يرى الشاعر يحيى عمارة أن الشعر المغربي قطع مراحل تجعلنا نستشرف أفقا إبداعيا أكثر شعرية من السّابق، مؤكدا أنّ الإبداع الشعري المغربي بصفة خاصة سيكون أكثر انفتاحا، مستقبلا، على المحظور والمغمور والمهمش والمنسي انطلاقا من التحولات الاجتماعية والفكرية والحضارية التي بدأ يعيشها الشّعراء.

ويبرز المتحدث، في حوار مع هسبريس، أن الشعر يتطور في ضوء الأسئلة الجديدة، والانطلاق من المغامرة وحيوية التجريب، مع نشر ثقافة الاعتراف بمرتبة الشعر والشعراء في سلّم بناء المجتمع؛ بداية من تثبيت الحرية التي تقاوم الضرورة، مرورا بالابتداع الذي يقاوم الاتباع، ووصولا إلى الابتكار الذي ينفي الحضور الجامد للتقليد والاجترار.

ويشير عمارة إلى أن سبب تأخر الشعر المغربي سابقا يعود إلى عدم استقرار الذات المغربية في العصور القديمة بسبب الفتن والحروب والاضطرابات، التي ساهمت في تعثر انتشار الإبداع المغربي على المستوى العربي، باستثناء المرحلة الأندلسية التي تمكن فيها الأدباء، خاصة الشعراء، من إيصال الصوت الأصيل إلى المشرق.

عمارة هو شاعر مغربي وباحث في الأدب والفكر والثقافة، عضو المكتب التنفيذي لاتحاد كتاب المغرب، مدير مختبر استراتيجيات صناعة الثقافة والاتصال والبحث السوسيولوجي، أستاذ جامعي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الأول بوجدة. له مجموعة من الإصدارات الإبداعية والنقدية، منها: “فاكهة الغرباء”، “لن أرقص مع الذئب”، “لا تقيد يد الورد”، “فوضاي تكتب نثرها”، “الشعر المغربي المعاصر: قضايا وتجارب”، “فواكه الشعري والمعرفي”، “مرجعيات الشعر العربي المعاصر بالمغرب”. شارك في مجموعة من الملتقيات والمهرجانات الدولية والعربية والوطنية.

  • بداية، حدثنا عن مستقبل الشعر في المغرب..

أولا، لا بد أن نشير إلى أن كل حديث عن المستقبل يتوخى الاستشراف الرؤيوي، ينطلق من الماضي والحاضر. فالمراحل التي قطعها الشعر بالمغرب، معرفيا وجماليا، تجعلنا نستشرف أفقا إبداعيا أكثر شعرية من السابق، شريطة حُسْن الإنصات إليه والاهتمام به. إذ سيكون المستقبل في الإبداع المغربي بصفة عامة، والإبداع الشعري بصفة خاصة، أكثر انفتاحا على المحظور والمغمور والمهمش والمنسي، انطلاقا من التحولات الاجتماعية والفكرية والحضارية التي بدأ يعيشها الشعراء، والتي يمكن تلخيصها في بنية “الألم والحلم”؛ أَلَم العالَم، والوطن والذات، وحلم التنوير، والحرية، والكتابة المغامِرة. لا مستقبل للشعر المغربي دون استحضار رغبة المغامرة وغواية التجريب، مع نشر ثقافة الاعتراف بمرتبة الشعر والشعراء في سُلَّم بناء المجتمع، بدايةً من تثبيت الحرية التي تقاوم الضرورة، مرورا بالابتداع الذي يقاوم الاتباع، ووصولا عند الابتكار الذي ينفي الحضور الجامد للتقليد والاجترار، لأن الشعر لن يتطور مستقبلا دون العمل على توليد الأسئلة الجديدة، والانطلاق من المغامرة وحيوية التجريب. وأعتقد أن الشاعر المغربي سيسعى بكل ما يملك إلى رفع هذا الشعار الذي نُثَمِّنُه عاليا.

  • لماذا يظل الأدب المغربي عموما، ومنه الشعر، رغم جودته، أقل شهرة من نظيره المشرقي؟

يمكن لهذه الإشكالية أن نعيد فيها النظر في الوقت الحالي، نظرا للمكانة التي أصبح يحتلها الأدب المغربي في الآداب العالمية وكذلك العربية. لكن يمكنني أن أجيب عن سؤالكم من زوايا عدة، منها ما هو ذاتي، ومنها ما هو موضوعي، وكل الزوايا مرتبطة بأحداث التاريخ وثقافة المتلقي وأحكام النقد. فالذات المغربية في العصور القديمة لم تكن مستقرة لكي تتفرغ إلى جدوى الأدب في حياة الأمة، إذ أسهمت الفتن والحروب والاضطرابات في تعثر انتشار الإبداع المغربي على المستوى العربي، باستثناء المرحلة الأندلسية، التي تمكن فيها الأدباء، وخاصة الشعراء، من إيصال الصوت الأصيل إلى المشرق، إضافة إلى الأثر المعرفي والعرفاني الذي أحدثته الحياة الصوفية المغربية. تأسيسا على ذلك، عاشت تلك الذات أزمتين: أزمة عدم الاستقرار، وأزمة العزلة، التي ستؤثر بطريقة غير مباشرة في ثقافة المتلقي، الذي سينبهر إزاء كل جديد وافِدٍ عليه، وإن كان لا يرقى إلى المستوى أحيانا. وهنا، لا بد أن نشير إلى عامل معرفي كانت له أهمية عظمى في ترسيخ فكرة شهرة أدب المشرق على أدب المغرب، ويتجلى في اهتمام المغاربة بثقافة الفقيه، وجعله لسانا ناطقا للثقافة الدينية، التي ستعمل على تكريس فكرة العزلة. ونعتقد بأن هذا العامل لا يزال مؤثرا في الذائقة لحد الآن، فلا يزال حظ الفقيه في المجتمع المغربي أكثر منزلة من حظ الأديب أو العالِم. أما على المستوى الموضوعي، فيمكن أن أوجز ذلك في مقولة “سيرورة فكرة تبعية الأدب المغربي للأدب المشرقي”، التي ستؤثر هي كذلك في أحكام النقد عربيا ومغربيا، لتولّد لنا في النقد الحديث ثنائية غير ديمقراطية في مَلَكَة الحكم، كما يقول كانط، ثنائية الصوت والصدى. وهذه إشكالية تستحق المناقشة والتقويم.

  • هل تكفي القراءة المستمرة والاطلاع الواسع على النماذج الشعرية السابقة لخلق الإبداع الشعري؟

في الإبداع الشعري، وباقي الإبداعات، لا يكفي أن تكون قارئا جيدا للمرجعيات والمعارف، وإن كانت القراءة ضرورة معرفية للمبدع وحتى للمجتمعات، لأن القراءة أسهمت في بناء الأمم والشعوب والمجتمعات، كما تسهم في رفع ذوق الشاعر وثقافته، بيد أن ماهية الشعر تفرض، بالإضافة إلى الاطلاع والمعرفة، أن يكون الشاعر ذا موهبة وجدانية وسليقة خيالية لكي يتمكن من معاشرة الشعر. هنا، يمكن القول إن الشعراء الذين يراهنون على البعد المرجعي في قول الشعر فقط، مخطئون في معرفة ماهية الشعر، التي أصبحت تكتسي تعريفات أخرى جديدة، من بينها أن القصيدة لا تكتفي بالكلام الثقافي المنمق المصنوع، بل تتجاوب كليا مع فعل الرؤيا التي تتسع كلما ضاقت العبارة، كما قال النفري أحد كبار الصوفية، لأن عملية الإبداع الشعري هي في الأساس تعبير عن حضور خاص في العالم، وعن مفهوم للكون وللوجود. إن كتابة الشعر تجربة، والقراءة معرفة، والشاعر جسر التلاقي بينهما.

  • كيف يصنع الشاعر ذاته؟

الشاعر مصدر الذات المبدعة، لأن الشعر كينونة بالإبداع، وكل ذات شاعرة لا تبدأ من هذا الجوهر لن تستطيع أن تصنع لنا شاعرا، والعكس صحيح. دعني أضع هنا مقاربة بين ذاتين (ذات الشاعر وذات الفيلسوف) تلتقيان في جوهر الإبداع، الأول له ذات تبدع المختلف انطلاقا من التحليق في الخيال غير المألوف بأجنحة لغة الوجود الآني، أما الثاني فله ذات معرفية تنبني على مبدأ المفارقة، وتنطلق من إبداع المفاهيم على حد تعبير جيل دولوز. كل الشعراء والفلاسفة الذين صنعوا ذواتهم إبداعيا، تمكنوا من نشر عناصر الإبداع في الثقافة الكونية. لن يستطيع الشاعر صُنْعَ ذاته إذا لم تكن تلك الذات تحمل توقيعَ تجاربها، لأن جوهر الذات المبدعة يكمن في قول المختلف وليس التشبث بالمؤتلف.

  • كل شاعر كاتب، لكن ليس كل كاتب شاعرا، كيف تفسر اقتصار بعض الكتاب المشهورين، من طينة نجيب محفوظ وطه حسين وغيرهما، على الكتابة النثرية دون الكتابة الشعرية، والعكس صحيح مع محمود درويش ونزار قباني وغيرهما؟

في البدء كان الشعر والنثر معا، عربيا وغربيا، وقد تحدث الإنسان شعرا وجدانيا، كما تكلم نثرا عقلانيا. في كل شاعر يوجد شيء من الناثر، وفي الناثر يسكن الشاعر. عند غالب عباقرة الأدب نجد الجمع بين الشعري والنثري، فإن لم يكن في المشروع يكون في البداية أو على هامش المشروع. فنجيب محفوظ قال شعرا في البداية، وطه حسين نظم قصائد، والعكس صحيح عند محمود درويش، الذي قَدم نصوصا نثرية ليس بمعنى قصيدة النثر، بل بمعنى الكتابة النثرية الجديدة، كانت في منتهى الجماليات المدهشة مثل كتابه “أثر الفراشة”، وكذا نزار قباني الذي جعل النثر شعرا، وآخرين.
العلاقة بين الشعري والنثري علاقة تفاهم وانسجام. لقد كان بودلير حكيما عندما قال قولته المشهورة التي تَأَثَّرْتُ بها “كن شاعرا حتى في النثر”. أصبحنا اليوم نتحدث عن مفهوم الكتابة الشعرية بمعايير جديدة تميل في غالبيتها إلى ما أسميه “تآخي الأجناس الأدبية والفنية والعلمية”. فالمهم في الكتابة أن تتمكن من الأدوات والتقنيات التي تجعل النثر شعرا والشعر نثرا، وأصدق مثال استطاع التوفيق بينهما نجده في التجربة الصوفية الفلسفية.

  • ما هو تقييمك العام لحصيلة الإبداعات الشعرية المغربية خلال الألفية الثالثة؟

الشعر المغربي يعيش أوجه في التراكم الإبداعي بحساسيات مختلفة، ترفع من ظاهرة التعدد في التجارب والرؤى، وهذه ظاهرة سليمة، لأن المغرب عرف تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية، وهذه التحولات تأثرت بالأحداث الداخلية والخارجية. فالألفية الثالثة التي نعيش عقدها الثاني، خلخلت الموازين والجغرافيات والحيوات، الأمر الذي أَثَّر مباشرة في تجارب الشعراء المغاربة، فقدموا لنا شعرا فردانيا مختلفا بين شاعر وآخر، لا ينتمي إلى جماعة شعرية، ولا إلى بيانات مجلاتية (نسبة إلى مجلة)، ولا إلى مؤسسات شعرية تجتمع في الرؤية والتصور وليس في التنظيم والتدبير. بالإضافة إلى أن هناك نصوصا شعرية غامرت في تجربتها، انطلاقا من تاريخ تراثها ليس لإعادته أو اجترار مكوناته، بل للتمرد عليه تمردا بَنَّاءً قائما على تطوير الذات من الداخل، لتستطيع بذلك أن تفرض عالمها المختلف عن التجارب السابقة، ومن ثَم تشارك في عملية تطور الشعرية المغربية المعاصرة. لكن في الوقت نفسه، هناك شعراء يغامرون في تجاربهم، ويلبسون أكثر من اللازم رداء الآخر، الذي لا ينتمي بتاتا إلى الثقافة الشعرية العربية والمغربية، لا من بعيد ولا من قريب، الأمر الذي سيكون صيحة في واد إذا لم يستدركوا ذلك.

  • يشهد الشعر العربي، عموما، تراجعا غير مسبوق مقابل طغيان جنس الرواية، الذي أضحى عند الكثير من الدارسين والنقاد “ديوان العرب الجديد”، إلامَ تُعْزى، في نظرك، أسباب ذلك؟

بمعنى تريد القول إن الزمن زمن الرواية، وتتفق مع الشعار، الذي رفعته مجلة عربية ذائعة الصيت بداية سنوات التسعينيات حينما أعلن رئيس تحريرها آنذاك، الناقد العربي جابر عصفور، في مفتتح العدد بأننا “نعيش في زمن الرواية.. وهي المجال الذي تتجلى فيه القيم الجديدة المرتبطة بالمتغيرات الاجتماعية، فهي الجنس الأدبي الذي يدعو إلى الحرية، والفرار من القواعد المكبلة، ويسمح بالتجديد الشكلي والموضوعي”. الانطلاق من هذه الامتيازات لم يعد مجديا بالنسبة إلى الفرق الجوهري بين زمن الرواية وزمن الشعر، لأن الشعر أصبح أكثر جرأة ومغامرة من الرواية في هذه الامتيازات. أعتقد بأن أسباب التراجع، إن كان هناك فعلا تراجع في الاهتمام بالشعر، تعود بالدرجة الأولى إلى تدني مستوى المعرفة بماهية الشعر، نحن نعيش تجربة أبي تمام مع بعض متلقيه، وإلى هيمنة سرعة الحياة الرأسمالية المتوحشة، وإلى تغيير العلاقات الاجتماعية المعاصرة، التي لم تَعُدْ تستجيب للتأملات الرومانسية التي يتأسس عليها الشعر، وإلى انفتاح الذائقة على سرديات ومحكيات المجتمعات في العالم الافتراضي، الذي غَيَّر مجرى التفكير من البحث عن العمق إلى البحث عن السطح، وإلى ذاتية بعض الشعراء الذين بدؤوا يتنكرون لتجربتهم الشعرية، ويتهافتون على الرواية للاعتراف بعالمهم الإبداعي، ليس إلا. بيد أن ظاهرة زمن الشعر ما زالت على حالها في بعض المجتمعات العربية والعالمية، وهذا دليل على أن زمن الشعر لا يندثر أبدا، مادام مصير القصيدة يتطور بالنسيان والتهميش والحصار. ألم يقل الشاعر العربي الكبير محمود درويش “حاصر حصارك لا مفر”؟ إنه نداء زمن الشعر الأبدي.

  • هل يمكن القول إننا نشهد عصر انحطاط وركود جديدا في الشعر؟

لا أعتقد بأن الشعر العربي في تراجع. بل العكس، الشعر موجود بقوة وُجوده، وما تبقى يؤسسه الشعراء على حد تعبير الشاعر الألماني هولدرلين. إن تاريخ الإنسانية في علاقته بالشعر والإبداع قدم لنا صمود الشعر إزاء أكبر الأزمات والكوارث والحروب. الشعر والشعراء تتجدد ولادتهم بعد المحن والابتلاءات. نعيش اليوم غزو الجائحة الفتاكة أكثر من حرب عالمية على مستوى القلق النفسي وفوبيا الداء والفقدان، لكن قرائح الشعراء تفتقت بأجمل القصائد وأروع الصور التي سيتذكرها العالم مستقبلا. إن العودة إلى تاريخ الشعر العربي القديم والحديث والمعاصر تبين لنا أن الشعر يزدهر كلما أَلَمَّ انحطاط، لأن الشعر يتغير، ولكنه لا يتقدم ولا يتدهور، بل إن المجتمعات هي التي تتدهور. صدق الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث.

  • هل يمكن أن يعود للشعر أوجه المفقود مستقبلا؟

هناك مجموعة من المجتمعات والشعوب لا يزال الشعر قويا عندها، ولعل إعلان جائزة نوبل للآداب سنة 2020، التي فازت بها الشاعرة الأمريكية لويز غلوك، في زمن الجائحة، دليل ساطع على أن الشعر لا يفقد بريقه في المجتمعات التي تُقَدره. في المقابل هناك مجتمعات لا تكن الود للشعر وللثقافة عامة، ولا تحسن الإنصات إلى أصوات الشعراء والمثقفين، ومن بينها المجتمع المغربي المعاصر، الذي يعاني من فقر ثقافي تنويري يجعل الذائقة في نفور من عالم الشعر. الشعر ثقافة جادة، والزمن المغربي زمن أصبحت تسيطر فيه ثقافة التفاهة. ويمكن للشعر أن يحتل مرتبة مشرفة في الذائقة مستقبلا إذا تمكن المجتمع من تغيير ذاته الثقافية من التهافت على التافه المهيمن إلى الانشغال برسائل الشعراء العظمى المنسية. فالمجتمعات التي أدمجت المعرفة الشعرية في ثقافتها اليومية استطاعت أن تسير إلى الأمام بثقة وثبات. إن الشعر طريق العالَم. “كيف للناس أن يعيشوا دون الشعر”.

  • ما هي السبل الكفيلة، في نظرك، لإحياء الشعر؟

من عادة الشعراء أنهم لا يقدمون أجوبة، بل يطرحون أسئلة جوهرية مرتبطة بالوجود والجمال والقضايا الإنسانية، وعلى القراء بكل أصنافهم ومراتبهم أن يبحثوا عن البدائل والحلول التي تناسب تلك الأسئلة وتقاربها فقط. فمن رؤية المتتبع للمشهد الشعري والإبداعي عامة، ومن أجل الدفاع عن الحق في الشعر، كما جاء على لسان الشاعر العربي محمد بنيس، لا بد من جعل الشعر جنسا أدبيا ضروريا له الأولوية في المعرفة الإنسانية، والمقصود هنا تشجيع المؤسسات المعنية على الاهتمام بالشعر والشعراء، وبجدوى الأدب في بناء المجتمعات. علينا أن نعلم جيدا أن التراجع اللغوي الملحوظ في التداول اليومي يعود بالأساس إلى عدم الالتفات إلى وظيفة اللغة الشعرية في تنمية اللغة عند الإنسان. بفضل الشعر تسترد اللغة حالتها الأصلية، فالعودة إلى الاهتمام بالفصيح بكل اللغات الوطنية سبيل ناجع للرفع من درجة التفكير في الاهتمام بالشعر والثقافة والمعرفة. الاعتناء بلغة الشعر مدخل رئيس للرفع من الهوية الوطنية المتسمة بالتعدد في إطار الوحدة.

  • متى كان ولعك الأول بالشعر وكتابته؟ وكيف كان ذلك؟

سؤال البدايات سؤال الذاكرة والطفولة في علاقتهما بلهيب الشعر؛ هذا الجنس الجمالي الأدبي الممتع جاءني ضيفا طيفا من خيال ومعرفة ورسالة، فَدَقَّ بابي دون استئذان، فَرَحَّبْتُ به واحْتَضَنْته، ولم يصبني السأم لحد الآن من احتضانه.
علاقتي بالقصيدة تعود إلى طفل كان يعشق صوت الشعراء والفنانين والدراميين، وكلما عاش تجربة محنة عائلية أو حدثا اجتماعيا حزينا يفتش عن تعويض ذلك عبر الذهاب إلى فضاءات كالحديقة ليقول كلاما وحده أو يستمع إلى حديث الطبيعة.
الفقر والحزن والحلم سنوات الثمانينيات كانت دوافع البدايات بالنسبة إلى ذاكرة الكتابة الأدبية في تجربتي المتواضعة.
قمة الوعي بالكتابة والإحساس بالاكتواء بها تبتدئ عندي حينما بلغت سن العشرين. بدأت أستوعب قيمة الشمعة التي كنت في صراع معها، هي تحترق بالنار من أجل حفظ الشعر والدروس وقراءة المجلات والكتب، وأنا كان علي أن أحفظ وأطلع وأجرب الكتابة خجولا قبل أن يذهب نورُها. تلك هي قصتي مع لهيب الشعر والإبداع والمعرفة والقراءة.

  • يعرف الأستاذ يحيى عمارة بكونه شاعرا حداثيا، كيف كانت البداية في هذا المسار؟

من الصعوبة بمكان أن أقوّم تجربتي، لكن يمكن القول إن أفكار الحداثة أقنعتني بممارسة الكتابة بتلك الأفكار التي تلتقي في عمقها بماهية الشعر، لأن الحداثة دون ضجيج إشكالي هي البحث عن الاختلاف مع السابق ومع المعاصر في الوقت نفسه، هي المغايرة في الكتابة الباحثة عن الحرية التي تقف في مواجهة القيود والأغلال والتكريس. وهذا لا يعني الانسلاخ الكلي عن ثقافة التراث، بل إن الاطلاع عليها ضرورة معرفية حضارية لتطوير الكتابة تطويرا صحيحا. الشاعر الحداثي يشبه سؤال الفيلسوف الذي لا ينطلق مباشرة من فراغ، بل لا بد له من الرجوع إلى الأسئلة السابقة ليتجاوزها بسؤال جديد، وهكذا دواليك. فقناعتي بالحداثة ومضامينها متأثرة بما طرحه المبدعون العرب قديما وحديثا ومعاصرا. فقد انبهرت في البداية، وما زلت، بتصريح أبي العتاهية وأبي تمام ويوسف الخال وأدونيس ومحمد بنيس، وقبلهم بأقوال الحلاج والنفري وابن عربي والبسطامي وبودلير ورامبو وسان جون بيرس ونيتشه وهلدرلين…

  • كيف تزاوج بين التدريس الجامعي والدراسة الأكاديمية النقدية والإبداع الشعري؟

كنت في بداية النضج شاعرا مبتدئا يحب الشعر والشعراء، ويطلع على الدراسات والأبحاث والأفكار المتعلقة بعالم الأدب والأدباء، فبادلني الشعر ذلك الحب، لأجد ذاتي مركبة تركيبا مزدوجا، ذات شاعرة وذات قارئة. ومع الأيام أصبحت منخرطا، مثل باقي الشعراء، في المعرفة النقدية، وزدت تشبثا بالنقد، لأن الدرس الجامعي يفرض عليك أن تكون مُلِمّا بكل الإشكاليات والقضايا الأدبية والنقدية لتقدم للطالب أفقا نقديا جديدا يكون من أولوياته التحلي بالوعي النقدي. فظاهرة الشعراء النقاد مهمة وتستحق التأمل، لكن لست منشغلا بها. وهنا في هذا السياق لا بد أن نذكر مسألة نقدية تتجلى في أن للشعراء الدارسين الجامعيين المغاربة دورا طلائعيا في تأسيس المشهد النقدي الشعري. فالقارئ الذي يحكم على النقد المغربي المعاصر دون الإشارة إلى هذه المسألة، يبقى حكمه ناقصا في تقويمه.

  • ما هي أعمالك المستقبلية في النقد والإبداع؟

أشتغل منذ مدة على قراءة متواضعة لمشروع المفكر الفلسطيني الكوني إدوارد سعيد، وإشكالية الشعري والفلسفي في الأدب والفلسفة، إضافة إلى مجموعة من الدراسات النقدية الأدبية والفكرية والأعمال الشعرية التي تنتظر خروجها إلى الوجود.

hespress.com