ثمة قدر كبير من الاتفاق جرى تسجيله بين الباحثين والمشتغلين في حقل السياسة على أن عملية الانتقال الديمقراطي ببلادنا، هي عملية تاريخية ممتدة في الزمن السياسي للبلاد وليست محصورة بأجندات سياسية أو مقفولة على مواعيد أو دورات انتخابية أو حتى محصورة في المجال السياسي دون سواه. وهذا معناه أن المفهوم الشامل للانتقال الديمقراطي، هو ذاك الذي يمس الكيان المجتمعي برمته عبر انتقالات متعددة ومتنوعة في المجالات الديمغرافية والاقتصادية والثقافية والحقوقية والمعرفية والقيمية… إلخ. غير أن الذي لا مراء فيه هو أن الإصلاح السياسي يعتبر، فعلا، المدخل الأساس لاقتحام باقي المجالات وإحداث النقلات النوعية بداخلها.

ويمكن القول إن البداية الفعلية لعملية الانتقال الديمقراطي بالمغرب، تزامنا مع ظهور مصطلح الانتقال على المستوى العالمي وبخاصة في المجال الحقوقي، كانت مع الحكومة الائتلافية للأستاذ عبد الرحمان اليوسفي سنة 1998. وقد شكلت هذه الفترة الزمنية الممتدة إلى حدود سنة 2011 اختباراً حقيقياً لنوايا السلطة والمعارضة على السواء في مدى قدرتهم على استبطان ثقافة سياسية جديدة، هي عينها ثقافة الانتقال الديمقراطي التي تقضي، في جزء منها، بتحطيم الجدار النفسي ونزع ألغـام مختلف التوترات التي تهدد بتبديد المجال السياسي الوطني. الغاية من ذلك تثبيت ممارسةٍ سياسيةٍ سلميةٍ ومدنيةٍ تُعلي من مبادئ التوافق والتعـاقد على قواعد جديدة ناظمة لعلاقات السلطة، وتهدف، في الآن ذاته، إلى تصحيح أعطـاب المجـال السياسي وإعـادة فتح معـابره وشرايينه في أفـق صيرورته مجـالاً عمـوميا وديمقراطيـا.

إنها، إن شئنا استعارة توصيف إبراهيم أبراش، “ديمقراطية الضرورة السياسية التي سبقت ديمقراطية الثقافة السياسية”، والتي جرت على إيقاع ديناميات تصالح تاريخي، ستمكن، في حال مواصلتها، من عبور قناطر الانتقال الديمقراطي بكثير من الحس التاريخي. بيد أن شروط ذلك الانتقال لم تنضج بما يكفي لتجعل من التفاهمات المشار إليها طرقا معبدة غير محفوفة العوائق والمصاعب، مما أدخل مساراتها اللاحقة في دائرة التساؤل الذي لا يخلو من شكوك في جديتها، ومن بسطٍ لعوائقها البنيوية، وسردٍ لمشاكلها السياقية، وضُعفٍ لضماناتها الدستورية. ومع ذلك، فرغم الإكراهات القوية والتعقيدات المتنوعة والحواجز والكوابح، فثمة من يُبقي على “تفـاؤله المأساوي” ليقينه بإمكانية التغيير الإيجابي للواقع ولو في حدود. وهو التفاؤل الذي اعتبره المفكر كمال عبد اللطيف، “لا يمنع من بناء مواقف نقدية من مختلف التصورات السائدة في مجال العمل السياسي من قبيل تلك الموصولة بمنطق التقليـد، والتصورات السياسية المرتبطة بمنطق اليوتوبيا، ثم التصورات السياسية الملغـومة”.

لعله “قلق الانتقالات” (بتعبير صلاح الوديـع) من سيرورة تحول ديمقراطي تجري فصوله في زمن سياسيٍ مطبوعٍ بمختلف أنواع التجاذبات داخل بنية اجتماعية عصية عن التحديث. وعادة ما تصطدم المشاريع التحديثية، داخل هذه البنية بمقاومات شديدة، بل وبكوابح ذاتية تجترها حتى النخب والقوى الديمقراطية نفسها.

غير أن عسر ولادة الانتقال الديمقراطي ببلادنا لا يعدم إمكانية انطلاقه وبناء استراتيجياته على ما تحمله الضرورة التاريخية وحقائق التراكم السياسي من ممكنات. وبقدر ما شكل إقرار دستور 2011 لحظة تكثيفٍ لديناميات الإصلاح في عدة مجالات وتتويج لمسار طويل من التحديث السياسي، بقدر ما جسد لحظةً للتوافقات ومُحصلة وعيٍ تاريخيٍ بحتمية المرور إلى الديمقراطية على قوام التعاقد على المرتكزات الكبرى للمجتمع الديمقراطي التنموي. لذلك سيظل مطلب التفعيل الديمقراطي التوافقي للدستور مسكونا بهاجس المصالحات، التـي – على ما يبدو – لم تنضج بما يكفي لانتفاء بيئة استقباليةٍ ملائمةٍ، سياسيةٍ وثقـافيةٍ.

ليس ثمة شك في أن المخاضات الجديدة التي عرفها المجتمع المغربي قد ساهمت إلى حد ما في “إعادة تعريف السياسة” لكن من منظور مغاير ساهم فيه اختلاف اللحظة التاريخية وبروز نخب جديدة وشعارات سياسية مؤطرة تجاوزت هذه المرة حدود اللحظة الانتخابية وتجاذباتها، إلى تدشين نقاش عمومي سياسي ودستوري وثقافي مغاير، في تعاطيه وتفاعله مع مختلف التحديات والإكراهات الدولية، وفورة الأجيال الجديدة ومشروعية مطالب الحركات الاجتماعية.

وبالفعل، فقد ساهمت الحركات الحقوقية والاجتماعية، بقوة، في تحرير مفهوم الانتقال الديمقراطي من بعض حقائقه المغلقة على الزمن الانتخابي وإفرازاته المؤسساتية، وفرضت –في المقابل- الانتباه إلى الشرط الاجتماعي والثقافي لعملية الانتقال بما تفرضه من إعادة صياغة المجال السياسي والاجتماعي بفكره ونخبه ومؤسساته وسياساته العمومية على أسس تحتية جديدة، ثقافية واجتماعية، أي ثقافة حقوق الإنسان والديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية.

إنها رهانات جديدة أفرزتها ديناميات متقاطعة ومتداخلة، اخترقت الحقل السياسي والاجتماعي وأضحت تتخذ -تدريجيا- طابعا مهيكلا للنقاش العمومي غداة إقرار الوثيقة الدستورية الجديدة، تجلت أساسا في إعادة هندسة مجال السلطة، جرى تعزيزها بوثيقة الحقوق والحريات وتقوية أدوار الفاعلين السياسيين في إنتاج السياسات وإقرار صيغ جديدة للمشاركة في تدبير الشأن العام.

على ذلك، فالانتقال الديمقراطي في صيغته المغربية، بقدر ما يرتبط بدمقرطة المجال السياسي وتجديد مصادر شرعيات الدولة من داخله، بقدر ما هو مشروط بانبعاث ثقافة سياسية يشكل التوافق والمصالحة مدخلها الأساس. نحن، إذن، أمام ضرورةٍ تاريخيةٍ لثورة ثقافية في المجال السياسي العــام، تبدو معها الحاجة ماسة اليوم إلى إعـادة وعي خيار الانتقال الديمقراطي على نحو جديد، أي بوصفه مخرجا تاريخيا من الانسداد السياسي العام. وهذا يتطلب بروز جيل جديد من الفاعلين السياسيين المتشبعين بجرعات قوية من ثقافة المصالحة، والقطع مع الخطاب الذي فرض على السياسة أن تعيش مراوحة انتحارية بين مفهومٍ خلاصيٍ يتصور السياسة رسالة دينية، ومفهومٍ للسياسة بوصفها وسيلة لتحصيل المغانم. وفي الحالين معا لا يتردد أصحاب المفهومين في ادعاء حق امتلاك وتوزيع شرعيات الوجود، الدينية منها أو الوطنية أو التاريخية أو الثورية… إلخ.

إنها ثقافة سياسية حديثة تسمح بتوفير الشرط الذاتي لتسهيل وتسريع وتأمين المرور إلى الديمقراطية. ذلك أن التوافق (كما قال عبد الإله بلقزيز)” شكلٌ متقدمٌ وراقٍ من أشكال الديمقراطية وصيغة من صيغ التعبير عن إرادة حمايتها من منازعة داخلية قد تذهب بها، إذ لا شيء أضمن لتوازن المصالح ولطمأنة الهواجس بين المعتركين من تسوية واعية -إرادية وحرة- تنتهي بهؤلاء إلى مواضعات سياسية تنتقل بالعلاقة بينهم من التسوية إلى الرضى الجماعي وربما إلى ما يشبه الإجماع” .

ولأن المجال السياسي هو لوحة مفاتيح باقي المجالات وضابط إيقاعها (على رأي محمد سبيلا)، فلا يمكن تصوره مجالاً مُصدِّرا للتوترات والاحتقان إلى باقي ثنايا ومفاصل المجتمع، وتحوله إلى قوةٍ مُخلةٍ بالتوازنات ومُدمّرةٍ للنسق المجتمعي والرابطة الوطنية. بل وحتى من داخل الممارسة السياسية، ليس صحيحا أن التوافق بين السلطة والمعارضة فيه ضربٌ لأسس العمل الديمقراطي أو تواطؤ على مقدماته وتحايلٌ على أسسه الدستورية. كما سيكون من الخطأ، أيضا، اختزال الحياة السياسية الديمقراطية في أغلبية حكومية ومعارضة برلمانية، ففي ذلك خطر إقفال الحياة الديمقراطية على تقاطبٍ ثنائيٍ قاتلٍ، فضلاً عن تجاهلها لباقي الفاعلين المؤثرين في القرار السياسي من خارج المشاركة المباشرة في العملية السياسية الانتخابية، وهم هنا صناع الرأي العام من حركات اجتماعية وإعلامية/تواصلية وثقــافية.

وبقدر ما أعـاد الانتقال الديمقراطي النظر في استراتيجية العنف الثوري وأدواته الوظيفية، بقدر ما أسقط الفكرة الجهادية/الأصولية نفسها؛ ليظل في النهاية خيار المصالحة مطروحاً على جدول أعمال الدولة وقوى المجتمع، كشرط تاريخي لإخراج الديمقراطية من متاهات الانتقـال إلى حــالة الدوام والتطبيع الشامل. الاستراتيجيتين معا (الثورية والجهادية)، تنازعان الدولة شرعيتها داخل دائرة الصراع على السلطة، في أفق الحيازة السياسية والتجنيد الإيديولوجي. ولعل هذه المخاطر المتربصة بالدولة، كفيلة بإعادة صياغة معادلة الانتقال داخل المجال السياسي الوطني:

فبعدما لعبت الدولة المغربية أدوارا كبيرة وحاسمة في التأمين السلس لمسارٍ طويل من الانتقالات المتعددة للمجتمع، فإنها هي ذاتها (أي الدولة)، توجد اليوم في قلب عملية انتقال جارية وممتدة، تشمل المؤسسات والسياسات، فيما يشبه تفكيك وإعادة إدماج لعناصر القوة ومجالات التدخل، عموديا وأفقيا، داخليا وخارجيا. فمنطق اشتغال الدولة قابل للتحول الموضوعي والتكيف الاضطراري مع إشكاليات تدبير السلطة، لكن ذلك لم يعد ممكنا بمعزل عن ضرورة إنجاز مهمة تاريخية قصوى، وهي تجديد وإعادة بناء الدولة نفسها. فهل كان خطاب الزلزال السياسي للملك محمد السادس يذهب في هذا الاتجاه؟

الذي حدث منذ عقود طويلة، هو أن السلطة (وهي مجموع السلط الظاهرة والخفية) كانت تنهش جسد الدولة، وكادت أن تسقطها أرضا لولا حرص الدستور على محاولة رسم حدود الغلبة والتجاذبات بين بين مجالي السياسة (أي السلطة) والسيادة (أي الدولة). إذ يبدو من الناحية النظرية والمبدئية، عدم وجود تناقض أو صراع بينهما. لكن الملاحظة التاريخية، في الحالة المغربية، تقول إن التمايز بين مجالي السياسة والسيادة، لم يكن دائما واضحا، بل كانت هناك توترات تجرأت بموجبها السياسة على استباحة السيادة. والنتيجة أننا خسرنا كثيرا من رهانات السياسة (مجال السلطة) وكدنا نخسر مزايا السيادة (مجال الدولة). وتفسير ذلك أنه في أعقاب تضخم أعباء الدولة ومهامها، تضخمت مؤسساتها أيضا ونشأت بين أحضانها نخب بيروقراطية، إدارية واقتصادية وسياسية، عصية عن التجديد والتطوير. وهكذا وجدنا أنفسنا ننتقل، في تفكيرنا المضني حول أسئلة الانتقال، إلى البحث عن إصلاح أداة الانتقال أولا، وهي هنا الدولة، بمؤسساتها ونخبها. لذلك، فإن المفهوم الجديد للدولة (في ما أرى) سيتم استيعابه ابتداء من اللحظة التي يتم فيها تدشين عملية تفكيك وإعادة بناء منظومات السلطة التي تكلست وأصبحت تشكل عوامل مقاومة شديدة لأية إرادة عليا في تجديد وتحديث كيان الدولة.

قد نستنتج، بناء على ما سبق، أن النجاح في الربط الجدلي بين دولة الانتقال وانتقال الدولة، هو عينه المدخل المناسب للإجابة على إشكالية النموذج التنموي. وارتباطا بالموضوع نطرح سؤالا على سبيل الختم والتفكير: هل استنفذ الانتقال الديمقراطي بالمغرب دورته؟ هذا مؤكد، وإلا ما الحاجة إلى نموذج تنموي جديد.

واضح أن مقولة الانتقال الديمقراطي أصبحت بلا طعم على المستوى التداولي، لأن مؤشرات قياس آثارها على صعيد الوضعية الاجتماعية وعلى مستوى الصحة النفسية للمغاربة، أضحت صادمة. فكيف لهذا المجهود التنموي الذي تبذله الدولة ألا يتلمسه المغاربة كافة !؟ قد نستنتج ربما بأن الانتقال الديمقراطي بهذا المعنى كان نخبويا، أي استفادت منه فئات بعينها دون غالبية المواطنين.

فالذي حصل هو انتقالات فرعية غير منسجمة: انتقال من دستور إلى آخر، ومن حكومة إلى أخرى، ومن برلمان الى آخر. لكن لم يحصل انتقال في النخبة، إذ بقيت هي نفسها تحتل الفضاء السياسي لعقود. ومن يقول النخبة يقول العقليات التي تحملها والمصالح التي تحصنها. أما السبب العميق والحقيقي، قد يكمن، حسب المفكر المغربي عبد الله العروي، في كون النخبة الحالية المسيرة لدواليب الدولة، أقل وطنية من التي سبقتها.

hespress.com