الشمسُ حارقة والرياح تهبّ. العشبُ يحْتَفي بخضرتهِ، في أوج فصل الربيع، وقربه من وادي “مقطع الصفا”، نواحي مدينة الريصاني. نقيقُ الضفادع ونباح الكلاب من بعيد يشهدان على العزلة الممتدة في كل الجهات. الخيمة وحدها تشكل الغرابة في هذا المكان، وتدل على آثار الوجود الإنساني. هنا، لا يحق لأي أحد الحديث عن التباعد الاجتماعي؛ فالمكان بعيدٌ عن الحياة أساساً. ترى كيف يعيش هؤلاء المواطنون هنا في عز الحجر الصحي؟

قاسينا الويلات لنصل إلى المنطقة. تعثرت عجلات السيارات في الرمال، إلاّ أن العزيمة أعتى من شتى العراقيل. اقتربنا بلطف وبخطى وئيدة حتى لا نفزع السكان أو يظنوا بنا الظنون. الأطفال يلعبون وكأن الدنيا بخير. طفلٌ من عامين يُقْبل حافي القدمين، يحاولُ حماية الخيمة، يرمينا بالأعواد حتى لا نقترب أكثر. ربّ الخيمة قادم بكل عبارات الترحاب. هو لا يعلمُ قدومنا، بيد أنه مستعد ليتقاسم معنا الرغيف ويشاركنا بساطتهُ في رمضان. يود لو نتذوق تلك “الحريرة”، التي تطهى أمام أعيننا فوق نارٍ هادئة، وقودُها غصون الأشجار الجافة.

رائحة الطماطم والتوابل تطاردُ أنفاسك، تتصاعد مع الدخان من قلب القِدْر. معاني الكرم والفرح بالزائر بادية للعيان لا يشوبها النفاق أو التصنع. لا خوف ولا ارتباك. ماذا يعرفُ هؤلاء السكان عن فيروس اخترق الحدود وقلب الموازين في كل مكان؟ هل حفاوة الاستقبال لدى هؤلاء البسطاء أقوى من أي شيء آخر؟

أذان المغرب؟

صعوبة الصوم في صعوبة المكان، ليس فقط بفعل الجو؛ وإنما نتيجة عدم القدرة على سماع صوت الأذان، الذي له أهمية اعتبارية في رمضان تحديداً بالنسبة للصائم.

يؤكدُ سكان هذه الخيمة أنهم لا يسمعون أي أذانٍ طيلة النهار، إلى درجة يصبحُ الصيام صعبا؛ لأنهم لا يسمعون الصبح الذي يعلنُ عن بداية الصوم، ولا المغرب الذي تصيحُ الصوامع مخبرةً بوقت الإفطار.

يحتسبون الدقائق كالساعات، ويراقبون الشمس. ينتظرون اتصالاً من أبنائهم العالقين في سيدي علي تافراوت ليزفوا إليهم الخبر بأنه وقت السحور أو وقتُ الإفطار.

إفطار البساطة

في هذه الخيمة، مائدةُ الإفطار في رمضان بكل معاني البساطة والفقر. التمر و”الحريرة” والماء كقاعدة، والخبز المحشو بالبصل والشحمة واللبن كاستثناء، كما تورد رقية وهي تضع القِدْر فوق الماء.

نفس الطعام يومياً

سليمان إسماعيلي، أحد المتطوعين، يتحدثُ خلف كمامته والدهشة تبدو في عينيه، معرباً عن الحزن العميق الذي خلفه خبر عناصر مائدة هاته العائلة وقت الإفطار. ويضيف قائلاً: “في الحقيقة اغرورقت عيناي بالدموع على حالتهم وابتسامتهم الممزوجة باليأس والبؤس.

ولا أخفي أنه كان ينتابني شعور غامض ممزوج بالحيرة والقلق آنذاك، بخصوص ماذا تحضر رقية لمائدة الإفطار؛ لأنني لم أر سوى قِدْر إناء تطبخُ فيه “الحريرة” ولا شيء عداها.

حينها أدركت أن ذاك هو الفطور وتلك هي الوجبة الرئيسة الذي سيجتمع حولها سبعة أشخاص يعيشون بنفس الطعام يومياً”، ختم كلامه بعبارة: “إن الأمر مؤسف حقاً أن تكون هذه هي مكونات مائدة الإفطار”.

“لا نعرفُ كورونا”

لا أثر للإجراءات الوقائية من الفيروس في الخيمة. لم نشاهد الصابون أو المعقمات. لا كمامات طبية. لا قيمة للفيروس في هذه الأرض الرطيبة.

تقول رقية بارتباك شديد يبدو على وجنتيها إنها لا تعرفُ شيئاً عن فيروس كورونا سوى اسمه وأنه مرض خطير، مؤكدة عدم قيامهم بأي إجراءات وقائية لتفادي الإصابة بكوفيد 19، كما أعرَبتْ بلغة دارجة لصيقة باللهجة الأمازيغية.

وأضافت مستعملةً لغة جسدها: “هم يقولون لا تذهبوا إلى أحد ولا يأتي إليكم أحد، ونحن أصلاً لا نعرف أحداً في هذه المنطقة”، متابعة بوجعٍ وحرقة: “كايقولو لينا الدراري فالتلفون قالت الوزارة بقاو فالدار ولكن أشمن دار عندنا حنا!”

خانتها التعابير وهي تتحدث عن عدم استفادتها من الدعم المخصص للفقراء جراء الجائحة من الصندوق. لا يتوفرون على “راميد”، الذي انتهت صلاحيته، ولا الشبكة للتسجيل، ولا يعرفون أي أحد ليسجلهم في الموقع المخصص لتلقي طلبات الدعم.

رقية، أم الطفلين سعيد ونزهة، لا تعدو أن تكون تجسيداً للتهميش الذي يعاني منه الفقراء بمنطقة الريصاني، والذي لم تساهم أزمة كورونا سوى في تعميقه.

hespress.com