في كتابه الصادر مؤخراً بعنوان “في جوّ من الندم الفكري”، يذكر عبد الفتاح كيليطو على هامش الرؤيا بأنّ عبارة مفتاح الأحلام تحيل على الكتب التي تسعى إلى كشف المعنى الخفي لما يُرى في المنام. والمفتاح موضوع يشغل كيليطو منذ مدة طويلة، وهو يجد بأنه ربما القارئ لا يرى أو لا يرى بوضوح ما يتعلق بذلك العنصر المهم جدا في كلّ كتاباته.
ويتساءل كيليطو: أليس العنوان مفتاح الكتاب؟ ويضيف: هذا هو السبب في أنه غالبا ما يكون من المفيد فحصه، بل فحص العناوين التي يحملها الكتاب وفقا للترجمات والنسخ المختلفة والتعديلات الطارئة. حالما تكون هناك ترجمة، يتغير المفتاح. من يا ترى ينطق بالأمر المشار إليه؟ ربما القارئ الذي يقدم نفسه كمُعبر لرؤيا المؤلف. وقد يكون، على العكس من ذلك، المؤلف الذي يستفز القارئ ويتحدّاه.
إنّ كيليطو قد ألقى نفسه طوعاً في بئر عميقة اسمها الأدب، في غياهبها أمضى ليالٍ طويلة تخطّت الألف، وفي عتماتها تبدّى له عمى المعرّي، فأجاد القراءة حتى بلغة العيون المنطفئة.
مهتما بالأدب العالمي وبالتراث العربي الكلاسيكي، غير منجرف وراء اللاّمع منه، يحبّ المعتم والعجيب والمدهش والمذهل وإن كان صعبا ويصيبُ القارئ بالنفور، يستخلص العبرة منه بحذر وتأنٍ دون أن يُخضع مقروءه إلى المحاسبة، يدرك جيدا أنه عندما يكون المؤلف مجهولا فحكايته الشعبية لا تقبلها الثقافة العالمة وذلك لارتيابها من الخيال.
على خطى وليام فولكنر قتل عبد الفتاح كيليطو أحباءه ودفن أوراقهم في سلة المهملات، ومن المفارقة أن تحوّل النسخ في حياته إلى حذف، نفس ذلك العقاب الناعم كان له بالمرصاد على الدوام.
كان على الأرجح طفلا سعيدا، ولا يمكن لصبي هادئ إلا أن يكون كذلك، كونه مسالما جعله يسلم بل ويحلّق بسلام في سماء بعيدة عن واقعه قريبة من خياله وأحلامه.
لقد رغب في أن يكون كاتبا، وصار له ذلك بأكثر من لغة، تختلف حسب المخاطَب والمتكلِم والمترجِم.
في بعض الحوارات يقول كيليطو: القراءة الناجحة هي التي تكون متواضعة. ويقول: ما أن نجتاز عتبةً ما إلاّ ونقتحم الغرابة. ويقول أيضا: “ها أنا محكوم عليّ بالوفاء والتعلّق بثقافة ولغة وجغرافية وتاريخ، بأجداد لم يخطروا لي على بال”.
ذكر كيليطو في كتاب “العين والإبرة” بأن القراءة الكاملة لليالي لا يمكن أن تؤدي سوى إلى الهلاك، ومع ذلك طمأن القارئ بأنه لن يموت طالما يُعدّ “ألف ليلة وليلة” كتابا متشظيا ولانهائيا. وإلاّ صار الكتاب المصير الذي يعادل ثمنُ قراءته ثمنَ الحياة.
فشهرزاد لم تستق مادة حكاياتها من ذاكرة شفهية بل مكتوبة وكلّ ما قدمته إلى شهريار كان من خزانة الكتب، والتي لم يذكر كتاب الليالي شيئا عن مصيرها بعد مغادرة شهرزاد بيت والدها في اتجاه قصر الملك.
يقول كيليطو في “العين والإبرة” إنه كان من القراء السذَّج لكونه انقضّ على طبعات الليالي ليتأكد مما أورده بورخيس فيما يتعلق بالحكاية المبتورة إلى الأبد من الكتاب، أو “الساحرة” كما يصفها، والتي تصير إذ ذاك لا نهائية ودائرية، مكتشفا عقِبها أن ملاحظة بورخيس لا تتناقض وأن الكتاب لا منتهٍ ويكتمل عبر العصور.
نهايةُ الليالي تختلف في طبعاتها المتعددة ويثير هذا استغراب عبد الفتاح كيليطو أحيانا، فمثلا يرى بأنّ النهاية في طبعة هابخت أكثر انسجاما مع أفق انتظار القارئ، إذ في هذه الطبعة يُحضر شهريار المؤرخين والنسّاخ ويأمرهم بكتابة سيرة ألف ليلة وليلة في ثلاثين مجلدا ويضعها الملك في خزانته، وهذا يعني بأن الكتاب ظاهريا غير موجه إلى القراءة وإلا ما أسره شهريار وأغلق عليه أبوابه، لكنّ هذه الأخيرة ستُفتح على يد أحد الملوك حسب نفس طبعة هابخت وذلك بعد مرور زمن طويل على وفاة شهريار وشهرزاد، لكن ترجمة مارْدْرُوسْ تذكر أن المخطوط نُشر ووزّع في أرجاء الامبراطورية بأمرٍ من الملك شهريار ليكون عبرة للأجيال.
ويتساءل كيليطو كيف استطاع النسّاخ الذين حرروا الكتاب معرفةَ حكايات شهرزاد ومن أطلعهم عليها؟ ليخلص في تخميناته وافتراضاته إلى كون ميلاد كتاب “ألف ليلة وليلة” ساهمت فيه ثلاثة محافل، الملك أمر بكتابته، والمدونون كتبوه، وشهرزاد قد تكون أملته.
في كتابه المعنون ب “من نبحث عنه بعيداً، يقطن قربنا” يأخذ كيليطو القارئ إلى حُلمِ ليلةٍ في بغداد، عابرا حكاية وجيزة من حكايات ألف ليلة وليلة، حالمُ بغداد رأى في منامه قائلا يقول له إن رزقك بمصر فاتّبعه وتوجّه إليه، ويظلّ الحالم وحيدا مع الصوت الليلي حتى يلتقي بالوالي في مصر، ولقد اختار الحالم حسب ما أوردته (ترجمة) لبورخيس أن يقول الحقيقة لينهار حلمه بأن يجد الرزق ويتلقّى بدلا عنه ضربات العصا ليصبح ضحية وعد كاذب.
ويجد كيليطو بأن قصة الحالم تحيل بشكل خفيّ إلى قصة أخرى وهي قصة النبي يوسف، فالحلم وتأويله في صميم الحكايتين، ففي الأخير يصير الكنز إلى الحالم البغدادي كما يؤول الإشراف على خزائن الأرض إلى يوسف، ولقد نال الاثنان جزاءَهما لأنهما لم يرتابا بالرؤيا، والخلاصة عند الكاتب أنه لا يوجد كنز أبدا حيث نعتقد أنه يوجد، فبفعل تصديقنا لحلم، أو باطّلاعنا على مخطوط، نبدأ دائما بالحَفر في المكان الخطأ.
كتاب “من نبحث عنه بعيداً، يقطن قربنا” سوف يدفعنا إلى النبش في كتاب آخر لكيليطو، إنّه كتاب “أنبئوني بالرؤيا” حيث يغدو النوم عنصرا مثيرا للحيرة وحيث الحكاية لا تكون في بنيتها حلما بل رؤيا كابوسية ومعركة ليلية على أرض غير محددة ومجهولة، وإصرار على التقدم إلى الأمام ورغبة في مواجهة الخطر عن معرفة وإحساس بخطر داهم، وكل هذا متّصل بالتوتر والمعاناة الخاصّتين بالحلم فيما هو يتحوّل إلى كابوس.