ليس بالأمر الجديد ولا المفاجئ ما قامت به الشروق، بل الجزائر من تصرف غير مسؤول. فما وقع يؤكد بأننا أمام نظام لا يحترم الأعراف الدولية، غارق في غباء مركب، يسعى إلى تفريغ عنفه ومكبوتاته بجميع الطرق، حتى ولو تعلق الأمر بالمس بمقدسات دولة مجاورة عريقة.

ليس بالأمر الجديد ولا المفاجئ ما قامت به الجزائر /الشروق في حق الدولة المغربية ملكا وشعبا، فداء العطب قديم، وقد جاورنا الشر قدرا، إنه سعار يسكن عسكر الشرق منذ زمن الإيالة، زمن الانحناء لتركمان الاناضول، الذين حكموهم بباشا فقط. هكذا تحدث التاريخ.

يربط الكثير من الناس طبيعة العلاقة غير السوية بين الدولة المغربية والجزائر بمسألة الصحراء المغربية، بل منهم من يذهب أبعد من ذلك قليلا، ويتحدث عن كون منشأ هذه العلاقات غير الطبيعية هي حرب الرمال.

إلا أن الأمر غير ذلك، وسأبرز “أصالة” هذا العداء وتجدره في التاريخ، من خلال وقفة تأملية في رسالة جوابية بعثها السلطان العثماني أحمد الثالث إلى السلطان العلوي المولى إسماعيل، تتعلق بالاستفزازات التي كان يقوم بها حكام الإيالة الجزائرية على الحدود الشرقية للدولة المغربية، إبان خضوعهم للحكم العثماني.

وردت هذه الرسالة في كتاب “المنزع اللطيف في التلميح لمفاخر مولانا إسماعيل بن الشريف” لصاحبه عبد الرحمان ابن زيدان.

لا أريد هنا أن أكون ذلك الباحث في التاريخ الذي يسعى إلى تفكيك النصوص وتحليلها وفق مقاربات معينة، وإعادة بناء الوقائع اعتمادا على المناهج وأدوات البحث التاريخي، وإنما سأكتفي بتتبع بعض الإشارات التي وردت في الرسالة المذكورة، والتي تعطي فكرة للمتلقي عن صورة سلاطين الدولة المغربية والإيالة الجزائرية في ذهنية السلطان العثماني، من خلال بعض القضايا التي تحدث عنها هذا الأخير.

فعلى المستوى النفعي، لم يعتبر السلطان العثماني أحمد الثالث الإيالة الجزائرية، مجالا نافعا وذا قيمة اقتصادية بالنسبة للدولة العثمانية، فهذه الإيالة لم تكن في نظره تقدم أية قيمة مضافة للإمبراطورية، وقد عبر عن ذلك بقوله “…ولا احتياج لنا بخزائنهم…” تم أضاف في مكان آخر من الرسالة، قائلا “…فما هم إلا لقمة وخزائنهم ومتاعهم لا يسمن ولا يغني من جوع…”.

بل امتدت نظرته الدونية لتشمل بعضا من سكان الإيالة المذكورة، وقد عبر عن ذلك بالقول”…وبالجملة أهل الجزائر ما هم على شيء لكونهم أخلاط الناس فيهم الأصلي وفيهم البراني وفيهم من لا خلاق له ولم تكن عمارتها بذوي الأحساب والأنساب كل هذا لا يخفانا قبل نعرفه ونتحققه منهم…”

إلا أن الأكثر من هذا، أن السلطان أحمد الثالث، لم يكن يعير أدنى اهتمام للإيالة الجزائرية، رغم كونها تشكل امتدادا للإمبراطورية العثمانية، فهو لم يكلف نفسه عناء معرفة أخبار هذا الهامش المهمش من الإمبراطورية، حيث خاطب السلطان المولى إسماعيل بهذا الخصوص قائلا: “…اعلم أيها السيد المولى إنا قبل أن يصل إلينا كتابكم الأسمى وخطابكم الأنمى كنا لا نعرف ما هم عليه أهل الجزائر ولا أنهى إلينا فعلهم أحد كما أنهيتموه لنا ولا عرفنا ما صار عندهم ولا ما هم عليه…”. وأضاف في مكان آخر قائلا: “… والآن إن شاء الله نرد لهم البال ونشتغل بهم ولا نتركهم في حيز الإهمال…”.

إلا أن السلطان العثماني أدرك تأثير تهميشه للإيالة الجزائرية على العلاقات بين الدولتين المغربية والعثمانية، وعبر عن رغبته في تجاوز هذه الوضعية من خلال إفصاحه عن ضرورة اتخاذ إجراءات جديدة، تروم إحياء روابط التواصل بين المركز وهامشه، حيث قال “…ومن هذا الحين إن شاء الله نعود نبعث إليهم في كل سنة باشا جديدا وقاضيا كذلك يطلعان عليهم ولا يغيبان خبرهم عنا حتى لا يغيب عنا شأن من شؤونهم ولا أمر من أمورهم ولا نغفل عنهم بعد هذا…”.

وخلافا للصورة التي قدمها السلطان العثماني أحمد الثالث عن الإيالة الجزائرية، وما حملته من دونية وتجاهل، نجده مقابل ذلك يتحدث إلى السلطان العلوي المولى إسماعيل عن شرف سلالته وصلاحها ونقائها ومجدها، حيث قال:”…وألقيت عليك محبة مني عن طيب خاطر وخير متواتر لأنك صاحب الكرسي الشريف وشرفكم أصيل من جد إلى جد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشرف ومجد وقد جعل الله بينكم مودة ورحمة وأنتم أصحاب العقل والمجد والكرامة السرمدية وأهل الشريعة المحمدية يجب علينا معرفة قدركم والتنويه بمجدكم وفخركم وكيف تخفانا طهارتكم وكرامتكم والله تعالى يقول (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) وأنتم أهل الفضل والسلطنة العلية ومفتحة لكم الأبواب السنية…”.

كما أكد السلطان العثماني على تجدر العلاقات التاريخية التي ربطت على الدوام سلاطين الدولتين المغربية والعثمانية، حيث كانت غاية في الود والتفاهم والمحبة، وعبر عن ذلك بالقول “…ومن قديم الزمان كانت ملوك المغرب من الأشراف يكتبون إلينا وترد رسلهم علينا ولم تنقطع كتبهم ورسلهم عن أسلافنا وكانت بيننا محبة قديمة في سالف الزمان ملك عن ملك وسلطان عن سلطان…”

وهذا ليس بالغريب، فالأمر يتعلق بخطاب يدخل في سياق الأعراف الدبلوماسية، التي تروم بناء وتطوير وترسيخ العلائق بين الدول القوية والأصيلة، وذات الامتداد التاريخي العميق، كما يعبر عن التقدير والاجلال والتوقير الذي خص به سلاطين الدولة العثمانية سلاطين الدولة المغربية الشريفة.

وما يزكي ما ذهبنا إليه، ما تضمنته الرسالة المذكورة من إشارات حول موقف السلطان العثماني من الاستفزازات التي كان يقوم بها حكام إيالة الهامش على الحدود الشرقية للدولة المغربية، في عهد السلطان المولى اسماعيل، ويمكن الوقوف عند بعض منها كالتالي:

-“…وقد بلغنا أنهم خرجوا من البلاد بمحلتهم وأرادوا الشر معك وأنا لا نرضى منهم ذلك…”

-“…وإنما لما بلغني كتابك الشريف علمت شيطنتهم وقبحهم وغاظني كثيرا فعلهم كما أغاظك أو أكثر…”

-“…وإن عادوا يراجعونك ولو بكلمة نمحي جرتهم…”

-“…والآن حيث أيقظتنا إن رجعوا عن سوء فعلهم فذاك المنى والمراد وإن تمادوا على غيهم وأساءوا في جانبك ولو بكلمة أعلمنا ونحن نفوض لك فيهم تنتقم منهم بيدك وتفعل فيهم ما أردت…”

-“…وتلك الخرجة التي خرجوا لبلادك نطلب من كمال فعلك وحسبك أن تسمح لهم فيها لوجهنا…”

-“…وعلى خاطرنا لا تحافيهم بسوء فعالهم والله تعالى ينجيك ويحفظك من كل بلاء…”

-“… نعرف ونتحقق أن لا قدرة لهم على الوقوف أمامك ولا يطيقون ملاقاتك…”

-“…. فإن ساعدوك على ذلك (الجهاد) فتبارك الله وإن لم يساعدوك فاكتب لنا وترى ما نفعل بهم…”.

يتضح مما سبق أن طبيعة العلاقة بين الدولة المغربية والإيالة الجزائرية في عهد السلطان المولى إسماعيل، تميزت في عمومها بعدم الاستقرار. وأعتقد أن ثنائية الثابت والمتحول لم ولن تجد لها مكانا في تدبير علاقة الجوار بين الدولة المغربية والجزائر سواء زمن الإيالة أو زمن دولة العسكر. فالثابت هو سوء الجوار كما كان الحال في زمن إيالة الهامش، زمن الخنوع للأتراك، وامتد العداء والسعار خلال التاريخ الراهن، زمن دولة العسكر، وننظر المتحول زمن عسكر الدولة المدنية.

hespress.com