يظن المرء للوهلة الأولى أن الاقتصاد الغير المهيكل هم الأشخاص الذين يجرون العربات بدون ترخيص، فيملؤون جنبات الطرقات والشوارع الرئيسية لمدننا وقرانا، وأحيانا يلاحقهم “القايض” وأعوانه في الأزقة والأحياء؛ وعند كل موسم أو عيد، يغيرون سلعهم ومعروضاتهم. إنهم فقط أولئك البسطاء ممن يبحثون عن لقمة عيش، أو من يعمرون هوامش المدن أو القادمون من القرى والبوادي أو المهاجرون واللاجئون، ممن يمتهنون مهنا لم تجد لها تصنيفا في المحاسبة الوطنية… بيد أن المشكل أكثر تعقيدا مما يمكن تحليله في بضع سطور…
تبح حناجر المسؤولون عن السياسة الاقتصادية ببلدنا من أثر انعكاسات التهريب على الاقتصاد خاصة على المقاولة الصغيرة والمتوسطة، وكيف تفقد ميزانية الدولة ملايين الدراهم من المداخيل الضريبية والجبائية. بل لقد علقوا معظم خيبات سياساتهم الاقتصادية والاجتماعية وفشل الإقلاع التنموي بمعضلة تهريب السلع الذي يلجأ إليه أبناء وبنات المناطق الشمالية والجنوبية أو بمعضلة تفاقم أعداد الباعة المتجولين أو بمعضلة تهريب المخدرات… امتلأت رفوف مكاتبهم بالتقارير والدراسات حول أضرار الباعة المتجولين والسلع المهربة، وأن لولا هذا الاقتصاد الغير القانوني لأصبح الاقتصاد المغربي بألف خير، وأيضا الاقتصاد الافريقي؛ ولما لا والاقتصاد الغير المهيكل ينتشر بشكل كبير في الدول النامية والفقيرة أكثر منه في الدول المتقدمة. إلّا أن هذا جزء من كل، أي جزء من مناخ عام يخفي في طياته اقتصاد آخر. للأسف، لا يتسع المقال للتطرق إليه بكل أبعاده وتجلياته. إذ سألامس إحدى جوانب هذا الاقتصاد الخفي أو الذي أريد له أن يظل خفيا.
دفع التنافس والاحتكار بالشركات إلى البحث عن مصادر وطرق لتخفيض تكاليفها، وظل استغلال الإنسان هو السبيل الوحيد لذلك. كيف يمكن أن يستمر استغلال الإنسان دون أن يحدث الفوضى والاحتجاج؟ كيف يمكن استغلال الإنسان في ظل ترسانة من القوانين والمواثيق (الوطنية والعالمية)؟
الاقتصاد الظاهر يسمح باستغلال الإنسان في ظل القوانين، فيكون كلاهما محمي من الأزمات والانهيارات الاقتصادية رغم اختلاف طرق الحماية الممنوحة لكل منهما. إذ تعلل الشركات مثلا أن حماية العامل هو جد مكلف، مما يفقدها جزءا من قدرتها التنافسية. فأصبح تحقيق حقوق الأجير هو عبأ كبير. فكان لا بد من تقوية الاقتصاد الخفي خاصة في الدول النامية والفقيرة لأنها مغلوبة على أمرها حتى يستمر تقدم وسيطرة الدول المتقدمة وتستمر القدرة التنافسية للشركات الاحتكارية العالمية…
لقد أصبحت الشركات الاحتكارية الكبرى تُحوّل إنتاج اقتصاد الظل إلى استثمار في اقتصاد الظاهر، بل تساهم الدول المتقدمة في الحفاظ على سلامة وأمن هذه الشركات الاحتكارية، وتتغاضى عن العبيد الذين يشتغلون في الشركات الخفية. فالأثمنة المنخفضة للسلع المعروضة في الأسواق “الظاهرة” يكون أساسها في مسلسل الإنتاج سلع أنتجت كليا أو شبه كلي في معامل ومصانع في قبو المنازل أو المرائب أو غيرها؛ تستقطب الفئات الهشة، من قذفتهم القرى أو المدارس أو الصراعات في دولهم أو غيرها من الأسباب المتعددة لإنتاج التهميش والفقر؛ إنهم فقط نفايات العالم، أنتجتها الشركات العالمية والنظام السياسي.
عندما ينتشر التفاوت واللاعدالة بين الدول وداخل الدولة الواحدة، فانتظر إذن أن يتكاثر العبيد، من يُفرض عليهم قبول العمل بأجر لا يُمكّنهم حتى من سد الرمق وبالأحرى العيش الكريم. هل يمكن أن يتحقق أجر عادل وموحد في العالم؟ وإن تحقق، هل يمكن أن يختفي عبيد الشركات المحتكرة للاقتصاد العالمي المختفون في الظل دون تغيير لبنية هذا النظام؟
تقف الدولة بمؤسساتها وأجهزتها حائرة أمام اتساع مجالات أنشطة الاقتصاد الخفي/الظل. حتى أن الدول المتقدمة تناقش موضوع الشركات التي اختارت مواقع جغرافية أخرى للاستثمار فيها. وهذا الاختيار يرجع لسبب رئيسي واحد وهو التهرب من تطبيق القوانين؛ فهي تظل تبحث عن مكان تنعدم فيه القوانين أو تخف حدة التطبيق والمراقبة فيه. بيد أن توالي الأزمات، جعل الدول المتقدمة تعيد التفكير في كيفية إرضاء الشركات الاحتكارية للاستقرار من جديد فوق ترابها لأنه لم يعد مجديا أن تستمر في السيطرة فقط عن بعد خاصة مع تفشي البطالة، واتساع التفاوتات الاجتماعية داخلها، وتكاثر المزابل الإنسانية على أرضها، وهي من تعتبر نفسها منبع الديموقراطية وحقوق الإنسان. لقد أصبحت تدرك الدول المتقدمة أن سياسة الصراعات والنزاعات أو تصدير أشكالها الديموقراطية للدول النامية والفقيرة أو زرع الإرهاب والفتن أو نقل استثماراتها الملوثة والمشجعة على العبودية، سياسة لم يعد لها من منطق في زمن انتفاء الحدود الجغرافية وانتقال الأزمات داخل حدودها واتساع اللاعدالة والتفاوت داخلها. كيف يمكن لاقتصاد الظل أن يختفي في زمن اتساع هوة التفاوتات واللاعدالة؟
إن مصالح الشركات الاحتكارية تغللت في بنية الدولة، حتى باتت تمس سيادتها؛ لقد أصبحت تتدخل في قراراتها السيادية، بل هي من صارت تمول عجز الدول وتنفذ مخططاتها الاستراتيجية، فامتلكت أيضا القوات الخاصة ورجال الشرطة لتنفيذ أدق العمليات العسكرية والأمنية. هل العالم سيتسع لمطامعها؟ لا أظن ذلك. على الدولة أن تعيد ترتيب أولوياتها، ومشاريعها ومخططاتها الاستراتيجية واسترجاع سيادتها الكاملة.
إن الاقتصاد الخفي مصدر قوة للاقتصاد الظاهر، إنه مجال لتخفيض التكلفة ولتحقيق الربح السريع. هل يمكن تحقيق التنمية دون اقتصاد الظل؟ هل يمكن الحد من البطالة دون اقتصاد الظل؟ هل يمكن تقليص الهوامش والتفاوتات دون اقتصاد الظل؟ أية علاقة تجمع بين اقتصاد الظاهر واقتصاد الظل أو الخفي؟ هل السكوت عن اقتصاد الظل يساعد الدولة أو يدمرها؟
دون تغيير في البنية الاقتصادية السائدة، فإن عبيد الاحتكارات سيزدادون يوما بعد يوم مادام منطق السوق هو المتحكم في سيادة الدول وفي القرارات الدولية، إذ سيبيعون ليس فقط أجسادهم أو أعضائهم أو أبنائهم وبناتهم، بل أيضا حريتهم. إن العبودية التي أنتجها العالم هي أسوأ أنواع العبودية التي عرفها الإنسان. هل يمكن تحرير الإنسان والحد من الاحتكارات؟ كيف يمكن ذلك؟ وما السبيل إليه؟ ألا يمكن أن يكون اقتصاد الظل إحدى أسباب أزمة الديموقراطية وتنامي الشعبوية؟ ألا يمكن أن يكون اقتصاد الظل هو إحدى مصادر قوة الإرهاب؟ ألا يمكن أن يكون اقتصاد الظل هو المسبب في ازدياد مشاكل الحدود بين الدول؟ ألا يمكن أن يكون اقتصاد الظل إحدى الأسباب القوية لاستمرار النزاعات والحروب في العالم؟
حادثة طنجة، وكذا احتجاجات الفنيدق وغيرها من الأحداث المتفرقة في الزمان والمكان هي وجه آخر للاستغلال والاضطهاد. إن الأزمات المشتركة بين الدول أو الأزمات الداخلية الخاصة بكل دولة، تفرض على المغرب أن يضع لنفسه صمامات الأمان للإفلات من الإعصار القادم، وهو غالبا سيكون عنيفا. هل ضخ الأموال دون مقابل مادي هو فعلا السبيل الحقيقي للخروج من الأزمات، أم أنها فقط وسيلة لتأجيل الأزمة، ونقلها من زمن لزمن آخر؟ هل يمكن لمتخصص في الاقتصاد أن يتوقع القادم؟ هل يمكن لمتخصص في الاقتصاد أن يقيس الضرر أو الربح للاقتصاد الخفي؟ أكاد أجزم أنه لا يستطيع ولن يستطيع، لسبب بسيط أن سلوكيات الإنسان (الفرد والجماعة) غير متوقعة، وبالتالي غريزة البقاء عند الإنسان تتفوق على كل سياسة ترويض وترهيب. كما أنه لا يمكن قياس الواقع؛ ما يمكن لمتخصص في الاقتصاد أن يفعله هو تحليل الواقع، والبحث عن الممكن والغير الممكن من أجل العيش المشترك بعيدا عن النزعة الفردية التي ستأدي بنا حتما إلى مزيد من الأزمات. يجب أن لا يكون الاقتصاد هو المتحكم في الإنسان، بل على الإنسان أن يتحكم في الاقتصاد، وفي رغباته واحتياجاته.