هل تحتاج الصحافة في الوقت الحالي إلى صحافيين، أم إلى صناع محتوى؟ هذا هو السؤال الذي يدور في خلد “بارونات الإعلام” في فرنسا، إذ أقدم العديد من الصحافيين على الاستقالة تباعا من المجلة العريقة Science & Vie” ” بعد أن همش الملاّك الجدد للمجلة الصحافيين المهنيين، واستعاضوا عنهم بـ”صناع للمحتوى” يشتغلون عن بعد ومن دول فرنكوفونية مختلفة وبعقود قصيرة الأجل ورواتب زهيدة.
وفي أمريكا الشمالية، ومع الصعود القوي لأسعار العملات الرقمية والأسهم والمؤشرات المحلية، يسود نقاش إعلامي حول قانونية بعض المواقع والصفحات الإلكترونية على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تقوم بتقديم توصيات وتسدي نصائح مالية للمستهلكين الأمريكيين يمكن أن تؤدي بهم إلى فقدان ملايين الدولارات.
أما في المنطقة العربية، فلا حديث اليوم على المستوى الإعلامي سوى عن مآل “غرف الردح الإعلامي”، وعن “أيتام أردوغان والسيسي”، بعد القرار المصري التركي بوقف “إطلاق النار الإعلامي”، وهي العمليات التي استمرت حوالي ثمان سنوات، أي منذ عزل الراحل محمد مرسي، أول رئيس مصري منتخب ديمقراطيا.
وفي انتظار عودة المياه إلى مجاريها بشكل تام بين القاهرة وأنقرة، شاهدت مداخلة على قناة عربية شهيرة لإعلامي مصري معارض مقيم بإسطنبول، قال في تعريفه للمهنية إنها مصطلح وضعته الأنظمة لتقييد حرية الصحافة، وأن القرار المصري التركي مجرد اتفاق بين دولتين لـ”مصلحة ما” بينهما، وأنه لا يعارض هذا الأمر.
في الوقت نفسه لم يرف للمذيع الذي يحاوره “جفن” وهو يستعرض على الإعلامي المعارض قائمة اتهامات، من بينها أنه “تم استغلالكم من طرف دولة ضد دولتكم”. ثم يسائله بطريقة مستفزة عن المهنية وأخلاقيات الصحافة، علما أن هذا المذيع المصري كان سنوات طويلة، وعبر برامج، “يفتح الهواء” من عاصمة خليجية ويكيل الشتائم لنظام الحكم في بلده، ويصف مسؤولي بلاده بأقذع النعوت.
°°°°°°
قبل أيام أرسل لي صديق ليبي، من أقارب وزير الدفاع الأسبق أبو بكر يونس، شريط فيديو قديما لقناة عربية شهيرة تظهر فيه جثة قتيل مسن تميل ملامح وجهه إلى الزرقة ومصاب برصاصة قريبة من منطقة العنق، والمذيع يعلّق بصوت جَهوري وعربية فصيحة “نحن الآن نشاهد جثة وزير دفاع القذافي…”
المثير أن الفيديو هو عملية تمثيل بالجثة تُظهر بعض الأيادي التي تجذب ياقة قميص القتيل وتحرك جثته من أعلى الرأس وكأنه “خنشة بطاطس” وليس جثة آدمية، وأسفل الشاشة من الجهة اليمنى تظهر الهوية البصرية لأشهر قناة عربية، وعن يسارها كُتبت عبارة “ليبيا.. الثورة تنتصر”.
وأبو بكر يونس، لمن لا يعرفه، هو قائد القوات المسلحة الليبية ووزير الدفاع الليبي لأزيد من 40 سنة، قتل في هجوم حلف “الناتو” على مداخل مدينة سرت، الذي أسفر عن اعتقال الديكتاتور الليبي معمر القذافي و”خوزقته”، ثم دفن أشلائه في جنح الظلام بعد ذلك.
الصديق الليبي الذي يشتغل مكلفا بالتواصل في إحدى المؤسسات الرسمية البريطانية، أرسل لي في رسالة ثانية قائمة روابط لإصدارات معهد إعلامي تابع للقناة سالفة الذكر، وهي “فذلكات أكاديمية” تتحدث بتعال عن المهنية وأخلاقيات العمل الصحافي والتحقق من التضليل الإعلامي، ثم ختمها برسالة قصيرة ثالثة كتب فيها “الشوارب تبوس.. والقلب فيه السوس”، وهو مثل متداول في البادية الليبية.
ختمت حديثي مع الصديق الليبي بتذكيره بأن قناة الرأي والرأي الآخر كانت أول منبر إعلامي يُدخل المسؤولين الصهيونيين إلى المنازل العربية، وفي الوقت نفسه يبث الفيديوهات التحريضية لأشهر إرهابي في تاريخ البشرية، أسامة بن لادن، وتلميذه أبي مصعب الزرقاوي الذي كان يذبح المختطفين أمام الكاميرا ببرودة دم منقطعة النظير، ثم يرسل الفيديو إلى المنتديات الجهادية، وإلى القناة سالفة الذكر كذلك.
°°°°°°
أما بلد المليون صحافي فهو المغرب، كيف لا وقد أصبحت المملكة تتوفر بدون مبالغة على آلاف المواقع الإلكترونية ومئات الآلاف من الصفحات الإخبارية على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تبث دون توقف خليطا من “الأخبار” الخفيفة والنكت السمجة والتعليقات الشخصية، فضلا عن المستملحات السوقية والجنسية.
وسط هذه “الجوطية الإعلامية” التي يندس فيها الصحافي والمُخبر، يقبع العديد من المرضى نفسيا وأشباه الصحافيين، الذين يتنفسون من الإساءة إلى الآخرين، إما عبر تدوينات بئيسة وغبية أو اختلاق الأخبار الزائفة، والتحامل بطريقة هستيرية على الأفراد ومؤسسات الدولة.
يحدث هذا في زمن “البتكوين”، الذي يتحرك كجلمود صخر حطه السيل من علِ، بينما يحن بعض الأفاقين والنصابين المقيمين بشكل دائم على مواقع التواصل الاجتماعي إلى زمن “الماضي الذي لن يعود” عندما كان الحوار الصحافي يخضع للتسعير، وعملية الدفع تتم تحت طاولة “الزعيم السياسي”.
لكن المسألة ليست مادية فقط، بل هي أخلاقية أيضا، حتى أن أحد الأصدقاء الإعلاميين أخبرني أنه من مفارقات بلد المليون صحافي أن تحصد “مؤخرة مترهلة” على ملايين السنتيمات والمشاهدات من “يوتيوب”، ويحصل “دكان إلكتروني” على بضعة مئات من الدراهم شهريا فقط من “غوغل أدسنس”، وكأن هذا الدكان الصحافي، مع الأسف، لا يزوره سوى صاحبه وحفنة من أصدقائه وصديقاته. لكن قصص النجاح في بلد المليون صحافي موجودة، فأينما وليت وجهك شطر العالم تجد الكفاءات الإعلامية المغربية في قطر والإمارات وفرنسا وإيطاليا وأمريكا وكندا…
أما الصحافيون والمخبرون في بلد المليون.. فتلك قصة أخرى…
The post شجون مهنية من بلاد المليون صحافي appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.