اشتهرت مناطق جغرافية بشمال المغرب، وتحديدا المحاذية لسلسلة جبال الريف، منذ أمد بعيد، بزراعة الكيف (الحشيش) وتصنيعه والاتجار فيه؛ حتى صارت لدى الأهالي موردا للرزق وحرفة تقليدية أصيلة، تنتقل من جيل إلى جيل آخر، وكانت لتربتها على الدوام ومناخها المحلي تميز جعلها ذات جودة ونكهة عالمية فاقت في مفعولها الاستهلاكي أنواعا أخرى، سواء من تلك الوافدة من أفغانستان كالأفيون أو تركيا كالخشخاش أو المخدرات القادمة من كولومبيا.
إن حشيش المغرب “الكيف” يحظى لدى تجار المخدرات والمستهلكين عموما بمذاق خاص؛ ما جعله قبلة للعديد من الشبكات الدولية العاملة في ميدان ترويج المخدرات وتوسيع أسواقها.
ظل سكان الريف متمسكين بتقاليدهم العريقة في زراعة وسقي الحشيش بطرق جد بسيطة، لا تتجاوز مد خراطيم المياه من السفوح (منابع المياه) إلى القمم حيث (أحواضه) لمسافة تزيد أحيانا عن 300 متر.
وبالرغم من النداءات المتكررة التي ما فتئت تصدرها منظمات وجمعيات مكافحة المخدرات بضرورة الكف عن زراعته، فإن نبتة الحشيش المغربي ظلت خطا أحمر لا يمكن لجهة، مهما عظم شأنها ورسخ كعبها في السلطة، أن تثني الأهالي عن عزمهم في المضي قدما بإنتاجه.
“أجدادنا أورثونا الذهب!”
في واقعة فريدة، صادف أن حلت بالمغرب منظمة أممية مختصة في مناهضة الاتجار في الحشيش. زارت على حين غفلة مناطق بكتامة اشتهرت بزراعة “الكيف”. بعد معاينتها لبعض حقوله، قررت في البداية الاتصال بالسكان المحليين، في محاولة لإقناعهم بزراعة (القنب الهندي) بالطرق المشروعة، تحاشيا لاستعماله واستهلاكه “كعقار مخدر”؛ لكن، وفور مبارحة الوفد الأممي للمكان، ارتجت الأرض بنداءات السكان والشيوخ منهم خاصة، وأطلقوها شعارا سارت به الركبان: “أجدادنا ورثنا عنهم عشبة الذهب (إشارة إلى الحشيش)، ومن يريد استبدالها بالقصدير فليس من أهلنا ولا من دمنا”؛ بيد أن السلطات المركزية، ممثلة بوزارة الداخلية، حاولت تهدئة الخواطر، فأوصت بضرورة “تمويه أحواضه” وتحاشي غراسته في محاذاة طرق السيارات لئلا ينكشف أمرهم.
“الكيف” و”البيجيدي”
يجب استحضار الضغوطات المتوالية التي تمارس على المغرب من قبل أطراف دولية عديدة، لحمله على القطع مع زراعة الحشيش وتعويضه بالقنب الهندي أو بالأحرى تقنين زراعته؛ بيد أن حزبا سياسيا ممثلا في “البيجيدي” سعى سعيه ليعارض ويتصدى لكل محاولة تقنين الحشيش، مصرا على الإبقاء على زراعته والانفتاح على تجارته، ويمكن إدراج موقف “البيجيدي” من تقنين الحشيش في خانة “الأطماع السياسوية” ومحاولة استقطاب الأصوات الانتخابية بجهات الريف، وهو مؤشر على “الإبقاء على العهد” الذي قطعه “البيجيدي” للمزارعين كوسيلة لاستدراج ناخبي منطقة الريف لتشكيل القوة الضاربة في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.
وإن تصميم السلطات المغربية على تقنين “الكيف” والانتقال به من مرحلة التصنيع المخدراتي الممنوع إلى مرحلة التصنيع الطبي المشروع لا يخدم مصالح الكثيرين ممن رسخت أقدامهم في السلطة، بفضل الثروات التي راكموها من ترويج حشيش المغرب من خلف أقنعة عديدة، حتى أصبح لهم “لوبي” يتمتع بنفوذ كبير في كل مفاصل الدولة، علاوة على الدعم الذي يتلقونه من جهات وأطراف أجنبية.
وبالنظر إلى التلاحم القوي الذي يشد أهالي الريف ومزارعي “الكيف” خاصة وقدرتهم على مجابهة كل التحديات، لا يرتقب، ولو في المدى المتوسط، أن يطال التقنين زراعة “الكيف”، فقد يخفت صوته إلى حين، ثم لا يلبث أن تعود المياه إلى مجاريها؛ فملف “الحشيش المغربي” ملف حساس، تتحكم فيه أطراف ولوبيات عديدة.
وبالرغم من ضائقة جائحة “كورونا”، فإن “الميديا” ما زالت تحمل لنا بين الفينة والأخرى أنباء عن ضبط شحنات ضخمة من الحشيش والشيرا في طريقها إلى التسويق داخل وخارج المغرب، لا سيما داخل بلدان الاتحاد الأوروبي التي ألفت “التدويخة المغربية”، منذ أجيال خلت، ولا يمكن أن تستعيض عنها بالأفيون الأفغاني أو بالمخدرات الصلبة القادمة من كولومبيا.
الحشيش المغربي مورد اقتصادي مهم
هناك ما يقرب من ثلث ساكنة الريف تشتغل في ديار المهجر، مع نسبة مهمة منها تمتهن التهريب والاتجار في الحشيش، وبسهولة يمكن لعابر سبيل أو مستعملي طرق تاونات / كتامة/ الحسيمة.. أن يلاحظوا عن كثب فخامة الأبنية والدور المقامة في السفوح أو الأعالي، تجسد في هندستها وكذا تجهيزاتها مدى الأموال الطائلة التي صرفت في عمرانها، ناهيك عن السيارات الفارهة التي تنتقل من مدشر إلى آخر أشبه “ببهيمة” محلية؛ تتجاوز أحيانا قيمتها 80 مليون سنتيم!، هذا فضلا عن تبييض أموال الحشيش وتوظيفها في إقامة مشاريع ضخمة بكل من مدن طنجة وتطوان والفنيدق.. وهي في عمومها تشكل موارد اقتصادية هائلة. كما أن خزينة الدولة تستفيد إلى حد بعيد من تحصيل الرسوم والضرائب بمئات المليارات سنويا، فكيف يدور في خلد عاقل أن يحافظ “تقنين زراعة الكيف” على مصادر الثروات من مستوى هذا الحجم؟!