بصرف النظر عن تقييم ولاية الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية، خصوصا في الشق الخارجي، سيظل أحد الرؤساء الذين لن ينساهم الشعب المغربي؛ ذلك أن الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء يجعلنا بصدد تحقيب جديد للقضية الوطنية: مرحلة ما قبل الاعتراف الأمريكي ومرحلة ما بعدها. إنها حقيقة ساطعة لن تمحوها الخطابات التي اعتبرته اعتراف تحصيل حاصل أو تلك المواقف التي رفضت أن يكون مقابلا لاستئناف العلاقات مع دولة إسرائيل. إننا مدينون للسيد ترامب بالشكر والامتنان والعرفان.. ويهمني أن أبدي بعض الملاحظات للمساهمة في النقاش العمومي الذي تعرفه بلادنا حول القرار الأمريكي، وحول استئناف العلاقات مع إسرائيل:

أولا: لأول مرة منذ بداية النزاع المفتعل حول الصحراء تعلن قوة عظمى بل القوة العظمى الأولى في العالم اليوم دعمها الواضح والعلني والصريح لمغربية الصحراء، وتقر بالسيادة المغربية وبأن الصحراء جزء لا يتجزأ من الأراضي المغربية. والذين يعرفون جيدا تاريخ النزاع، يعرفون أن جزائر الهواري بومدين وظفت بشكل ماكر وخبيث أموال النفط الجزائري في سياسة الاعترافات الدولية بالكيان الانفصالي من أجل محاصرة الموقف المغربي، وإظهارنا كقوة احتلال لا أقل ولا أكثر؛ لذلك لا يجب فصل هذا الاعتراف الأمريكي النفيس عن معركة الاعترافات وسحب الاعترافات، التي نخوضها مع عسكر الجزائر منذ خمس وأربعين سنة.

ولا يمكن فهم السعار الجزائري من القرار الأمريكي إلا على ضوء هذه الحقيقة التاريخية، لذلك فإن توالي سحب الاعترافات بالكيان الانفصالي الوهمي، وتزايد عدد القنصليات الأجنبية التي تم فتحها في مدينتي العيون والداخلة، جعلنا ننتقل من موقع الدفاع عن مغربية الصحراء إلى موقع الهجوم الكاسح.

ثانيا: منذ إعلان هذا التحول الأمريكي، انطلق نقاش على الصعيد الوطني والدولي عن الثمن الذي دفعناه للحصول على هذا الاعتراف النفيس، بل هناك من تحدث بشكل واضح عن صفقة مغربية أمريكية إسرائيلية. يتعين هنا التأكيد بكل وضوح أن هذا القرار وتداعياته السياسية والقانونية في مؤسسات الأمم المتحدة وأروقة المنظمات الإقليمية الوازنة يجعلنا الرابح من هذه الصفقة؛ هذا على فرضية وجودها أصلا. ومعلوم أن العلاقات الدولية لا تقوم على الحب والغرام، بل هي قائمة على لغة المصالح ومنطق الصفقات أولا، ثم بعد ذلك تأتي القيم والمبادئ، وحتى إذا تم الحديث عنها فإنما لحجب الأولى لا غير.

ثالثا: بخصوص الموقف من النزاع الفلسطيني الإسرائيلي فقد كان بلاغ الديوان الملكي الذي تضمن فحوى المكالمة الهاتفية بين جلالة الملك والرئيس الفلسطيني حاسما وواضحا في أننا لم نغير ولن نغير في المستقبل مواقفنا الداعمة للشعب الفلسطيني ولحقوقه المشروعة، وفي مقدمتها إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. وهنا تتعين الإشارة إلى أن بعض الأصوات التابعة للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، التي تبث أساسا من تركيا، شنت هجوما دنيئا على المغرب، رغم أن التاريخ يسجل جيدا مواقفنا الدائمة دفاعا عن الشعب الفلسطيني، كان أقواها رمزية استقبال جلالة الملك لوزير الخارجية الأمريكي كولين باول وهو يضع على صدره صورة القدس الشريف. لذلك لا يمكن أن يزايد علينا الإخوة العرب في هذه القضية؛ أما التنظيم الدولي للإخوان فإنه مدعو للقيام بمراجعات عميقة لأدبياته ومواقفه، ليس فقط من معركة بناء الديمقراطية في المنطقة، بعد فشله في استثمار فرصة الربيع العربي لبناء شراكة حقيقية مع التيارات الفكرية والسياسية الأخرى- والحالة المصرية أكبر دليل على هذا الكلام- بل أيضا مواقفه من العلاقات مع إسرائيل.

رابعا: رغم أن مطالعة تاريخ منظمة الأمم المتحدة منذ نشأة عصبة الأمم يؤكد أنها لم تستطع حل أي نزاع دولي، ورغم أن النزاعات الدولية كان يتم التوافق حولها بين الخمس الكبار في مجلس الأمن، إلا أن المملكة المغربية سعت دائما إلى التعامل بحسن نية مع الأمم المتحدة في سعيها إلى حل النزاع، رغم فشلها في مخطط التسوية، وفشلها في إقناع الجزائر بأن حل النزاع مستحيل خارج السيادة المغربية على الصحراء. لذلك ألا يحق لنا اليوم أن نتساءل عن دور الأمم المتحدة في النزاع، والحاجة إلى الخروج من العبارات الإنشائية الفضفاضة إلى الوضوح في المواقف؟ وهنا تكمن أهمية القرار الأمريكي.. علينا أن نعمق هذه الشراكة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية حتى تتحول أمريكا إلى مدافع شرس عن مغربية الصحراء داخل مجلس الأمن والجمعية العامة وباقي مؤسسات الأمم المتحدة، والهدف الآن هو أن يحدث الموقف الأمريكي مفعوله في قرارات مجلس الأمن. وهنا لن نحتاج فقط إلى أمريكا، بل إننا بحاجة كذلك إلى علاقات تعاون مع دولة إسرائيل.

خامسا: المغرب ليس دولة تابعة، ومخطئ من يعتقد ذلك.. واحد محددات الدبلوماسية المغربية هو تنويع الشركاء، وموقف جلالة الملك الحكيم من الأزمة الخليجية أظهر أن المملكة المغربية دولة مستقلة في قرارها الخارجي، وحريصة على وحدة الصف العربي خارج منطق المحاور، الذي لم تجن منه المنطقة إلا الويلات وداعش … لذلك فقرار استئناف العلاقات مع إسرائيل يجب أن ينظر إليه كقرار سيادي مستقل ومرتبط بالعلاقة الخاصة التي ظلت دوما تربط جلالة الملك باليهود المغاربة في إسرائيل، وقبل كل ذلك وبعده يجب أن ينظر إليه في علاقته مع المصالح العليا للشعب المغربي.

سادسا : عدونا اليوم ليس إسرائيل، بل هو النظام العسكري في الجزائر الذي تمكن من تجديد نفسه، بعد إجهاض المسلسل الديمقراطي في مطلع التسعينيات، وكان مسئولا مباشرا عن العشرية السوداء، وقام بقمع الحراك الجزائري الذي نادى بالديمقراطية والحرية وإسقاط الفساد. صحيح أنه لا نحن ولا هم بوسعهم تغيير الجغرافية، حتى ولو كذبوا على التاريخ، ولكن علينا نحن المغاربة اليوم أن نفكر بحكمة وتبصر بعيدا عن الخطابات العاطفية أو الاستغلال السياسيوي لتعاطف المغاربة الصادق والدائم مع القضية الفلسطينية..علينا أن نصطف وراء الملك، وندعم القرارات التي اتخذها، بكل وضوح ودون لعب على الكلمات، أو تبادل الأدوار.

سابعا : كاذب من يقول إن استئناف العلاقات مع إسرائيل حتى لو كان مقابله نفيس ليس قرارا صعبا، ولكن جميع الشعوب تمر في تاريخها بفترات تضطر لاتخاذ قرارات صعبة. وكان السيد رئيس الحكومة جد موفق عندما قال للجزيرة إن مغربا قويا موحدا هو أفضل لفلسطين وللقضية الفلسطينية من مغرب مقسم لا قدر الله.

هذا النزاع طال كثيرا وعسكر الجزائر يعتبرون إضعاف المغرب جزءا من العقيدة العسكرية الجزائرية، والمغرب اليوم انتقل إلى الهجوم الكاسح، وهو هجوم لا يجب أن يتوقف حتى ننتزع اعتراف الأمم المتحدة بالسيادة على الإقليم، وهو الأمر الذي لن يتم بالعنتريات البالية….. بل إن الطريق إليه ابتدأ للتو.

ثامنا : عطفا على كل ما سبق بيانه، أعتقد أن المعركة لها واجهات متعددة، لذلك فإن الاستمرار في هذه المكتسبات الخارجية يجب أن يتم في تواز مع المضي قدما في الاختيار الديمقراطي، لأن الديمقراطية هي أبلغ جواب عن الانفصال والتطرف، وهو الأمر الذي يفرض بالضرورة صون المكتسبات المحققة في مجال الحقوق والحريات، وفي مقدمتها حرية الرأي والتعبير، وخصوصا لأولئك الذين لديهم آراء مختلفة، فقط عليهم أن يتذكروا وهم يمارسون حرية التعبير أن الأمر هذه المرة ليس خلافا مع السلطة، فالقضية اليوم تتعلق بالصحراء المغربية، التي مات من أجلها المغاربة وأسروا سنوات طويلة.

الأمر جلل واللحظة دقيقة والعدو في جوارنا وليس في الشرق الأوسط.

hespress.com