخذها كيفن لوماكس (كيانو ريفز) إلى السطح.

سيبيع لوماكس روحه من أجل المجد وبطريقة ما يكون جون ميلتون هو الشخص الذي يمنحه هذه الفرصة. ميلتون (باتشينو يعيد الحياة إلى الشيطان الأكثر مصداقية وإعجابًا) الذي يستأجر أكبر شركة محاماة كيفن لوماكس ليلعب دور “محامي الشيطان” ويضع العالم بين يديه.

“الخطأ هو كيس من الطوب عليك فقط إسقاطه”، كيانو ريفز هو الذي يحمل ثقل الكيس. يُظهر الفيلم آل باتشينو كيف يمكن أن يكون الشيطان والكشف عن الحقيقة، مما يجعلنا نتعرق بمونولوج طويل ويجعلنا نفكر في ما نراه وما نعتبره أمرًا مفروغًا منه.

يتم الكشف عن الخطايا الكبيرة باعتبارها الرذائل الأكثر شيوعًا في عصرنا، ومعروف جيدًا أن الجملة الأخيرة التي نطق بها باتشينو: “الغرور، بالتأكيد خطيئتي المفضلة”.

ينتمي المخرج هاكفورد إلى جيل المخرجين الذين يعرفون كيفية التعامل مع تقنيات السينما التجارية (الحركة والمؤثرات الخاصة) بقصص ذكية ومعقدة؛ حيث يجبر المُشَاهِد على تكملة الفيلم حتى النهاية.

في كل فيلم ينضاف إلى فيلموغرافية المحامين هناك إضافات جديدة ونهل من هذا التاريخ الكبير لهذه الموضوعة المتسمة بالتعقيد والتركيب والشحنات العاطفية وسياقاتها التاريخية وأبعادها. يتعدد موضوعها ويختلف من فيلم إلى آخر وكذلك الرؤى الإخراجية والغوص في ثنايا الشخصيات ومعها القدرة الأدائية وقدرة كتاب السيناريو على تحويل النص الروائي إلى فيلم ممتع يجعل المتفرج متعطشا لمشاهدته. ذاك وقع السينما في النفوس التي تبحث عن العدالة المفقودة…

hespress.com