بمرارة يكتب الشاعر سعد سرحان عن مسقط رأسه فاس .. بمرارة شاعر كان يتمنى للمدينة أفقًا غير هذا النفق الذي يقودها التدبير الجماعي المُرتجَل إليه.
ومرة أخرى يعود سرحان إلى المصطلح الجديد الذي نحته في ورقة سابقة نُشرت على هسبريس، وهو مصطلح “الديبتقي” المستوحى من “الديبشخي”، مع أن المصطلحين وجهان لعملة واحدة..
عملة فاسدة لا تليق بفاس ولا بأهل فاس..
قبل سنواتٍ قليلة تلقّيتُ دعوة نبيلة من الصّديق ياسين عدنان، للمساهمة في كتاب جماعيّ عن مرّاكش، انبرى لتأليفه ثلّة من كتّاب المدينة، قبل أن يصدر باللّغتين العربيّة، بعنوان “مرّاكش التي كانت”، وبالفرنسيّة بعنوان “مرّاكش: أماكن دارِسة”.
وكم تمنّيت أن يتكرّر الأمر مع مناطق أخرى، مدنًا وقرًى، فيصير لمغربِ الذّاكرة والوُجدان والحَنين مكتبةٌ صغيرة بعنوان “المغرب الذي كان”.
لبعض المدن في ذِمّتي فاتورةُ الشّمس والهواء، لذلك ما كنت لأتردّد في تلبيّة دعوتها للكتابة عنها عرفانًا بالجميل. على رأس هذه المدن تبرز مدينة فاس، درّة التاج التي كانت، والتي تستحقّ من كُتّابها أن يشهروا الأقلام لتدوين ما تبقّى منها قبل أن تأتي عليه السّيوف.
فبدعوةٍ كتلك، كنت سأكتب عن السّاحة والسّقاية والمدرسة، وعن العَرصة وباعة الكتب المستعملة وسوق الحِنّاء صبيحة عيد المولد…
سوى أنّ الدّعوة لم تصل.
كلّا، فقبل أيّام فقط تلقّيت دعوةً أخويّةً لا تُردّ، دعوةً أليمةً للكتابة عن العاصمة الدّارسة، عفوًا عاصمة الأدارسة، تلك التي بناها، قبل أكثر من اثني عشر قرنًا، إدريس الثاني، وترك لِكُرَمَائِها وفُضلائها أن يشيّدوا بها المساجد والمدارس، ولعلمائها أن يُنيروا عقول طلّاب العلم، من مختلف الآفاق، بما حباهم الله من علوم ومعارف، حتّى جعلوا منها العاصمةَ العلميّة للبلد.
لِجهة العُمران، تَنِمُّ الأبواب والأسواق والدُّور المُنيفة وشبكة الماء والصّرف الصّحي وسوى ذلك، عن عبقريّة الهندسة المدنيّة التّي كانت لأهل فاس قبل قرون، والتّي جعلت من المدينة مرجِعًا أساسًا اقتبست منه اللّاحقة عليها من المدن، فتجد منها في مرّاكش الزاهرة وفي الأندلس كما في القاهرة…
أمّا لِجهة السّكّان، فتكشف الصنّاعة التّقليدية وطقوس الاحتفال وثراء المطبخ وتنوّع اللّباس وفخامة الأثاث ولباقة اللّسان والتقاليد المُرعِيّة… عن عبقريّة فنّ العيش التي لطالما كان أهل فاس يُغبَطون عليه.
لقد جفّت مياه كثيرة تحت الجسر.
وجرّاءَ الجفاف ذاك، ولحاجة في نفس إدريس، بدأت الباديّة تنطلي على المدينة، فصار ما صار من تغيير جذريّ في قسماتها. أقول القَسَمات، وأقصد النّدوبَ طبعًا. فالبولڤار، على سبيل الحسرة، الذي كنّا لا نرتاده في شبابنا قبل أن نرتدي ملابسنا الأجمل، ونتدبّر مصروفَ جيبٍ محترمًا، البولڤار ذاك أصبح ملحقًا يوميًّا لأسواق البوادي الأسبوعيّة، يضجّ على مدار السّاعة بمن هبّ من البشر، ويعجّ بما دبّ من الدّواب.
أمّا دار دبيبغ التي كانت رمز الحداثة، ومجرّد سماع اسمها يفغم الأنف عِطْرًا، فقد باتت لها رائحة قد تُزكم حتى دار الدّبغ… مع تحيّاتي لأهل هذه الدّار تحديدًا حيثما كانوا.
لقد كان لإدريس البصري ما أراد من تَرْيِيف المدينة، في تنزيل ولا أبشع لتلك الحكايات المقيتة عن الفاسي والعروبي التي كانت مرجعه الأساس وعُقدته التي لم تنجح في حلِّها حتى النّفّاثات في العقد.
ومع مطلع التسعينيّات كانت الذّريعة قد اكتملت، فلعلع الرّصاص الحيّ وسقط الأبرياء بالأكوام… ولقد قُيِّضَ لكاتب هذه السطور، وقد زار المدينة بُعَيْدَ الحدث، أن رأى بأمّ عينه الدّبّابة من بئر إنزارن مرابطةً عند باب الݣِيسَة، تلك التي كانت منفذنا إلى نزهات الرّبيع.
على صهوة ذلك الحدث
سَيَلوح حميدْ
مخفورًا بالذين معه
مدجّجين بالبأس الشديدْ
فخنق المدينة
بأن فوّت رئتيها
لأباطرة الإسمنت والحديدْ
قبل أن يغادر البلدْ
وهو بالصّاحبة والولدْ
صوب هواء جديدْ.
وإذا كان لتاريخ فاس أن يذكر هذا الرّجل، فسيذكره، لا محالة، بوصفه السّاحر الذي أزرى بمدينة الأقلام حتّى صارت مدينةً للسّيوف. فبعد أن كانت العاصمةَ العلميّة التي ترشح حبرًا، باتت عاصمة الإجرام التي تنزف دمًا.
في هذه الظّروف وصل إدريس، وهو ابن المدينة الذي يحمل اسم بانيها، فتوسّم فيه الأهل خيرًا، كيف لا والرّجل جاء على جناح العدالة، سليلةِ العدل الذي كان يخشى أن تعثر بغلة في بغداد، وعلى جناح التّنميّة التي هي عزّ الطّلب لساكنة المدينة.
غير أنّه بمرور الوقت، اكتشفت المدينة أنّها استجارت من الرمضاء بالنّار، من رمضاء فبراير، وأقصده فصيحًا، بنار “الدِّيبتقي”، وهو مُفرَد الذئاب الأتقياء. فما من عدالة أغمدت سيف الظّلم عن رقبة المدينة، وما من تنميّة حرّكت ركودَ بِركتها.
حتى وقت قريب، كانت فاس مدينة بلا شوارع تقريبًا، ذلك أنّها كانت تعيش تحت الاحتلال المغربي الغاشم: احتلال الأرصفة بالفرّاشة، فلا سبيل للسّابلة، واحتلال الإسفلت بالعربات فلا مراكِن للرّاكِنة، مع ما لذلك من أضرار على التّجار والسّاكنة. وحتّى لو كان أهل فاس قد فكّروا في توقيع وثيقة استقلال بطول شارع رئيسي، لَما نالوا استقلال شوارعهم.
أما وقد عرفتِ الجلاءْ
فالفضل يعود إلى الوباءْ
ولعلّ “ربّ ضارّة نافعة” هذه، هي ما جعل جَنَابَه يَعمد إلى بيع الشّوارع بممرّ الرّاجلين منافسًا سلفه الغابر. فإذا كان ذلك قد باع رئاتِ المدينة غير عابئ بما سيترتّب عن ذلك من رَبْوٍ واختناق، فإنّ هذا، الآن، بصدد بيع عروقها وشُعيْراتها الدّمويّة غير مدركٍ لما سيسبّب لها من جَلطات.
فإذا لم يستطع جنابه أن يصلح ما أفسد سلفُه الطّالح، فليس أقلّ من ألّا يورث المدينة ويورّط خَلَفه في ما يصعب إصلاحه.
فأيّ مسؤول غرٍّ هذا الذي لم يأخذ بعين الاعتبار فشل شركات الباركينغ في مراكش والرباط مثلًا، بعد أن جرجرها المواطنون إلى المحاكم ولم تخرج منها إلّا خاسرة، مع أنّ الأداء لتلك كان زهيدًا وسلسًا، فيما هذه التي وقّع معها لا يوافق حقلها الإلكتروني بيدر أرض الواقع، كما لا يناسبُ “صْدَاقْ عَاقِصَة” الذي تفرضه هذه الشّركات العروسَ الشمطاءَ التي صارت إليها طرقات المدينة.
وعلى ذكر الطّرقات، فالحيّز الذي تشغله السيّارة منها هو نفسه سواء كانت متحرّكة أو واقفة أو متوقّفة عند الضّوء الأحمر أو مركونة جنب الطّريق… فهو مُؤدٍّ عنه كلّ ذلك جملةً. فدافعو الضرائب، ضرائب السّيّارات هم مُمَوِّلو الإسفلت العامّ كلّ عامٍ، ولهم في ذِمّة المسؤولين، كلّ من موقعه، واجب الصّيانة، وهو الواجب الذي يقفز عليه المسؤولون مُرغِمين السّابلة على القفز على تلك الحُفر التي تُرصّع الطّرقات، ومُكرهين الرّاكبة على تدمير سيّاراتهم بالتّقسيط.
قبل سنة فقط انضافت ضريبة أخرى لأٍصحاب السّيّارات، فصار الواحد يدفع للإسفلت العامّ الذي تشغله سيّارته، في مختلف أوضاعها، الضّريبةَ والتّأمينَ، وضريبةَ الكوارث (وهم بعض المسؤولين طالما أنّ المغرب لا تنْتابُه الكوارث الطّبيعيّة)، وضريبةَ تحرير قطاع المحروقات، وضريبةَ الحُفَر والطّرقاتِ المائعة من تآكُل العجلات وتردّي الحالة الميكانيكية للنّاقلة، كما يدفع للسّترات الصّفراء والحارس اللّيلي…
جناب العمدة لم يجد أنّ هذا الفيلق من الجُبَاة كافيًّا، فارتأى أن يستقدم من بلاد الرّوم فيلقًا أذكى.
حين سمعتُ بالخبر انتابني فرح طفوليّ، ووعدت نفسي بالسّفر إلى فاس في أقرب فرصة، فقط لأعهد بسيّارتي إلى واحد من تلك البّاركينݣات الذكية التي نشاهدها على اليوتوب وقد حلّت بمسقط رأسي، ولِأراها، لأرى سيّارتي في أيّما طابق منه. سوى أنّ خيبتي كانت كبيرة حين علمت أنّ الذّكاء الذي قرأتُ عنه غير ذكاء الدّول المتحضّرة تمامًا، فهو فقط ذكاءٌ أزرقُ الصّباغة، مع ما تعنيه الزّرقة للمغاربة من غباء.
وكأني بهذا ينافس ذاك مرّة أخرى: فالبّاركينغ الأزرق هو المعادل الأرضي لبرج إيڤل المُضحك.
يقينًا أنّ أهل فاس أذكى بكثير من أن ينطلي عليهم هذا الغباء، وأنّهم لا يعدمون الحَوْل ولا الحيلة للحُؤول دون تمرير صفقة العار كما سمّوها.
أمّا ذلك الإدريس الذي عاش على حلم تَرييف فاس نزولًا عند عُقدته، فقد غادر المنصبَ والبلدَ والعاجلةَ بعد أن رَاكَم ثروة طائلة من الكراهيّة، كراهيّة المغاربة… فبئس المُقتنى وبئس المصير.
وأمّا هذا الإدريس، فهو ابن المدينة، ولها عليه واجب البُرور. وإذا لم يكن جشعًا للمال، على الأقلّ بدرجة سَلَفه، فليس من العِفّة ولا من الحصافة أن يكون شجعًا للكراهيّة، كراهيّة أهل المدينة التي عَمَّدَتْه.
وختامًا لهذه الورقة، أورد حكايتين: واحدة عن البُرور والأخرى عن الكراهيّة، ففيهما عبرة لذوي الألباب.
ففي الأولى، أنّه حتى الستّينيّات من القرن الماضي، كان الرّجل من أهل فاس إذا اشترى سيّارة يُدشّن عجلاتها بالسّفر إلى مولاي إدريس زرهون، وفي ذلك بُرورٌ دونه كلّ برور، فهو بذلك ينوب عن إدريسٍ الابن وعاصمته بزيارة إدريس الأب وعاصمته. وهذه، لعمري، صِلة رحم لا مثيل لها في التاريخ.
أمّا في الثانية، وقد حدثت، يا للمُصادفة، في الستّينيّات من القرن الماضي وبطلها إدريس أيضًا، فقد تجمهر اللّيبيون حول القصر الرّئاسي للملك إدريس السنوسي، وجعلوا يهتفون: إبليس ولا إدريس. وهو الشّعار الذي أغادر هذه الورقة مُتمنّيًّا لأصغر أدارِسَتِها هذا ألّا يغادر كرسيَّه على سماعه.