يرى د. إدريس لكريني، مدير مختبر الدراسات الدستورية وتحليل الأزمات والسياسات، أن الأزمة الحالية بين المغرب وإسبانيا، المتمثلة في استقبال زعيم المرتزقة إبراهيم غالي، تشكل تعبيرا واضحا يجسد التناقض الحاصل بين الشعارات والتصريحات، التي تطلقها إسبانيا بصدد الحرص على تمتين العلاقات مع “شريك استراتيجي”، والإقدام في مقابل ذلك على اقتراف أفعال وسياسات مسيئة، تتناقض مع متطلبات الشراكة وحسن الجوار.

وتنضاف الأزمة الحالية، وفق مقال للكريني، إلى عدد من المحطات الصعبة، التي مرت بها العلاقات بين البلدين خلال السنوات الأخيرة، كما تعيد إلى الأذهان أزمة جزيرة ليلى التي تفجرت في صيف 2002.

شراكة طويلة ظلت تسير على إيقاع أزمات تطل من هنا وهناك بين الفينة والأخرى، يحاول لكريني تحليلها من خلال مقاله الجديد.

وهذا نص المقال:

أعاد استقبال السلطات الإسبانية لزعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي فوق أراضيها بهوية مزيفة قصد العلاج، ودون إشعار المغرب بالأمر، مستقبل العلاقات بين البلدين إلى واجهة النقاش السياسي والأكاديمي.

اعتبر المغرب أن هذه الخطوة غير المحسوبة تمثل إساءة واضحة، وسلوكا يتناقض مع متطلبات حسن الجوار، فالأمر يتعلق بشخص متهم بارتكاب جرائم خطيرة ضد الإنسانية، مطروحة أمام القضاء الإسباني، كما أنه هدّد غير ما مرة بنهج الخيار العسكري ضد المغرب ووحدته الترابية.

حاولت إسبانيا تبرير الأمر بـ”دواع إنسانية بحتة”، وهو ما يطرح أكثر من استفهام، بالنظر إلى أن هناك عددا من الضحايا، الذين رفعوا دعاوى ضد المتهم أمام القضاء الإسباني، ومنهم من يحمل جنسية هذه الأخيرة.

وأمام هذه المحطة، التي تسائل مصداقية واستقلالية القضاء الإسباني، ومدى انخراطه الفعلي في تعزيز مبدأ عدم الإفلات من العقاب، وجدت السلطات الرسمية الإسبانية نفسها في موقف حرج أمام الرأي العام الداخلي وكذا الدولي، إزاء قضية تضع التجربة “الديمقراطية” و”الحقوقية” الإسبانية أمام محكّ حقيقي.

تشكل هذه الأزمة تعبيرا واضحا يجسد التناقض الحاصل بين الشعارات والتصريحات، التي تطلقها إسبانيا بصدد الحرص على تمتين العلاقات مع “شريك استراتيجي” تجمعه بها مجموعة من المصالح والأولويات المشتركة، سواء تعلق الأمر بقضايا الهجرة أو مكافحة الإرهاب أو التعاون الاقتصادي، والإقدام في مقابل ذلك على اقتراف أفعال وسياسات مسيئة، تتناقض مع متطلبات الشراكة وحسن الجوار.

تنضاف هذه الأزمة إلى عدد من المحطات الصعبة التي مرت بها العلاقات بين البلدين خلال السنوات الأخيرة، كما تعيد إلى الأذهان أزمة جزيرة ليلى، التي تفجرت في صيف 2002، فعندما قرّر المغرب ترسيم حدوده البحرية عبّر الحزب الاشتراكي، الذي يقود الحكومة الإسبانية، عن رفضه لهذه الخطوة، وفي أعقاب إصدار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مرسوما رئاسيا يقرّ فيه بمغربية الصحراء، أبانت إسبانيا بشكل صريح عن انزعاجها من الأمر، وأكدت وزيرة خارجيتها رفضها لما أسمته “التوجهات الأحادية في العلاقات الدولية”، بل اعترفت بأن بلادها تباشر اتصالات مع الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن لدفعه نحو التراجع عن هذا القرار، وهو ما خلف صدمة كبيرة في الأوساط الرسمية والشعبية المغربية.

تبرز الكثير من التوجهات الإسبانية خلال العقود الأخيرة مخاوف إزاء أي تطور عسكري مغربي، وإزاء أي انفراج في قضية الصحراء يدعم مكانة المغرب الإقليمية والدولية، وهو ما يضفي قدرا من الشك على العلاقات بين البلدين، ويعيد إلى الواجهة عددا من الملفات العالقة، كما هو الشأن بالنسبة لمستقبل مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين وعدد من الجزر الأخرى.

ورغم تقليل السّلطات الإسبانية من خطورة الأزمة الراهنة، بالتأكيد على رغبتها في تعزيز شراكتها مع المغرب، فإن هذا الأخير اعتبر الأمر فرصة لوضع النقط على الحروف، بدفع الطرف الإسباني إلى تجاوز نظرته الاستعلائية، واستيعاب التطورات التي شهدها المغرب في مختلف المجالات، وإرساء علاقات متوازنة تحقق مصالح الطرفين.

وفي هذه الأجواء وصل عدد كبير من المهاجرين السريين من جنسيات مختلفة إلى سبتة المحتلة، ما أثار انزعاجا كبيرا لدى السلطات الإسبانية، التي اعتبرت الأمر ناجما عن تساهل السلطات المغربية.

وقد مثل هذا الحادث مناسبة لقياس طبيعة التعامل الإسباني مع ظاهرة الهجرة بشكل عام، حيث طغت المقاربة الأمنية، باستخدام الغازات المسيلة للدموع، والرصاص الحي، ومحاولة تصريف الأزمة، وتحميل المغرب مسؤولية ما وصل إليه الأمر. والواقع أن الأمر أظهر حجم الجهود التي يتحملها المغرب في سبيل الحد من الظاهرة بعدما تحوّل إلى بلد مستقبل، مع رفضه الدائم للقيام بدور “شرطي مرور” لتأمين الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط.

لقد ظل المغرب يؤكد على أن السلطات الإسبانية هي المسؤولة عن تأزّم العلاقات باستقبالها شخصا معاديا، فالدواعي الإنسانية التي برّرت بها استقبال زعيم البوليساريو، تضع إسبانيا في تناقض صارخ، بالنظر إلى تنكرها للمعاناة الإنسانية لعدد من ضحاياه، ولتغليبها المقاربة الأمنية في التعامل مع قضايا الهجرة، فيما تجرّ خلفها إرثا من الجرائم الإنسانية التي ارتكبتها شمال المغرب، خاصة تلك المتعلقة باستعمال الغازات السامة، وما ترتب عنها من دمار وقتل عمدي في إطار الحملة الاستعمارية التي استهدفت المغرب في عشرينيات القرن الماضي، ويتعلق الأمر بجريمة إبادة بشرية تندرج ضمن جرائم الحرب. وقد بينت الكثير من الدراسات والتقارير المنجزة من قبل باحثين ومنظمات غير حكومية عن تفشي الإصابة بمرض السرطان في أوساط ساكنة المنطقة، بصورة تتجاوز بكثير المعدلات الوطنية المسجلة في هذا الشأن، ما يفرض إقرار إسبانيا بهذه الجرائم التي لا تتقادم، وتحمّل مسؤولية مخلفاتها وتبعاتها.

أتاحت الأزمة الأخيرة الوقوف على حجم التناقض الحاصل بين الخطاب الرسمي الإسباني من جهة، وواقع المواقف والسياسات التي لا تخلو من عداء للمغرب، الذي طالما انخرط بجدية في إرساء شراكة استراتيجية مع إسبانيا، ودول الاتحاد الأوروبي، سواء فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب أو الجريمة المنظمة العابرة للحدود أو قضايا الهجرة أو المجالات التجارية والاقتصادية، وهو ما يفرض على المغرب استثمار هذه المحطة بشكل جيد حتى لا يكون ضحيتها في الوقت الراهن أو المستقبل، عبر إعادة ترتيب أوراقه في هذا الخصوص، باتجاه إرساء علاقات أكثر توازنا، مع تنويع الشركاء، والانخراط بشكل كبير في تعزيز علاقات جنوب – جنوب في الدوائر الإفريقية والآسيوية وبأمريكا اللاتينية..

ويملك المغرب ورقة حيوية وقوية ورابحة يمكن أن يقلب بها الموازين السياسية الراهنة داخل أوروبا وليس في إسبانيا فقط. ويتعلق الأمر بملف الهجرة، الذي تنتعش وتتغذى منه التيارات اليمينية، وثبت أنه يرهق ويربك دول الاتحاد قاطبة، خاصة مع تنامي التدفقات البشرية من دول الساحل الإفريقي وسوريا واليمن..

وبالمنطق الواقعي للعلاقات الدولية، فإن انخراط المغرب الجاد في التعاون بصدد هذا الملف يتطلب، في المقابل، تعاونا أوروبيا حقيقيا ومتوازنا يدعم تحقيق مصالح الجميع.

hespress.com