لا أعرف حقيقة على وجه التحديد، من باب الإنصاف التاريخي، إلى من أعيد تحديدا أساس تحفيزي على عشق القراءة ومصاحبة الكتاب. ما دمت قد عشتُ خمس محطات أساسية، أعتبرها محورية في مسار حياتي، بخصوص الارتباط بالكتاب والشغف بصحبته…
(1)
هل هي تجربة التعليم الأولي ما قبل الرسمي، داخل ثقب حجرة صغيرة علوية، نصعد إليها عبر أدراج ضيقة مهترئة غير آمنة، تواجدت فوق مسجد وأمامها بيت متواضع لأسرة تتكون من سبعة أفراد، صارت أختهم الكبرى صديقة لي وأنا طفل. سميت تلك الفجوة تجاوزا مدرسة الانبعاث. والمعلم لم يكن سوى الشاب عبد اللطيف، المنحدر من إحدى البوادي المتاخمة لضواحي مراكش، المماثل جدا لتقاسيم بروفايلات حالمي السبعينيات، بشعره الكث والكثيف ولحيته ذات التفصيل الغيفاري. أستحضره كما البارحة، بعد هذه العقود.
لم يبق عبد اللطيف بالنسبة إليّ معلما عاديا، بل سرعان ما أصبح واحدا من أفراد الأسرة، بعد أن توطدت صداقته بأبي وأمي، وشرع يزور بيتنا باستمرار، لا سيما أنه أظهر، منذ البداية، ودَّا خاصا لي ونحو أختي الصغرى التي رافقتي دائما أينما ذهبت وارتحلت؛ بل هو الشخص الذي تكلف بمهمة تسجيلي في سلك المدرسة العمومية حينما بلغت السن القانوني، نيابة عن أبي الذي أقعده حينئذ المرض، وبات تقريبا عاجزا عن الحركة.
قضيتُ ما يقارب سنتين داخل تلك الحجرة، إلى جانب عشرات من أطفال الحي، حيث تعلمت ألفبائيات العربية وأوليات الحساب. كما انفتح وعيي على ثقافة الصورة الفوتوغرافية، نتيجة جاذبية البرورتريهات المزركشة التي أتت الجدران؛ هاته رصدت فلاحا مبتسما يحرث الحقل بجراره، وأخرى أحاطت بتفاصيل راع يحث قطيعه على الالتئام…
كان السي عبد اللطيف، مثلما بجَّلناه دائما، شغوفا بتلقيننا أوليات اللغة، مغايرا نموذجه لنمطية القسوة المرسخة قبليا في أذهان الأطفال؛ يفيض لطفا في جل الأوقات، باستثناء تلك الدقائق الجحيمية عليه وعلينا جميعا، جسديا وسيكولوجيا، حينما تباغته نوبة الصرع اللئيمة، تسبقها هستيريا من الصراخ والقذف بكل ما يصادفه أمامه. يختفي تماما، للحظة تختلف مدتها، حيال نظراتنا البريئة، حضور المعلم الطيب، وينطلق من عنانه، كائن ثان خرافي لا عهد لنا به. يمزق دفاترنا، أو ملقيا بها نحو الهواء، كيفما جاءت الحركة. نتجمد أمواتا في أمكنتنا؛ والرعب يسود المكان تماما، في انتظار أن تمر العاصفة بسلام وعودة الوحش ثانية إلى قمقمه.
انتقلت إذن، إلى الطور الابتدائي، وغادرت أسرتي نحو حي آخر. مع ذلك، استمرت زيارات السيد عبد اللطيف لبيتنا الجديد، يستقصي مستجدات أحوالنا؛ وفي الوقت نفسه يختبر مستوى تطور قدراتي القرائية.
تشعبت بنا السبل، وباعدت بيننا دروب الحياة. التقيته فيما بعد، بشكل عابر وسط أحد الشوارع، لاحظت بأن ملامح الرجل ذبلت كثيرا واكتساها غبار الاضمحلال والتلاشي، أجابني حين سؤاله، بأن وضعه الصحي تفاقم. ثم، انقطعت أخباره مطلقا…
(2)
كلما زرت بيت جدتي، التي اهتمت برعاية أختي الوسطى خلال سنوات طفولتها الأولى، وجدت الأخيرة باستمرار وحيدة في البيت، انزوت تحت بطانية وعينيها ملتصقتين دون خذلان بدواخل رواية تنتمي غالبا إلى كلاسيكيات الأدب الروسي خلال القرن التاسع عشر، أو ملاحم جورجي زيدان عن تاريخ الإسلام، وغيره، أو أغاثا كريستي، أو سلسلة عناوين عبير التجارية.
ألج الغرفة، لكن نادرا ما تهتم بحضوري من عدمه؛ لأن وعيها وحواسها مأخوذان فقط إلى مجريات دفتي الكتاب الماثل بين يديها، بل وترفض حتى مجرد التوقف للحظات؛ كي أتبادل معها أطراف الحديث، أو على الأقل معرفة سر حصولها على هوية الكائن الغريب المسمى كتابا؟ وماذا تعني صداقتها الجديدة مع تلك العوالم المغايرة لما نعيشه؟ وهل يمكنني بدوري الانتماء إلى صداقة من هذا النوع؟ أخبرتني، وفق إشارة سريعة ومقتضبة، بأن الأمر ببساطة تحقق صدفة، بحيث اشترت للمرة الأولى رواية واحدة بدرهمين، ثم أوصاها الكتبي بالانكباب على قراءتها والسعي إلى إنهائها خلال أقل فترة زمنية ممكنة، كي تستبدلها برواية ثانية، مقابل خمسين سنتيما.
اعتقدتُ، قبل انقشاع هذا السر، بأن عالم القراءة يبدأ وينتهي، مع كراسات بوكماخ وكذا هنري ترانشار فيما يتعلق باللغة الفرنسية.
ربما، قبل الأوان المفترض، أدركت أختي أفقا من طبيعة خاصة جدا؛ فحلقت بعيدا جدا، عن بساطة ما يحدث حولها، مما شوش بكيفية ممسوسة طمأنينة محيطها. لذلك، لم تتوانَ في لحظة معينة، بأن ألقت كل شيء خلفها، ثم قررت الرحيل دون استئذان؛ وبغير رجعة…
(3)
كان صديقي كمال بوهيميا منطلقا أبعد من حدود الحرية، غير آبه بتاتا بما يدخل ضمن منطق ما جرت عليه العادة وضوابط الأنماط الرسمية. توطدت أواصر علاقتنا في الصف الثاني من الطور الإعدادي، بداية سنوات الثمانينيات تقريبا. لأول مرة، سمعت صحبته عن اسم فرانز كافكا وعوالمه العجائبية، بحيث دأب خلال كل وقت وآن متحدثا بإعجاب لا يقاس عن سرد طبيعة إحداثيات هذا الفضاء المدهش. لذلك، لم يتردد في أن يمدني بروايتي القلعة والمسخ. حقا، استهواني ذلك كثيرا، مما حفزني على قراءة العمل الثاني لأكثر من مرة؛ في ظرف وجيز. لم يقف مستوى التمثل عند حدود المقروء، بل طبق صديقي مرجعيات كافكا تبعا لتفاصيل حياته اليومية، لا سيما أن علاقته مع أسرته لم تكن على ما يرام، خاصة أبيه؛ مما دفعه إلى الغياب عن البيت طيلة اليوم ولا يعود سوى ليلا، متخفيا ومتسللا، وقد يستمر غيابه لفترة أطول، إلا أن تصله نداءات وتوسلات أمه بواسطة المعارف وسكان الحي.
يرتدي ملابسه بكيفية فوضوية، ويدخن السجائر ولفائف الحشيش، بشراهة عاشقة. اقتصرت دواعي التزاماته على الكتاب، وقاعات السينما الشعبية، ثم التسكع في حدائق مراكش.
قرأنا كافكا معا، وعناوين أخرى من ذات الجحيم أو تقل قليلا، والإسراع مهما كلف الثمن بتوفير دريهمات كل صبيحة يوم أربعاء، كي نحضر ظهرا العرض السينمائي الجديد، في المعتاد، هنديا أو أمريكيا. غالبا ما يكون مصدر ثمن التذكرة أن يبادر أحدنا وهو يتجرع المرارة وجهة سوق الكتب بباب دكالة، كي يبيع كتابا أو كتابين من محتوى مجموعته الصغيرة جدا. وفي حالة عدم توفر ذلك أيّ شيء غير مستعمل قابل للاتجار، يتم التنقيب عليه في المنزل. أحيانا إذا انتفى سبيل الشرطين الأولين، لا يبقى حينها غير الالتفاف على قطعة من الملابس وعرضها في سوق البراغيث المعروف اسمه بـ”سوق الجلد ”على الباعة السكارىغالبا وأبدا، القابعين ليلا ونهارا في الفضاء الشهير برائحته النتنة.
أحببنا ذات الفتاة، واندلع صمتا التنافس على من يحظى أكثر باهتمامها، لاسيما أنها صاحبة مزاج، بعيد عن معالم كافكا البئيسة اجتماعيا. هنا تحول الرهان، صوب مثيرات أخرى، افتقدنا شروطها بالكيفية المطلوبة، والتي بوسعها منح الامتياز لأحدنا على حساب الثاني…
الحاجة الملحة يوميا إلى دريهمات تفي بالمطلوب، وربما أيضا عدم القدرة على التكيف مع نظام المؤسسة، أرغمت كمال على مغادرة المدرسة، ليتحول إلى بائع للطماطم في سوق الحي. انتقلت للسكن في منطقة أخرى بعيدة، جرفتني مثالب حياتية أقوى مما أنا قادر عليه، انقطع التواصل بيننا، فقط ما جادت به الصدفة على فترات متباعدة.
علمت فيما بعد أن صديقي الكافكاوي عاد ثانية إلى مقاعد الدراسة في مدرسة خاصة من الدرجة العادية جدا، قصد اجتياز امتحان الباكالوريا، وفعلا حقق رغبته؛ بل وأكثر نجاحه في مباراة المعلمين ثم اشتغل وتزوج وأنجب طفلا؛ غير أنه لم يصمد، مثلما وصلتني أخباره، بواسطة زميل ثالث لنا، بحيث غادر الوظيفة بعد فترة وطلَّق زوجته.
ربما لعنة كافكا، لا تريد التوقف عن ملاحقته…
(4)
لم يكن مدرس اللغة العربية، حقبة السنة الأولى من التعليم الثانوي، بالرجل المحبوب لدى أغلب التلاميذ؛ نظرا لتماديه كثيرا في استهتار بلا مبرر خلال الحصة، وتقلب مزاجه بكيفية غير مقبولة. ثم يزداد الأمر سوءا، بالنسبة للذكور، جراء إفراط محاباته للإناث وانسياقه اللاواعي خلف متواليات التغزل العذري المسجوع ضمنيا بمثيرات إيروسية بحيث لا يكف عن ترديده، خلال مختلف سياقات التمثيل في الدرس البلاغي لمقولته الشهيرة: ”رأيت وردة يانعة ترقص في الحفل”، يكرر الصورة بنبرة لا تخلو من هوى مركزا نظره على أجمل جميلات الفصل– فعلا كانت جميلة- ويحثها ضمنيا للنهوض إلى السبورة، كي توضح لنا مكونات الاستعارة في الجملة المشار إليها أعلاه. يبدو بريق الرغبة ملوحا، خلف زجاجتي نظارته السميكة، وهو يثني بكلمات واصفة تضاريس جسدها باستعارات أخرى :
-“هيَّا إلى السبورة ! يالخبيزة ! يا الكبيدة ! يالبطبيطة ! يالكريديسة ! آححح على زهري وما جاب لي”.
تدرك التلميذة ببداهة، خفايا قصده، وترفع كاستجابة، وتيرة تغنجها.
غير هذا الجانب المائع من شخصيته كمدرس داخل الفصل، يكشف الأستاذ كمال عن براعة مميزة وقدرات بيداغوجية بليغة، خلال درس المؤلفات، من خلال المقررين الوزاريين آنذاك، أقصد تحديدا رواية “يوميات نائب في الأرياف” لتوفيق الحكيم، وكذا الدراسة النقدية “قراءة جديدة لشعرنا القديم” لصلاح عبد الصبور. وما زلت محتفظا في خزانة غرفتي بهذين العملين، تذكارا، أعود إليهما بين الفينة والثانية، كلما اشتد شوقي وهزمتني سلوى الحنين.
هكذا، تتحول الحصة لديه إلى سجال فكري حماسي، يضعنا بكيفية ملموسة عند نوات الأجواء الإبداعية للكاتبين لا سيما الحكيم، مثلما يفضي بنا حديثه نحو روافد معرفية أخرى وعناوين مختلفة تثير فينا شهية قراءتها. من هنا، جاءت فكرته عن المكتبة المتنقلة أو المتحركة، منطلقا من سلوك فردي بسيط مفاده أن يبادر كل تلميذ في الفصل إلى شراء كتاب واحد لا غير، ويقرأه أيضا خلال أسبوع واحد، دون زيادة، ثم يتقاسمه مع صديقه الذي سيمده بدوره وفق المبادرة ذاتها بالكتاب المتوفر لديه، هكذا يجد كل تلميذ نفسه، بعد مدة وجيزة، أنه قد اطلع على عشرات المؤلفات من أصناف متنوعة بفضل كتاب واحد.
(5)
صدفة وردت إلى مسامعي، في مكان ما، معلومة تشير إلى وجود مكتبة كبيرة لإعارة الكتب، تابعة لمرافق بلدية المدينة، مشرَّعة أبوابها في وجه التلاميذ والطلبة والباحثين، تحمل يافطة “الخزانة البلدية”. تكفيك فقط ثلاث وثائق إدارية، في المتناول، للحصول على بطاقة الانخراط، التي تمكن صاحبها من الظفر بكتابين كل خمسة عشر يوما.
في الحقيقة، كان هذا الاكتشاف بمثابة كنز لا ينضب معينه. بفضل تلك البناية الثقافية الرائدة حقا، اطلعت طيلة سنوات مجانا على عشرات الكتب لمبدعين عرب وغربيين… ورافقتني فقط، في وحدتي، روائع متون عبد الرحمن منيف وعبد الرحمن بدوي وطه حسين ونجيب محفوظ وسارتر وكامو وصنع الله إبراهيم وجبران خليل جبران ومارتن هيدغر وباشلار…