بتصميم معماري متميز يكاد يخرج عن الأشكال الهندسية الأربعة لبناء الكنائس وفق طقوس العقيدة المسيحية، تقوم كنيسة “سنتياغو إلمايور” الكاثوليكية في وسط مدينة الناظور، ببناية متوسطة الطول ذات واجهة كولونيالية، تعلوها قبتان شبه هرميتين، وفي أعلى البناية صلبان خشبية منتصبة في السماء.
ظلت الكنيسة بعد مرور أزيد من قرن على بنائها معلمة تاريخية دينية وقطبا علميا ثقافيا، إلى جانب قيمتها الروحية المشعة بالتسامح الديني وسط مجتمع مسلم، ودورها الهام في طبع ملامح الاختلاف الديني في الذاكرة التاريخية لمنطقة الريف.
بناء الكنيسة
كنيسة “سنتياغو إلمايور” إحدى أقدم الكنائس المسيحية بالمغرب. تولى الاستعمار الإسباني بناءها سنة 1916م، لتكون مركزا دينيا لعدد من المقيمين الأجانب الإسبان بمدينة الناظور خلال الفترة الاستعمارية التي مر بها المغرب.
“لما كثر المستوطنون الإسبان بالناظور، ارتأت قيادة الجيش بناء معبد ديني لهم بالمدينة لممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية المسيحية، فتم إنشاء كنيسة مؤقتة في بناية محاذية لحديقة “ديل بيلار” وسط المدينة، وكان يتولى فيها الشؤون الدينية أساقفة وقساوسة عسكريون”، يقول يزيد الدريوش، الباحث في تاريخ الريف.
ويضيف “بعدها زارت المدينةَ طائفة دينية أخوية تابعة للمذهب الكاثوليكي، تسمى طائفة “الكابوشيون”، قادمة من مدينة مليلية، تولت جمع تبرعات بناء كنيسة “سنتياغو إلمايور”، وكان من بين المساهمين في هذا المشروع شخصيات بارزة من الأعيان الإسبان، من أهمها دون كارلوس ديزاكيري والجنرال إيز بورو”.
وعلى مساحة أرضية تم شراؤها من الأهالي بمبلغ 25 سنتيما للمتر المربع، يتابع يزيد، تم تشييد الكنيسة سنة 1916، لتكون أول كنيسة بإقليم الناظور، تولى إدارتها الأب خوان روسيندي كساس، الذي قدم من مدينة طنجة، وتعاقب عليها قساوسة آخرون، من أهمهم الأب أفيلينو مونيوس مان، والأب أنفونسو راي فاسكيس.
وقد بلغ عدد المسيحيين بالناظور، حوالي سنة 1914، أزيد من 1500 فرد، يقول جمال بوطيبي، وهو ناشط جمعوي وباحث مهتم بتاريخ منطقة الريف، فكان لا بد من بناء معبد عبارة عن كنيسة لأداء الواجبات الدينية لدى هذه الفئة، التي ما فتئ يتكاثر عددها يوما بعد يوم. وقد كانت الكنيسة ذات أهمية وأولوية من الناحية الدينية، مثلما كانت للمدارس أولويتها من ناحية التعليم والتربية وفق الطريقة الإسبانية بالناظور.
وفي نوع من التعايش الديني، يقول الدريوش، كان أهالي الناظور والنواحي من المسلمين يحضرون مختلف الأنشطة والطقوس الدينية، من قداس وأعراس وتعميد للرضع..، التي كانت تنظمها الكنيسة. ولم يكن لدى ساكنة الناظور أي امتعاض أو تصادم مع المظاهر الدينية المسيحية، التي كانت تكرسها الكنيسة في المدينة ذات الأغلبية المسلمة.
أصل تسمية الكنيسة
إلى حد الآن، ما زال يطلق على الكنيسة اسمين يتقاربان نسبيا من الناحية اللفظية، لكن بينهما تفاوت كبير؛ الاسم الأول “سنتياغو إلمايور”، نسبة إلى أحد حواريي عيسى عليه السلام، وهو القديس يعقوب بن زبدي، شقيق القديس يوحنا الذي اشتغل معه في مهنة الصيد في بحيرة طبريا قبل أن يلتقيا كلاهما بالنبي عيسى. والاسم الثاني هو “سنتياغو ماتا مورو”، ويحيل، تاريخيا، على لقب أطلق على أحد قياد الجيوش، التي هزمت المسلمين في الأندلس وطردت الموريسكيين إلى شمال المغرب والنواحي. وتعني “ماتا مورو” في اللغة الإسبانية “قاتل مورو”. و”مورو” هو اللقب العنصري المشهور الذي يطلقه الإسبان على المغاربة.
يقول الدريوش: “الاسم الحقيقي الرسمي الذي أُطلق على الكنيسة من طرف المشرفين على بنائها هو “سنتياغو إلمايور”، وهو الاسم الإسباني للقديس يعقوب بن زبدي.
أما التسمية الثانية “سنتياغو ماتا مورو”، فمن المرجح أن يكون بعض العنصريين الإسبان في تلك الفترة التاريخية قد لقبوا الكنيسة بها، وتداولوها فيما بينهم كنوع من تمجيد هذه الشخصية التاريخية القاتلة، والتشفي في المغاربة أو من يسمونهم الـ”مورو”. وهكذا تناقل الأفراد هذا الاسم حتى ظُنّ أنه الأصل في تسمية الكنيسة حتى عند الأهالي أنفسهم”.
الكنيسة في معركة أنوال
عاش الاستعمار الإسباني في الريف واقعة انهزام كبرى على يد المقاومة الريفية بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي استطاع هزيمة الجيوش الإسبانية في معركة أنوال سنة 1921م، التي دخل مجدُها تاريخ الريف من أوسع أبوابه.
يقول الدريوش: “بعد الذي لحق الاستعمار الإسباني من خسائر فادحة وتراجع نفوذه في منطقة الريف بعد معركة أنوال الخالدة، اضطر ما تبقى من الجنود الإسبان إلى الانسحاب إلى مدينة مليلية، إلا كتيبة عسكرية تحصنت بكنيسة “سنتياغو” في انتظار انفلاتها من قبضة المقاومين، وبالتالي الهروب إلى مليلية. لكن جنود محمد بن عبد الكريم الخطابي عقدوا العزم على الاستمرار في إبادة كل تواجد إسباني في منطقة الريف، فتوصلوا إلى مكان تحصن هذه الكتيبة، وقضوا على أفرادها جميعا. وما زال الإسبان، إلى اليوم، يحيون هذه الواقعة التاريخية ويخلدون ذكرى قتلاها ويعتبرونهم شهداء حرب الريف”.
الراهبة كارمن
يحتفظ أهل الناظور بذكريات جميلة عن أدوار إنسانية نادرة قامت بها الراهبة ماري كارمن مورينو لوبيز، التي قضت حياتها في كنيسة “سنتياغو إلمايور” مشرفة على أعمال خيرية طالت جميع الفئات بصرف النظر عن انتمائهم الديني أو العرقي.
يقول بوطيبي: “تعد الراهبة كارمن، بحق، أيقونة كنيسة “سنتياغو إلمايور” منذ بنائها؛ كانت مثالا حيا لامرأة تقية وورعة متفانية في عملها الدؤوب؛ نذرت نفسها في خدمة المحتاجين ورعاية المرضى وإسعافهم وتقديم خدمات إنسانية واجتماعية لجميع الفئات، وهي إسبانية الجنسية من مواليد مدينة الناظور، ظلت طوال حياتها على رأس الكنيسة، ولم تتعب في عملها الخيري منذ شبابها إلى كبرها”.
الكثيرون رجحوا عودة كارمن إلى أهلها بإسبانيا بعد تقدمها في السن، لكن المتفق حوله أن هذه الراهبة اختفت عن الأنظار منذ سنوات، تاركة وراءها ذكريات طيبة في ذاكرة أهل الناظور عن التعايش الديني وثقافة قبول الآخر وإعلاء القيم الإنسانية على حساب الاختلافات الدينية والإيديولوجية.
الكنيسة حاليا
على خلاف عدد من الكنائس التي بناها الاستعمار الإسباني بالمدن والجماعات التابعة لإقليم الناظور، التي طالها الهدم أو تحولت إلى بنايات سكنية أو مساجد إسلامية، ظلّت كنيسة “سنتياغو إلمايور” صامدة في وجه تقلبات الزمن.
ورغم تراجع نشاطها الدّيني منذ الاستقلال بعد اضطرار عدد من المستوطنين الإسبان إلى العودة إلى بلادهم، ما زالت الكنيسة تستقبل مصلين مسيحيين، وتضم أنشطة دينية مختلفة من حين لآخر؛ لكن ما يعرف عنها حاليا أنها تحوّلت إلى قطب علمي ثقافي تكويني في مجالات مختلفة، ومركز مساعدة المهاجرين.
يتخرج سنويا من مركز “البركة”، التابع للكنيسة، عشرات من حملة شهادات التكوين في ورشات كهرباء البناء والترصيص الصحي والدعم المدرسي والخياطة والأعمال اليدوية والطبخ والرسم والإعلاميات والتسيير الإداري وتعلم اللغات الإسبانية والفرنسية والإنجليزية.
وإلى جانب التعلم والتكوين، تضم الكنيسة بين جنباتها مركزا لمساعدة المهاجرين الأفارقة المتواجدين في عدد من المناطق الوعرة بالناظور، خاصة غابة “كوروكو”، حيث يقدم الطاقم المشرف على المركز مساعدات إنسانية عبارة عن أطعمة وألبسة وأغطية لفائدة هؤلاء المهاجرين. كما تقوم مجموعة من الراهبات المقيمات بالكنيسة ذاتها بتقديم خدمات إنسانية لفائدة المرضى في عدد من المستشفيات بالناظور، إلى جانب زيارات خيرية يقمن بها لدار العجرة والأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة.