“اللهم إني أسألك اعوجاج الخلق عليّ حتى لا يكون ملجئي إلا إليك” -مولاي عبد السلام بن مشيش-

إمام الأئمة، شيخ المشايخ، الغوث الأشهر، القطب المبجل.. تلك بعض من الألقاب التي خُلعت عليه، لكني انتخبت لقب “الكنز المطمور” لأنه ينطبق عليه كثيرا، فالرجل على الرغم من المكانة الرفيعة التي يحتلها في مصاف الصوفيين الكبار إلا أننا -في المغرب- لم نوفه كل حقه في التعريف به ودراسة آثاره.

هو أبو محمد سيدي عبد السلام بن مشيش بن أبي بكر بن علي، سليل المولى إدريس الأول فاتح المغرب، وبالتالي فنسبه ينتهي إلى سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ولد بمنطقة بني عروس بالقرب من مدينة طنجة، سنة 559هـ/1198م، ثم انتقل للعيش بجبل العلم قرب مدينة العرائش.

عُرف شيخنا الفاضل بخلقه الكريم وخصاله الحميدة وتواضعه الجم، فكان نموذج الناسك المنقطع عن الدنيا، الخنوع لله الواحد الأحد. كيف لا وقد هيأه نسبه الطاهر وبيئته المثلى لتسنم أعلى درجات التقوى والورع، وهو ما يجليه المؤرخ التليدي صاحب (المطرب بمشاهير أولياء المغرب) في قوله عنه:

“هو الذي أنواره منذ كان في المهد صبيا، ثم طوى في السياحة في صباه الأرض طيا […] حفظ القرآن بالروايات السبع وهو ابن الثانية عشرة، وقضى في سياحته أكثر من خمسة عشرة سنة، درس وتعلم على يد كبار العلماء والشيوخ، من بينهم: الولي الصالح سيدي سليم شيخه في القرآن، والفقيه العلامة سيدي أحمد الملقب بأقطران، شيخه في الدراسة العلمية، ثم شيخه في التربية والسلوك العارف بالله سيدي عبد الرحمن بن الحسن الشريف العطار المدني، الشهير بالزيات، الذي أخذ عنه الطريقة، وشرب من يده عوالم الحقيقة”.

بنى مولاي عبد السلام بن مشيش تصوفه على أسس متينة من التوحيد استقاها من تبحره في علوم النقل وعلوم الصوفية، وزينها بالانحياش عن الخلق من خلال التفرغ للعبادة والخلوة بجبل العلم. غير أن بلوغه هذا المستوى من النسك والورع والزهد، لم يكن ليصرفه عن مقاصد الشريعة وأصول الدين فعاش لدنياه كما لدينه فزرع أرضه وكدح فيها، وأنجب أولاده وحرص على تربيتهم تربية دينية صوفية. هكذا استحق شيخ الجبل تسنم مقام الصديقين نظرا وممارسة، فطابق قوله عمله، يقول:

“عباده الصديقين عشرون: كلوا، واشربوا، والبسوا، وانكحوا، واسكنوا، وضعوا كل شيء حيث أمركم الله، ولا تسرفوا، واعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، واشكروه فإنها نصف العقل، والنصف الثاني: أداء الفريضة، اجتناب المحارم […] والتفقه في دين الله […] وكل ورع لا يصحبه العلم والنور فلا تعدله أجرا” (كتاب القطب الشهيد لعبد الحليم محمود).

أنار الله سبحانه وتعالى بصيرة مولاي عبد السلام، واختصه بأسرار ربانية وعلوم لدنية بوأته منزلة رفيعة ، فكان ولا يزال قطبا صوفيا استثنائيا، تنتفع الأجيال على مر الأزمان بسيرته العطرة ووصاياه النفيسة وكراماته العجيبة، فيكفي محبي التصوف أن يطلعوا على واسطة عقده الصوفي المتمثلة في الصلاة الدينية المعروفة “بالصلاة المشيشية”، وهي نص بلوري يشع نورا وروحانية شفيفة، يجمع بين جمال المبنى وعمق المعنى، ويترجم تلك العاطفة الجياشة والمحبة الصافية التي يبديها العبد (الصوفي) تجاه خالقه، يقول مولاي عبد السلام: اللهمَّ صلِّ على مَنْ منهُ انشقَّت الأسرارُ، وانفلقَتِ الأنوارُ، وفيهِ ارتقَتِ الحقائقُ، وتنـزَّلتْ عُلومُ آدمَ فأعجزَ الخلائقَ، ولهُ تضاءَلتِ الفُهومُ فَلمْ يُدْرِكْهُ منّا سابقٌ ولا لاحِقٌ، فرياضُ الملكوتِ بزهرِ جماله مونِقةٌ، وحياضُ الجبروتِ بِفيضٍ أنوارِهِ مُتدفّقة، ولا شيءَ إلا وهوَ به منوطٌ، إذ لولا الواسِطةُ لذهَبَ كما قيلَ الموسوطُ، صلاةً تليقُ بكَ مِنكَ إليهِ كما هو أهلهُ، اللهمَّ إنّه سرُّكَ الجامعُ الدَّالُّ عليكَ، وحِجابُكَ الأعظمُ القائمُ لكَ بينَ يديكَ، اللهمَّ ألحقْنِي بنسبِهِ، وحقِّقْنِي بحسَبِهِ وعرِّفني إِيَّاهُ مَعرفةً أسْلمُ بها مِن مواردِ الجهلِ، وأكرعُ بِها مِنْ مَوارِدِ الفَضل. واحملني على سَبيلِهِ إلى حَضْرتِكَ حَمْلاً محفوفاً بِنُصْرَتِكَ، واقذفْ بي على الباطل فأدمغَهُ، وزُجَّ بي في بحار الأَحَدِيَّة، وانشُلني من أَوْحالِ التَّوحيدِ، وأغرقني في عين بحْرِ الوَحدةِ، حتى لا أرى ولا أسمَعَ ولا أَجِدَ ولا أُحِسَّ إلا بها، واجعلْ الحِجابَ الأعظمَ حياةَ رُوحي، ورُوحَهُ سِرَّ حقيقتي، وحقيقَتَهُ جامعَ عَوالمي، بتحقيقِ الحقِّ الأوّلِ، يا أَوّلُ يا آَخِرُ يا ظاهِرُ يا باطنُ، اسمع ندائي بما سمعْتَ به نداءَ عبدِكَ زكريا، وانصُرني بكَ لكَ، وأيّدني بكَ لكَ، واجمعْ بيني وبينَك وحُلْ بيني وبينَ غَيرِك، اللهُ، اللهُ، اللهُ ((إنَّ الذي فرضَ عليْكَ القُرآنَ لرادُّكَ إلى معادٍ))، ((ربَّنا آتِنَا مِنْ لدُنْكَ رحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً)) (ثلاثا).

لقد عكف الدارسون قديما وحديثا على شرح “الصلاة المشيشية” مما يعكس قيمتها الفنية والدينية، وفضلا عنها ترك لنا قطب الجبل مجموعة من الوصايا التي ما زالت خالدة إلى يومنا هذا ترسم معالم الطريق لكل المريدين وتضيء عتمات ليل السالكين؛ يقول:

“لا تنقل قدميك إلا حيث ترجو ثواب الله، ولا تجلس إلا حيث تأمن غالبا من معصية الله، ولا تصحب إلا من تسعين به على طاعة الله، ولا تصطفي لنفسك إلا من تزداد به يقينا وقليل ما هم”.

استمر شيخنا الجليل سيدي عبد السلام في جهاده ضد أصحاب البدع وأهل الضلالات حتى نال الشهادة وهو يهمّ بصلاة الصبح، فكان أن قتل من طرف أتباع ابن أبي الطواجين الكتامي سنة 622هـ، لكن شهرته طبقت الآفاق فأضحى ضريحه من أشهر مزارات المغرب إلى يومنا هذا. رحم الله عَلَم العلَم (الجبل) وأسكنه فسيح جنانه.

hespress.com