
أسرفت المجموعة الإعلامية الألمانية “DW”، في الآونة الأخيرة، في التعاطي مع قضايا المغرب والمغاربة، سواء الداخلية منها أو الخارجية.
وتجسد هذا الإسراف و”السخاء الإعلامي الألماني” إزاء المملكة في محتويات رقمية وقصاصات متواترة استهدفت المؤسسات الوطنية، والمصالح الأمنية المغربية على وجه التحديد.
ولما قررت المؤسسة الأمنية المغربية، ممثلة في المديرية العامة للأمن الوطني، ممارسة حقها في الجواب والرد على مزاعم وادعاءات “DW” غير المبررة، إيمانا منها (أولا) بممارسة هذا الحق غير القابل للتصرف، وتجسيدا (ثانيا) لواحد من التمرينات الديمقراطية في مجال حرية التعبير وهو حق الرد وتصويب الأخبار الزائفة، قررت المجموعة الإعلامية الألمانية الهروب إلى الأمام والتنصل من مسؤوليات نشر التصويب المغربي بدعوى احترامها “لحرية التعبير”.
لكن ماذا حدث خلال الفترة الفاصلة بين تاريخ توصل “دوتشيه فيليه” بحق الجواب الصادر عن الشرطة المغربية وتاريخ نشرها لتقييدات النشر المرتبطة بتغطية أحداث القدس الأخيرة؟
هل جرت في ألمانيا مياه آسنة حلحلت مفهوم حرية التعبير وجعلته يخضع لمراجعات جذرية؟ وهل مواقف ألمانيا الاتحادية من الأحداث الدولية والإقليمية أصبحت مرجعا محددا لحرية الرأي والتعبير؟ أو بتعبير آخر، هل الصحافي الذي يشتغل في “DW” يكون حرا في تغطية أحداث المغرب وتركيا وغيرهما ولا يكون كذلك عندما يتعلق الأمر بإسرائيل والقدس وفلسطين؟
حرية التعبير أو “حصان طروادة الإعلامي”
في 21 يوليوز 2020، نشرت “دوتشيه فيليه” تقريرا صحافيا رقميا يتهم الشرطة المغربية بملاحقة وتعذيب الصحافيين، وهو التقرير الذي اعتبر، وقتئذ، الناطق الرسمي باسم المديرية العامة للأمن الوطني أنه “مشوب بالتحريف ومفعم بالأخبار الزائفة ومجانب لأخلاقيات المهنة الصحافية”، خصوصا وأن مصالح الأمن الوطني، يضيف الناطق الرسمي باسم مصالح الأمن، “تتوفر على أكثر من 20 بنية مركزية ولا ممركزة للتواصل كان من الممكن ربط الاتصال بها للتحري حول المزاعم الزائفة المنشورة في محتوى دوتشيه فيليه”.
ولم تقتصر المغالطات المنشورة في تقرير “دوتشيه فيليه” على المدير العام للأمن الوطني، الذي تم تقديمه على أنه يشغل مهمة مستشار ملكي، بل طالت هذه المغالطات حتى مواقع إلكترونية مغربية مستقلة تم تصويرها بشكل مغلوط على أنها تابعة للحكومة والدولة المغربية. أكثر من ذلك، فالمجموعة الألمانية حاولت في هذا التقرير الممنهج أن تنسب للمغرب توفره على “بنيات سرية” تابعة لمعتقل غوانتانامو سيء الذكر!
وتصويبا لهذه المزاعم والمغالطات، أوضح مصدر أمني وقتها أن الشرطة المغربية راسلت مجموعة “دوتشيه فيليه” لدحض الأخبار الزائفة المنشورة وتبديد اللبس الذي قد تتسبب فيه مثل هذه المغالطات لدى الرأي العام، وذلك تكريسا منها للحق في الجواب المكفول بموجب القوانين والأعراف المهنية، لكن اللافت للنظر أن المجموعة الألمانية لم تنشر بيان حقيقة الأمن المغربي، وانتظرت أكثر من شهرين لتعلل موقفها غير المفهوم بحصان طروادة الجديد ممثلا في أن “التقرير لا يخرج عن نطاق حرية التعبير!”، وكأن الكذب والتجني على الشرطة المغربية وعلى الصحافة والمؤسسات الوطنية هو تمرين من تمارين حرية التعبير؟ تساءل وقتها باستغراب شديد المصدر الأمني.
تقييد حرية التعبير في قضية فلسطين!
من الملاحظ أن حرية التعبير لم تعد تشكل مرجعية سامية في عمل “دوتشيه فيليه”، كما أنها خضعت، ترجيحا، لمجموعة من التلطيفات والتحسينات التي خففت من السمة الجامدة لهذا الحق الأساسي من حقوق الإنسان! إذ أضحت حرية التعبير تخضع لمجموعة من الخطوط الحمراء والتقييدات الآمرة في صفوف العاملين والصحافيين في المجموعة الإعلامية الألمانية “DW”.
فقد حددت إدارة “دوتشيه فيليه”، مؤخرا، الإطار المعياري الموحد الذي لا ينبغي للصحافيين تجاوزه عند التعليق على أحداث فلسطين وإسرائيل، بل إنها حددت لهم حتى المفاهيم ومدلولات المفاهيم التي ينبغي استخدامها في إطار إنجاز هذه التغطيات الإعلامية. أكثر من ذلك، لم تَرعوي المجموعة الألمانية عندما طلبت من صحافييها عدم التعليق على تلك الأحداث والإمعان في مهاجمة حماس بدعوى أنها جماعة إرهابية مسرفة في القتل.
والأنكى من كل ذلك، أن “دوتشيه فيليه” التي كانت بالأمس تتدثر بـ”حرية التعبير” لتسويغ نشرها للكذب والأخبار الزائفة على المغرب، هي من ترسم اليوم حدود التعبير المسموح به عند التعاطي مع قضايا فلسطين وأحداث القدس وغزة! فما هي هذه الحدود الجديدة لحرية التعبير التي رسمتها المجموعة الألمانية “DW”؟
لقد شددت في مراسلة داخلية منشورة في المنصات والوسائط التواصلية على مطالبة صحافييها بالامتناع عن تقديم “أعضاء حركة حماس بأنهم نشطاء أو مناضلون، وإنما ينبغي وسمهم بأنهم إرهابيون اتساقا مع موقف ألمانيا الرسمي من الحركة”، بل إنها حظرت “الحديث عن إقليم فلسطين بدعوى أنه إقليم غير معترف به دوليا”، وطالبت على هذا الأساس صحافييها بالاستعاضة عن ذلك بمصطلح “قطاع غزة والضفة الغربية”.
وإمعانا في “تقليم” حرية التعبير وأقلمتها مع مصالح ألمانيا، طالبت “دوتشيه فيليه” (في الوثيقة المنشورة) تحت طائلة الحظر الكامل، “كل استهداف لدولة إسرائيل، معتبرة أن ذلك يدخل في دائرة معاداة السامية”، مذكرة في هذا الصدد بما اعتبرته “الالتزامات التاريخية لألمانيا إزاء دولة إسرائيل”، بل إنها حددت لهم حتى حدود الانتقاد المسموح به الذي ينبغي أن ينصب على السياسات الإسرائيلية وليس على إسرائيل كدولة لها الحق في الوجود، وفق تعبير الوثيقة المنسوبة لمجموعة “DW”.
لقد أثار موقف “دوتشيه فيليه” من قضايا فلسطين جملة من ردود الفعل الساخطة في منصات التواصل الاجتماعي، خصوصا بعدما عبرت عن انحيازها الصارخ والصريح لإسرائيل على حساب الفلسطينيين، وعندما تنصلت أيضا وبشكل “ميكيافيلي” من مبدأ حرية التعبير، الذي أصبحت تتعامل معه بانتقائية وازدواجية مقيتة: فهو مبدأ راسخ غير قابل للتصرف عندما يتعلق الأمر بقضايا مثل المغرب، وفي المقابل هو مبدأ شكلي قابل للتصرف والزيادة عندما يتعلق الأمر بقضايا تهم إسرائيل!