الرحّل، تلك الفئة التي ما تزال وفية لحياة الترحال والبداوة التي تعتبر نمط عيش متميز ما فتئ يقاوم كل مظاهر الحضارة ويتمسك بتراث الأجداد، فئة أضحت في العقود الأخيرة أمام إكراهات بالجملة تجعلها تائهة بين الاستمرار في هذا النمط الذي يسمه كثير من العوز من جانب الحقوق، وبين الانصياع لما تتيحه حياة الاستقرار وتأمين أدنى لمستقبل الأبناء. حياة الرحل كانت وما تزال مثالا للصمود والاستماتة لتطويع الطبيعة والتعايش مع المناخ المتقلب ومع إملاءات الواقع.

يعيش الرحل حياة بسيطة جدا في مقوماتها بعيدا عن كل تشعّبات حياة الاستقرار، أناس لا يكترثون للسياسة أو التغيرات الاجتماعية والاقتصادية المصاحبة لها، ثقافتهم بسيطة لكنها عميقة، لا يهمهم من الأخبار إلا التوقعات الجوية، فهم يرتبطون بالأرض والطبيعة التي تملي عليهم مكان الاقامة ولو إلى حين، كل همّهم توفير الكلأ والماء لمواشيهم. كل حياتهم تتلخص في نصب خيام يسكنونها “لإرضاء” المواشي ليس إلا، مدة من الزمن قبل أن يحين التنقل القسري إلى مكان آخر.

معاناة مع الجفاف

الرحل يقطعون المسالك الوعرة باتجاه السهل أو الجبل حسب الموسم وجود السماء، لا تهمهم المسافات الطويلة، يعيشون من أجل كسب معركة الحياة التي تتلخص في توفير الكلأ والماء للقطعان رغم كل مظاهر الهشاشة التي تبدو جلية عليهم وعلى أبنائهم.

مع التغيرات المناخية، تضاعفت معاناة الرحل مع فترات الجفاف الطويلة وحتى الفيضانات والتساقطات الثلجية غير المعتادة التي يكون ضرها أكبر من نفعها في حالات كثيرة؛ لقد أصبحت حياة الرحل معقدة، خصوصا مع تحامل الطبيعة مع الإنسان، وهنا أصبحت المقاربة الجديدة في في ملف أراضي الجموع وإمكانيات التمليك تحاصر رحّل ورعاة على امتداد الأطلس الكبير الشرقي، مع العلم أنهم أقصوا من نصيبهم وهم الذين حموا هذه المجالات عبر التاريخ.

وفي هذا الإطار، يرى حميد أجعوض، مهندس فاعل جمعوي بمنطقة أملاكو حيث يكثر الرّحل، أن “توزيع وتمليك أو حتى حق استغلال أراضي الجموع لذوي الحقوق في الجنوب الشرقي، يجب أن يحمي حقّ الرحل، فهم من حافظوا على هذه الأراضي وأحق باستغلالها كما فعلوا عبر الأزمان، على الدولة أن تفرض تخصيص مجالات لتنقل هؤلاء وقطعانهم دون مشاكل، وعليها أيضا أن تمنح أراض لمن يرغب منهم في الاستقرار أو حتى نصف استقرار، وتوفر لهم الماء من خلال ثقوب تتكلف وزارة الفلاحة بحفرها عبر كل الأطلس الكبير الشرقي”.

وطالب أجعوض بـ”توفير مساعدات وإعانات كافية للرحل على غرار العمليات التي تشهدها المدن والقرى”، وأثار بهذا الخصوص “مسألة المواد العلفية التي لا تكفي الرحل مع كل عملية تزويد عطفا على إكراه التنقل”.

التسويق في زمن كورونا

في زمن كورونا، وفي ظل قانون الطوارئ الصحية والحجر الصحي الذي أقرته السلطات على الصعيد الوطني، يعتبر التسويق أكبر إكراه يواجهه الرحّل، فلم يعد هناك سبيل للوصول إلى الأسواق،

وفي هذا الإطار، أفاد عزيز مهري، واحد من رحّل منطقة إيميلشيل بإقليم ميدلت، بأن “التنقل إلى الأسواق، وخاصة مركز الريش حيث يكثر ممتهنو الجزارة، ممنوع، وبالتالي ورغم وفرة القطيع، فإننا مضطرون إلى الحفاظ عليه رغم حاجتنا الملحة إلى المال لاقتناء المواد الغذائية، لقد أصبحنا في وضعية لا تطاق، الأسواق مغلقة والقطعان مكدّسة لدينا، ولم نعد نملك شيئا ونضطر إلى الاقتراض”.

وأضاف أن “المواشي رأسمالنا الوحيد، وحياتنا تمضي عبر تسويقها بالأسواق الأسبوعية، فهي مصدر مدخولنا الذي ننفقه في جلب احتياجاتنا من البضائع والأعلاف. ومع كورونا، أصبحنا في وضعية عزلة قاتلة توقفت معها كل مظاهر الحياة، نحن لا نحتاج إلا إلى قروض صغرى نؤديها بعد نهاية هذه الجائحة”.

أما بخصوص المساعدات المالية المباشرة، فقد اشتكى من تحدّثنا إليهم كون الإشعار بمكان صرفها يأتي في اليوم نفسه الذي تتم فيه عملية الصرف دون مهلة للتنقل، علما أنهم يكونون بعيدين عن ذلك المكان بمسافات طويلة.

وعن ذلك، حدّثنا أحد المستفيدين فضّل عدم ذكر اسمه أنه اضطر إلى قطع مسافة أكثر من مئة وعشرة كيلومترات، من مركز أوتربات بإقليم ميدلت إلى مركز أغبالا بإقليم بني ملال، بتكلفة مئتي درهم، بعدما رفضت الوكالة المتنقلة صرف مستحقاته لكون عقارب الساعة لامست الخامسة مساء.

وفي السياق نفسه، صرّح علي أوتحدات، وهو من رحّل أفركلى بإقليم الرشيدية، قائلا: “نعتقد أننا أبناء المعذبين في الأرض، أو الرعاة. قد نكون في منأى عن الإصابة بالفيروس، لكن وبكل صدق أقول إن هناك أسوأ من كورونا، وهو ألّا تكون محتاجا في الواقع لكنك تنتظر المساعدة من غيرك”.

وأضاف محدثنا: “صحيح أني أملك قطيعا مهما رغم الإكراهات الأخرى، لكن من يمكنه أن يستبدلني رأسا بما يأكل الأبناء؟”.

وختم المتحدث تصريحه بنداء صريح، قائلا: “يتعين أن تلتفت الدولة إلينا وتولي للرحّل بعض العناية، فهذه الشريحة لم تعد تحتمل عجزها عن إنصاف القطعان قبل التفكير في الأبناء”.

رسالة أهل الخيام

يبعث الرّحل برسالة واضحة لا تقبل التأويل، فهم لا يعرفون حقوقا سياسية أو مدنية، لا يعرفون أحزابا ولا نقابات ولا حتى جمعيات إلا استثناءات على رؤوس الأصابع، لا يصرون على خدمات صحية لأنهم يتعايشون مع مرضهم، ولا يرافعون من أجل بنية تحتية لأنهم يشقون مسالكهم بأنفسهم، لا يتشددون في ضرورة توفير خدمات تربوية لأنهم يعتقدون خطأ أن النجاح لن يكون من نصيبهم.

رسالة الرحّل في الغالب يمكن تلخيصها في المساعدة على توفير الكلأ والماء لقطعانهم، توفير الأعلاف زمن الجفاف بكميات وفيرة مع إمكانية التسهيل في الأداء، وتوفير الماء من خلال حفر ثقوب في مجال الرعي وتسهيل جلبه تخفيفا لمعاناة نسائهم بالخصوص. مطالب بسيطة لكنها ستفرج كبرى كرب الرّحل في الأطلس الكبير الشرقي.

في الختام جميل أن تفكر وزارة الفلاحة في دعم الفلاحين بكل فئاتهم، والأجمل أن تلتفت إلى البسطاء من الرّحل قصد تكثيف تزويدهم بالأعلاف المدعمة التي تعتبر كابوسا يقض مضجعهم. في غياب ذلك، يكون الرحل لقمة سائغة أمام جشع المضاربين الذين يستغلون ظروف هؤلاء لابتزازهم بشكل مشرعن.

وهنا يفترض أن تتوفر مصالح وزارة الفلاحة على إحصاءات دقيقة للرحل وقطعانهم حتى يكون توزيع هذه الأعلاف منصفا وكافيا، ويستجيب لحجم الطلب، ليمكّن من دعم حقيقي ذي وقع ظاهر على الرحّل. واقع معاناة الرحل يستلزم تعبئة كل الإمكانيات وكافة الشركاء والفاعلين لإنقاذ هذه الفئة المغلوب على أمرها.

hespress.com