مثل حجرة عندما تُلقى في بركة ماء وتُحْدث دوامات مائية، كانت تصريحات رئيس الحكومة المغربية، سعد الدين العثماني، بشأن ملف مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين، التي جرت غضب الطبقة السياسية في إسبانيا، الذي استغلته أطراف داخلية هناك لصب الزيت على النار.

وكان مثار الجدل السياسي العارم الذي خلقته كلمات العثماني كون الرباط لم تطلب من قبل ولا حاليا، وربما حتى في المنظور القريب والمتوسط، فتح النقاش رسميا مع مدريد حول هذا الملف الشائك.

ويعتبر محللون كثيرون أن ملف احتلال مدينتي سبتة ومليلية كان ومازال مثل “الحصى في الحذاء الإسباني”، وهو الحصى الذي لا يمكن أن يدوم إلى ما نهاية، باعتبار أن المغرب سيتحين الفرصة المناسبة لطرح هذا المشكل، وهو ما تخشاه مدريد، خاصة بعد أن صدر من رئيس الحكومة.

محاولات تاريخية

وفي هذا الصدد يقول الدكتور محمد بن طلحة الدكالي، أستاذ علم السياسة في جامعة القاضي عياض بمراكش، إن ملف مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين من طرف إسبانيا عرف جمودا طويلا، وظل معلقا لما يناهز خمسة قرون، رغم أنه كانت هناك العديد من المحاولات التاريخية للمغرب من أجل استعادة هذين الثغرين، منها محاولة السلطان المولى إسماعيل في القرن السادس عشر الميلادي، ثم محاولة السلطان محمد بن عبد الله عام 1774.

ويذكر بن طلحة الدكالي، في حديث لجريدة هسبريس، أن هاته المحاولات ظلت من غير جدوى، ما جعل إسبانيا تعمل على جعل معالم المدينتين أكثر انسجاما مع الجو الإسباني.

وعمدت الجارة الشمالية للمملكة إلى انتهاج أساليب الإغراء والترغيب والترهيب، خاصة بالنسبة للمغاربة من أهالي سبتة ومليلية، كما أصبحت المنطقة منذ عام 1992 تتمتع بصيغة الحكم الذاتي داخل إسبانيا.

وحري بالذكر في هذا السياق أن الحكم الذاتي صيغة سياسية وقانونية لا تتضمن إقامة برلمان مستقل، بل جمعية ثم مجلس للحكومة ورئيس. ويحمل النواب الخمسة والعشرون في الجمعية صفة مستشارين.

فيضان الكأس

كان لافتا أن كلمات العثماني خلفت ردود فعل قوية لدى الجانب الإسباني، تمثلت في ضغوطات أحزاب اليمين المتطرف واليسار الراديكالي الإسبانيين، إذ تم استدعاء سفيرة المغرب باسبانيا، كما أن بيان الخارجية الإسبانية اعتبر سبتة ومليلية أراضيَ إسبانية.

ويرى بنطلحة أن تصريح رئيس الحكومة كان مجرد نقطة أفاضت الكأس، لأن التوتر الحالي بدأ منذ أن قام المغرب بترسيم حدوده البحرية في إطار القانون الدولي، معلنا التزامه بالحوار مع الجارة إسبانيا في إطار سيادة المملكة على كل مجالها البحري، وفق إستراتيجية تنموية، ما خلق أزمة صامتة بين البلدين كانت وراء تأجيل القمة المشتركة، وبرزت بشكل جلي بعد اعتراف واشنطن بالسيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية.

ويؤكد الأستاذ الجامعي ذاته أن المغرب مازال متشبثا بالمنطق والحكمة، وملتزما بصدق التعاون مع الجار الشمالي، وفي الوقت نفسه يقوم بمجموعة من المبادرات التنموية في جل مناطق المملكة، من بينها مشروعات ضخمة في مناطقه الشمالية، حيث تم إطلاق مخططات اقتصادية عملاقة غيرت وستغير من ملامح المنطقة، “وهي المكتسبات التي تراها إسبانيا بمثابة خنق لاقتصاد سبتة ومليلية وحربا غير مباشرة عليهما”.

وشدد الدكالي على أن المغرب لم يعد يقبل بقواعد اللعبة القديمة، أي اعتماد جزء من سكانه على التهريب، بل أعلن إنشاء منطقة تجارية حرة بالفنيدق، من شأنها أن تنعكس إيجابا على الوضع الاقتصادي والاجتماعي في مناطقه الشمالية.

تغيرات جيوسياسية

ودعا المحلل المغربي إسبانيا إلى “إدراك أن ميزان القوى الثنائي والإقليمي بدأ يتغير، وأن المياه التي تبدو راكدة باتت تجري الآن، ولو بشكل بطيء وتدريجي، وأنه على الدبلوماسية الإسبانية أن ترتهن فيه إلى الواقعية وليس إلى جيوسياسة ميتافيزيقية أصبحت من الماضي”.

وطالب المتحدث مدريد بالتفكير بروية وحكمة في المستقبل المشترك الذي يجمع بين البلدين الجارين، وأن تستحضر كونها الشريك التجاري الأول للمغرب على مستوى الصادرات والواردات؛ “بالنظر إلى أن البلد يعد حاليا أكبر شريك تجاري لها في القارة الإفريقية، وثاني أكبر شريك في العالم خارج الاتحاد الأوربي، كما أنه يحمي الحدود الأوروبية من الهجرة غير الشرعية، ومن مافيات تهريب المخدرات”.

ولفت بن طلحة الدكالي إلى أن “مدريد مطالبة باستحضار دور المملكة المغربية القوي في التعاون الأمني لمحاربة الإرهاب والتطرف، وأن المغرب سيد قراراته، ويتطلع إلى علاقات متكافئة”، وزاد: “مطالبة إسبانيا الملحة بإيجاد حل لصخرة جبل طارق مع بريطانيا يمكنها أن تجعل ضفتي المتوسط تحت السيطرة الإسبانية، وهذا ما لن تقبل به الدول العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، لأنه حينها سيصبح مضيق جبل طارق، وهو ممر إستراتيجي عالمي، في يد دولة واحدة”.

وخلص المحلل إلى أن المأمول هو “تعزيز الشراكة الإستراتيجية بين البلدين الجارين بفضل الرغبة المشتركة في تطوير علاقات اقتصادية قائمة على اندماج فعال لهما ولضفتي البحر الأبيض المتوسط، فضلا عن التصالح مع التاريخ والجغرافية الحقيقيين من أجل علاقات أكثر قوة ومتانة للأجيال القادمة”.

hespress.com