شمسنا لن تغيب


ذ. أحمد العمراوي


الثلاثاء 5 يناير 2021 – 00:54

ليسوا قلة أولئك الذين أعطوا قيمة إيجابية للإسهام العربي في الحضارة الإنسانية، وخاصة ما قاموا به في العصر الوسيط. وإذا كانت الأمور الآن تسير بشكل سيء في الدول العربية، فإن ذلك لا يعني بأي شكل من الأشكال أن الجنس العربي ذو مستوى متدن وأقل من الناحية الفكرية، إنما هي دورة التاريخ. وسيكون من الإجحاف أن نولي ظهورنا لعصر كبير من الازدهار، عصر أخرج الكائن البشري من ظلمات الجوع والجهل إلى نور العلم والمعرفة.

لقد ألّف المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف (1924-2014) كتابا سمّاه “المثقفون في العصر الوسيط”، ويعترف فيه بأن الغرب كان يملك فقط بعض المواد الخام لكي يصدرها، مع توجه متواضع نحو صناعة النسيج. ويضيف بأن الإنتاج المادي الغالي والنادر والثمين والإنتاج العقلي والفكري، كالمخطوطات، كان يأتي من الشرق: بيزنطة، دمشق بغداد، قرطبة. ونلاحظ هنا بأنه يدرج قرطبة في الشرق، على الرغم من أنها توجد في الغرب. والكاتب يعتبرها كذلك نظرا لأنها كانت تحت الحكم العربي.

لقد أخذ هذا الكاتب استشهادات من مفكر آخر من تلك الفترة نفسها هو أبيلاردو Abelardo عندما أكد هذا الأخير بأن فهم اللغة الإغريقية (اليونانية) في الغرب لم يكن عملية سهلة دون المساعدة العربية (مسيحيون يهود مسلمون)؛ لكننا سنلاحظ بأن الجزاء سيأتي لاحقا من بيدرو الجليل: وهذا الجزاء هو استغلال الترجمة من العربية للتغلب على العرب أنفسهم في الميدان الفكري. حينها، توجه نحو القرآن كهدف أول في هذه المعركة. هذا الراهب/ الأب المسيحي يعترف بأن قلبه “يلتهب وأن تفكيره وتأمله يحترق عندما يرى الجهل يخيم على اللاتينيين. ولم تتوقف حماسته عند هذا الحد، حيث يشير بدون التواء إلى أنه وجب العمل لقطع الطريق على الكفار: المحمديون (المسلمون)؛ ولكنه يتحسر، في النهاية، عندما يرى بأنه لا أحد كان يجيب لأنه لا أحد كان يعرف. لا. ليس الأمر كذلك!. كان هناك طريق آخر: الاستعطافات والإغراء بالمال. لمن سيدفع ذلك فيما بعد؟ للمختصين في اللغة العربية. ولــمَ؟ لأنها هي التي سمحت لهذا السم القاتل (يعني به الإسلام) بالانتشار في أكثر من نصف العالم. وكيف سيصدق الناس تلك الترجمة؟ باستعمال الحيل والخدع لكي” لا يكون هناك أبدا خطأ يشوش على فهمنا الكامل، أضفت إلى اسم كل مترجم مسيحي اسما عربيا هو محمد. وهكذا كوّن الأب المقدس /الجليل المزعوم فريقا من العرب المزورين لترجمة القرآن سنة 1142م. ولكن من يكون هذا “الجليل”( والأفَّــاق التاريخي)؟ لقد كان رئيس دير فرنسي يدعى بيار موريس Pierre Maurice وقد سافر إلى إسبانيا ليوقف العرب (لأن المسيحيين هناك كانوا يذخرون الجهود، وكانوا غير نافعين!، أو هكذا سيكون قد فكر).

ويبدو أن مفكرا أوروبيا آخر هو كين فوليت Ken Follett قد أعجب بتلك الفترة، فكتب “أعمدة الأرض”؛ وهو عمل أدبي تاريخي من الحجم الكبير (حوالي 1051 صفحة). هذا الكاتب يسرد بعض الأحداث التي وقعت في الفترة نفسها التي كتب فيها الراهب سابق الذكر كتابه. والتناص بين الكتابين واضح جدا (نجد أن الفصل الرابع من “أعمدة الأرض” يشير إلى سنتي: 1142و1145). لقد كان البناؤون الإنجليز، ومن بينهم إحدى شخصيات الرواية، يتوجهون إلى أندلس بني أمية للبحث عن العمل والثروة مأخوذين بالتأثير الذي كانت تمارسه تلك المنطقة؛ فقد كانت مركز الحضارة اللامع والمتنور للعالم حينما كانت باريس ولندن تسبحان في الظلام التام.

وهكذا، يحكي في الصفحة 737 أن جاك كان يعيش في طليطلة مع مجموعة صغيرة من رجال الدين الإنجليز، كانوا يشكلون جزءا من مجموعة عالمية من العلماء التي يوجد فيها: يهود ومسلمون ومدجنون(عرب مسلمون متحولون إلى النصرانية). كان الإنجليز منشغلين بترجمة الرياضيات من العربية إلى اللاتينية لكي يتمكن المسيحيون من قراءتها.. كانوا يكتشفون الكنز التراثي للحكمة العربية”. وربما كانوا كذلك هم فريق ذلك “السيد الجليل”. نعم! بالضبط! لأنه بعد ذلك في الصفحة 742 سيقول بأن “جاك توجه إلى دير كلوني (ورئيسه هوبيدرو الجليل) وكانت العصب المركزي للإمبراطورية الكنسية التي كانت تمتد لتشمل كل العالم المسيحي. لقد كانت تابعة للوصاية الكلونية (نسبة إلى دير كلوني)، وكانت هذه الأخيرة هي التي تحث وتدفع الناس إلى الحج المشهور إلى ضريح سانتياغو كومبوستيلا”. تلك كانت إمبراطورية الأب الفرنسي.

كل ما يهمنا هنا هو أنه بالرغم من اختلاف دوافع الذهاب إلى الأندلس، فإن الإعجاب بالحضارة العربية كان شيئا لا مفر منه حينها. ونلاحظ ذلك في الصفحة 747 عندما يقول السارد: “كان جاك (وكان بناءً) يحس بالافتتان نحو مظاهر العمران الشرقي العربي. افتتن بالمكان الداخلي العالي والبارد، بالأقواس والحجارة المصقولة. وبياضها البراق تحت الشمس؛ ولكن ما كان يهم كثيرا هو اكتشافه بأن الهندسة العربية الإسلامية كانت تعتمد على قبة الأعصاب وعلى الأقواس ذات الرؤوس. وربما من هنا أخذ الفرنجة (الفرنسيون) أفكارهم الجديدة.

وبعد هذا كله وآخر كثير مثله، يستيقظ في داخل اليمين الأوروبي أبٌّ “جليل” ليقول للعالم بأن العرب والمسلمين هم مجرّد عالة على البشرية، فيا للوقاحة!.

hespress.com