عرّف الدكتور عمرو خالد، الداعية الإسلامي، معنى منزلة التسليم لله على أنها “موافقة مرادك لمراد الله.. فتهدأ أو تسكن وتستريح؛ وأن تخرج من حولك وقوتك إلى حول الله وقوته”.

وأوضح خالد في الحلقة الحادية عشرة من برنامجه الرمضاني “منازل الروح”، معنى الفرق بين التسليم والتوكل، قائلاً: “أول ما تفقد كل الأسباب، اذهب إلى منزلة التسليم..لذلك ورد في الحديث: ‘ما من مخلوق يستعين بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيد له السموات والأرض إلا جعلت له من ذلك مخرجًا، وما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني، أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماء بين يديه’”، ووصف التسليم عند النبي صلى الله عليه وسلم بأنه “سلوك يومي، فقد كان يدعو عند النوم: ‘اللهم إني أسلمت نفسي إليك، لا ملجأ منك إلا إليك’، وفي دعاء القيام، كان يقول: ‘اللهم لك أسلمت وبك أمنت وعليك توكلت وأنا بك وإليك’”.

واعتبر خالد أن “أجمل ما قيل في معنى التسليم هو ما قاله عمر بن عبد العزيز: هواي حيث قدر الله”، مبينًا أن “التسليم يداوي جراح القلب.. ولو آمنت أن الله بالغ العلم.. بالغ الحكمة.. بالغ القدرة.. بالغ الرحمة بك أكثر من أمك، فليس أمامك إلا التسليم له”، وقال إن “التسليم مع الإحسان يعطي نتائج روحية مضاعفة، لو جمعت بينهما وصلت إلى قمة الإيمان وحب الله”.

ووصف الداعية التسليم بأنه “أعلى المنازل السبعة”، وزاد موضحا: “لأن اسم ديننا الإسلام، وهو مشتق من التسليم…’إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ’. والتسليم ليس اختياريًا، وإنما هو أصل دينك وحقيقته، فكيف تكون مسلمًا وأنت لم تسلم لله؟! والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ‘تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ’، والنبي يوسف عليه السلام: ‘إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ’”، وأضاف أن “حقيقة دين الإسلام واسمه مستمدان من فكرة التسليم لله، ليخرج الإنسان من حوله وقوته المحدودة إلى حول الله وقوته اللامحدودة.. فيطمئن ويسلم للقدر، فلا يناطحه ولا يعيش أزمات نفسية عنيفة بسبب أحداث الحياة أو تحدياتها”.

وذكر خالد أن “التسليم موجود عند غير المسلمين بمعنى القبول: أقبل الحياة.. لذلك تجدهم متماسكين عند المصيبة على الرغم من عدم إيمانهم”، وقال: “عندما مات ابن جاري الإنجليزي عندما كنت أعيش في إنجلترا..كان متماسكًا.. بعدها سألته عن سر هذا التماسك؟.. قال لي: من أيام المدرسة ونحن نتعلم مبدأ: أقبل الحياة”.

لكن الداعية أوضح أن “الفارق بيننا وبينهم أن القبول عندهم لمواجهة الطاقة السلبية، لكن لدينا طاقة إيجابية، وهو أنك مع الله.. فالتسليم لدينا أكبر من مجرد القبول.. استسلام + قناعة داخلية= سكينة.. جزء قبول، وجزء استسلام.. والقناعة الداخلية بأن القدر كله خير تولد سكينة.. يعني لا تكتفي بقبول الوضع، لكن أيضًا هادئ في قبوله، وليس غاضبًا، وكاره الوضع، ورافض من الداخل”.

وشدد المتحدث على أنه “لا بد من استسلام مع القبول.. لا يشترط رضا وفرحة، لكن على الأقل ساكن، هادئ.. ولا يمكن أن تصل إلى هذا المعنى الكامل: قبول + استسلام “قناعة”، إلا بيقين وثقة في الله “كأنك تراه”.. وهذا هو دور الذكر”، واعتبر أن “التسليم أكبر من القبول.. لأنه قبول + قناعة داخلية بأن هذا هو الخير، لأنه عليم حكيم رحيم”، مستشهدًا بقول الله تعالى في سورة الأحزاب: “وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا”، وزاد معلقا: “كان لديهم قبول + استسلام؛ أي قناعة بأن إرادة الله خير: “هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ””.

وذكر خالد أن التسليم في القرآن ورد في 25 آية صراحة ومئات الآيات بالمعنى، وقال إنه “لا يوجد أحد من البشر حقق تسليم سيدنا إبراهيم “أبو الأنبياء” عليه الصلاة والسلام..أراد الله أن يضرب مثلا للبشرية في أقصى درجة تسليم، فجعل قصة سيدنا إبراهيم.. “إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ* وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ”..كما أن يعقوب سار على النهج ذاته: “أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ”، وتابع: “طول الوقت نسمع ملة سيدنا إبراهيم.. “مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ”، أصبحنا على فطرة الإسلام وعلى ملة أبينا إبراهيم.. فما هي ملة أبينا إبراهيم؟.. “وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ”.. التسليم هو ملة إبراهيم.. “إذْ قَالَ لَهُ رَبّه أَسْلِمْ” ..وترك التسليم هو بعد عن ملة إبراهيم “إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسه”.. أنت مأمور بملة إبراهيم – التسليم: “وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ”، ولأجل هذا أسمانا مسلمين: “مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ””.

وأورد الداعية قصة سيدنا إبراهيم في النار، “ذلك أنه عندما كان شابًا عمره 16عامًا كسر الأصنام.. “قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا”، يريدون أن يرموه في النار، حتى يكون عبرة لمن حوله، وظل ستة شهور، وهو يشاهد المبنى يبنى “فَأَلْقُوهُ”، لماذا ألقوه؟ لأنه سيرمى من بعيد لئلا تحرق النار من يقرب منه..فرموه بالمنجنيق من بعيد.. ومن ثم اجتمعت البلد كلها.. ليشاهدوا هذا الموقف في بابل، عاصمة العالم القديم.. 30 ألف شخص يشاهدونه وهو يلقى في النار. في تلك اللحظة، ينزل سيدنا جبريل على إبراهيم ويقول له: أرسلني الله لأسألك ألك حاجة؟ فقال أما لك فلا.. فقل جبريل: اسأل ربك.. فقال: “حسبي من سؤالي علمه بحالي”. كان يمكن أن يدعو لكنه اختار: أنا معك يا الله، وأسلم أمري لك”.

وأوضح خالد: “النبي صلى الله عليه وسلم علمنا دعاء، وقال: سلوا الله العافية..مقام كبير جدًا.. ألا تريد أن تسلم في موقف صغير في حياتك..لما تمر بموقف قل: أنا مسلم لك يا رب، هواي معك.. تذوقوا التسليم ولو في موقف صغير في حياتكم”، ومضى ناصحًا: “لما تضيق عليك الحياة.. عند البلوى الشديدة، كن على ملة إبراهيم.. سلم لله وقل: حسبي الله ونعم الوكيل..حسبي الله معناها: يكفيني الله”، ودلل بما رواه ابن عباس: “حسبنا الله ونعم الوكيل” قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا “إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل”. هنا حسبي الله ونعم الوكيل بمعنى التسليم لله، لأنه لم يعد في أيدهم أي أسباب للنجاة سوى التسليم لرب العالمين.

كما ذكر المتحدث قصة إبراهيم حين أمر بذبح ابنه إسماعيل كنموذج في التسليم لله، موردا: “يقول الله تعالى: “فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ”، يعني كبر أمام عينيه، وجاء بعد أكثر من 60 عامًا لم ينجب فيها إبراهيم، كان إسماعيل في عمر 13 أو 14 سنة، يعني عمر الزهور.. وهنا يقول له أبوه: “قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ”، فأجاب الابن: “فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ”.. يعني لو رفض لم يكن سيذبحه، لكنه يدرك ماذا سيقول، فهو يريد أن يحصل على الثواب معه..قال: “قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ”. وبدأ سيدنا إبراهيم ووضعه على قدميه، وأحضر السكين، ولكن كان ينظر لعينه، فلم يستطع، فجعله يستلقى على ظهره، وبدأت تتحرك السكينة.. لكن الذي أمر النار بألا تحرق، أمر السكين بألا تذبح.. فهو سبحانه الذي يغير خواص الأشياء، فتتحرك السكين، “فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَاۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ* وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ* وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ* كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ””.

وروى خالد: “كانت هناك فتاة مرض أبوها، ولم تتوقف عن الدعاء لأجل أن يشفيه الله..كلما قال لها أحد إنه سيموت، تقول: لا أنا عندي حسن ظن كبير بالله.. لكنها مات ففقدت حسن ظنها بالله.. نعم لا بد أن يكون لدينا حسن ظن بالله، لكن لا بد إلى جانبه من التسليم لله.. الكون ملكه هو.. مهم الجمع بين المنزلتين مع بعض: حسن الظن بالله والتسليم له”، وقال: “إذا أردت التسليم حقيقة أحب قدر الله، وقل: هواي حيث قدر الله.. كيف أصل للتسليم لله؟ الذكر.. علم النفس الإيجابي يقول لا يمكن أن تصل إلى قبول الحياة إلا من خلال صفاء الذهن والروح “الذكر والفكر””.

وذكر الداعية أن “الحياة فيها معان عميقة ومعان بسيطة.. الأكل والشرب معان بسيطة.. التسليم لله معنى عميق، لا يمكن أن يرسخ داخلها المعنى العميق إلا بكثرة الذكر..هذا هو دور الذكر.. خاصة لا حول ولا قوة إلا بالله.. ناج الله كلمة، اشك له: ” قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُواْ بَثِّى وَحُزْنِىٓ إِلَى ٱللَّهِ””.

[embedded content]

hespress.com