احتل المغرب أهمية بالغة عند الألمان، حيث يعود تاريخ الرحلات الاستكشافية الجرمانية نحو المغرب إلى عهد السعديين، والتي ارتفع عددها بعد تأسيس الجمعية الجغرافية ببرلين سنة 1828، لتبرز العديد من الكتابات المتضمنة معلومات غزيرة حول الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمغرب، من قبيل كتاب أوبر ماكسHubner Max، الذي يحمل عنوان “المناطق المجهولة في المغرب”.
الاهتمام الألماني بالمغرب
اتخذت ألمانيا من الرحلات الاستكشافية غطاء للتستر على أعمال التجسس الرامية إلى جمع أكبر قدر من المعطيات المتعلقة بالمؤهلات الاقتصادية والعادات الاجتماعية وأشكال ممارسة السلطة، بعلم من السلطة المركزية. وفي هذا السياق، يذكر محمد أبيهي في كتابه الموسوم بـ”الأطماع الاستعمارية الألمانية في المغرب (1871-1918)” أنه “غالبا ما تتدخل البعثات الدبلوماسية الألمانية لدى المخزن من أجل تسهيل مهمة الرحالة الألمان، حيث طلب القنصل فيكي (J. W. Ficky) من الحاج العربي بريشة، باشا مدينة الدار البيضاء، الترخيص للتاجر ماكس كويدنفلد من أجل الجولان في مناطق المغرب بقصد جمع حشرات الأرض ووسقها، إلا أن الهدف من ذلك كان هو التمكن من رصد أوضاع المناطق الداخلية ومعرفة أهميتها الجغرافية والطبيعية”.
ساهم الرحالة الألمان بشكل فعال في توثيق العديد من المحطات والمعالم التاريخية والجغرافية والجيولوجية، كما هو الحال مع الرحالة جيرالد رولفز Gerhard Rohlfs، الذي استقر بالمغرب خلال الفترة الفاصلة بين 1864 و1866 بعد ادعائه اعتناق ديانة الإسلام والتنكر في اللباس المغربي، لينتقل بعد ذلك إلى ممارسة الطب داخل صفوف جيش المخزن، فاستطاع التدرج في الرتب إلى أن صار طبيبا للسلطان، وقد تمكن بفضل احتكاكه بالمغاربة، وقدرته على التأقلم والتحايل، من إعداد تقارير دقيقة حول المغرب، خصوصا منطقة الأطلس وواحات تافيلالت، مستفيدا من دعم الحكومة الألمانية والجمعية الجغرافية الملكية، لتكون النتيجة في الأخير نجاحه في المهام التي أوكلت إليه بالمغرب وبعدد من البلدان الإفريقية، والحصول على الوسام الذهبي من طرف الجمعية الجغرافية اللندنية.
هناك رحالة آخر، اسمه ثيوبالد فيشر Fischer Theobald، قام بجولة داخل المغرب، بدعم من الجمعية الجغرافية بفرانكفورت والجمعية الجغرافية ببرلين، فركز على دراسة مجال شمال إفريقيا، وتحديدا جوانب المناخ والماء والجيولوجيا، وألف كتاب “انطباعات رحلة إلى المغرب” سنة 1889، تناول فيه أوصاف المغرب ومنطقة البحر الأبيض المتوسط، وكتابا آخر بعنوان “المغرب بوصفه مسرح عمليات حربية”، تحدث فيه عن إمكانية وقوع حرب إثر التنافس الاستعماري في شمال إفريقيا. وبالتالي، ساهمت هذه الرحلات في تشكل صورة لدى ألمانيا عن المجتمع المغربي والثروات الطبيعية المحلية.
إلى جانب مدخل الرحلات الاستكشافية، اتخذت ألمانيا من الطب وسيلة أساسية لاختراق المجتمع المغربي والتجسس لصالح البعثة الدبلوماسية الألمانية، ويعد جيرالد رولفز Gerhard Rohlfs أو مصطفى النمساوي (اسمه في المغرب)، الذي بدأ جولته بالمغرب كرحالة (كما أشرنا من قبل)، من أشهر الجواسيس الذين ولجوا بلاط السلطان محمد بن عبد الرحمان. إضافة إلى الدكتور روزون Dr. Rosen، الذي استقر بمدينة طنجة، وقام بجولة شملت العديد من المناطق، بتنسيق مع الحكومة الألمانية، لغرض جمع المعلومات المتعلقة بالأوضاع السياسية للمغرب، ثم الطبيب جودا هولزمان Juda Holzmann، الذي عينه السلطان عبد العزيز طبيبا خاصا له سنة 1902. ليكون بذلك الطب قد شكل أداة ناجعة، ليس لتشخيص الأمراض فقط، بل حتى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمغرب، حيث تم تدوين جميع المعلومات في الدراسات والتقارير والمونوغرافيات، بالاعتماد على ما عاشه وعاينه الأطباء.
يمكن اعتبار نهاية القرن الثامن عشر تاريخ بداية إقامة علاقات رسمية بين المغرب وألمانيا، حيث سمح السلطان محمد بن عبد الله- في هذه الفترة- للسفن البروسية بالدخول إلى المراسي المغربية، وإعطاء التعليمات للقراصنة المحليين بعدم القيام بأعمال من شأنها عرقلة نشاط السفن الأوربية، والسماح لبروسيا الألمانية بالتمتع بنفس الامتيازات التي تتمتع بها باقي الدول الأوربية. وعند تولي السلطان سليمان الحكم خلال الفترة الفاصلة بين 1792 و1822، نهج سياسة خارجية اتسمت بالانغلاق (سياسة الاحتراز)، وأدت إلى تراجع المبادلات التجارية والتمثيل الدبلوماسي، وإغلاق العديد من الموانئ المغربية في وجه السفن الأوربية، وعدم السماح للمسلمين المغاربة بالهجرة إلى أوربا، حرصا على عدم “اختلاطهم” بأهل “الكفر”.
أمام هذه السياسة، قامت ألمانيا بمحاولات عديدة لإحياء العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، ابتداء من سنة 1817، لكن دون جدوى. الأمر الذي أدى إلى توتر العلاقة بين البلدين، بلغت حد مشاركة بروسيا في الحرب التي قادتها إسبانيا ضد المغرب سنة 1859.
وعند تولي السلطان الحسن الحكم، خفت حدة الصراع بين البلدين، وتغير تمثل المغاربة لألمانيا بعد انتصارها على فرنسا في معركة سيدان Sidan، وطرح المخزن إمكانية الاعتماد عليها في التصدي لفرنسا، في حالة قيامها بأي تحرش يمس وحدة المغرب، خاصة أن المخزن كان يتابع ما يجري في محيطه، وعلى وجه التحديد المستجدات المتعلقة بالاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830.
فترة التغلغل الألماني
شكل توقيع المغرب وألمانيا معاهدة تجارية سنة 1890 خطوة حاسمة في إرساء التواجد الألماني بالمغرب، وإقامة عدد من القنصليات بمختلف المدن المغربية (طنجة، تطوان، فاس، الدار البيضاء، الجديدة، مراكش، الصويرة، آسفي، العرائش والرباط)، واعتمادها كقنوات للتفاوض مع المخزن بشأن الأنشطة الاقتصادية الألمانية بالمغرب أساسا. وتضيف بهيجة سيمو في كتابها “الإصلاحات العسكرية بالمغرب 1844-1912″، أن ألمانيا (في شخص ممثلها فون كوليش Von Gulich) عرضت على السلطان الحسن المساعدة في تكوين جيش مغربي مزود بالعتاد الحربي وإقامة السكك الحديدية والتلغراف، لكن المخزن رفض العرض.
بعد ذلك استمرت ألمانيا في التقرب من السلطان المغربي عن طريق تقديم الهدايا وربط الاتصالات به لإقناعه بفوائد عقد المعاهدات، دون جدوى. لكن ألمانيا لم تستسلم، وبدأت تكثيف نشاطها الدبلوماسي، بتنسيق مع بريطانيا والدولة العثمانية، والاعتماد على تغلغل هذه الأخيرة وتوسيع أنشطتها الاقتصادية داخل المغرب. الأمر الذي انتبهت إليه فرنسا، وجعلها تتدخل لدى السلطان مباشرة لنسف الخطة الألمانية.
بعد ذلك ستتجه ألمانيا للتنسيق مع الحليف البريطاني، الذي تجمعه مع المغرب علاقات اقتصادية وسياسية على إثر توقيعهما معاهدة 1856، مما أدى إلى تزايد الضغط الفرنسي على المغرب، الذي بلغ حد الهجوم على المدن الساحلية، مما جعل المخزن يتجه نحو إقامة علاقات سياسية مع ألمانيا، عبر إرسال بعثات دبلوماسية، للحفاظ على توازن العلاقات بين المغرب والدول الأوربية.
إلى جانب ذلك، أرسل السلطان الحسن عددا من النخب المخزنية إلى ألمانيا لمتابعة تكوينها في الميدان العسكري. وبعد تولي السلطان عبد العزيز الحكم، تعزز التعاون العسكري بين البلدين، خاصة مع مصانع “دار كروب” الألمانية.
حري بالذكر أن نخب البعثات الدبلوماسية، التي أرسلها المخزن إلى ألمانيا لتمثيل المغرب، تلقت تعليمها في المدارس التقليدية، ولم تتلق تكوينا علميا في مجال السياسة، وأن انتقاءها ارتبط بمسافتها من السلطة المركزية والخدمات التي قدمتها لها.
بعد مجيء أوتو فان بسمارك Otto Von Bismarck إلى السلطة سنة 1871، زاد اهتمام ألمانيا بالمغرب وبقيمته الاستراتيجية في العلاقات الدولية، وتحديدا في الصراع الفرنسي – الألماني. هذا الصراع الذي تجسد خلال المؤتمرات الدولية التي جمعت الدول الأوربية، خاصة مؤتمر مدريد (1880) المنعقد لغرض معالجة المشاكل المرتبطة بالحماية القنصلية. فكان من خلاصاته: إضفاء المشروعية على الحماية القنصلية بالمغرب، واعتبار ألمانيا ضمن البلدان “الأكثر تفضيلا”. ثم مؤتمر برلين الثاني (1884-1885)، الذي كان محطة لتقسيم القارة الإفريقية بين الدول الاستعمارية.
بعد هذا المؤتمر سيبدأ السباق الاستعماري نحو المغرب من طرف ثلاث دول، هي فرنسا وإسبانيا وألمانيا، بالاعتماد على الأنشطة التجارية كمدخل لتوطيد وجودها والتقرب من القبائل المغربية ذات التأثير السياسي القوي. الأمر الذي اعتبره المخزن مسّا بسيادة المغرب ووحدته، ودفعه إلى اتخاذ عدة خطوات لتحصينه، تمثلت في نصب حاميات عسكرية ببعض المناطق، مثل واد نون، لغرض مراقبة السفن الألمانية بالمنطقة الجنوبية، وطرد عدد من الرعايا البريطانيين بآيت باعمران.
استمر إلحاح ألمانيا على المغرب من أجل توقيع معاهدة تجارية لتوطيد حضورها الاقتصادي، وهو ما تم لها سنة 1890 بعد مفاوضات ماراطونية، فركزت ألمانيا على منتجات المغرب الفلاحية والحبوب والأبقار، رغم ضعف الإنتاج وحلول القحط واجتياح الجراد للمحاصيل.
يشار، في هذا الإطار، إلى أن عددا من التجار ارتكبوا تجاوزات كثيرة، من قبيل تهريب القمح عبر السفن الألمانية وبيعه بجبل طارق، الأمر الذي دفع المخزن إلى تقديم شكاية لدى المفوضية الألمانية بطنجة.
لقد شكلت المعاهدة التجارية الإطار القانون، الذي تم بموجبه اقتحام ألمانيا للسوق المغربية بعد نص بنودها على اعتماد حرية المبادلات التجارية والتعاون بين البلدين على المستوى الاقتصادي. وقد فتحت هذه المعاهدة الباب على مصراعيه أمام الشركات الألمانية لتوسيع أنشطتها، وفرض نفسها كطرف قوي ينافس باقي الأطراف الأوربية بالمغرب. كما قامت المؤسسات المالية الألمانية بدورها بالاستثمار في القطاعات الاقتصادية، خاصة الصناعة والسكك الحديدية. ويعد الدوتش بنك Deutsche Bank من أبرز هذه المؤسسات، إلى جانب استثمارات بعض التجار الألمان المشهورين مثل: نيومان Neumann، هنريش فيكه Heinrich Ficke ومور Mour… وأيضا الشركات مثل: O.P.D.R، Woerman Linie وAtlas Linie…
كرست الدبلوماسية الألمانية جهودها لدعم توسع الأنشطة الاقتصادية لبلدها بالمغرب، بالاعتماد على شبكتها القنصلية الممتدة على طول الشريط الساحلي، مما جعل التجارة الألمانية تشكل منافسا رئيسيا للتجارتين الفرنسية والإنجليزية. ويضيف جرمان عياش (في كتابه “دراسات في تاريخ المغرب”)- في هذا الصدد- أن ألمانيا احتكرت حوالي 70 بالمائة من النشاط التجاري بالمغرب، وقد اعتمدت أيضا على الصحافة في دعم هذا النشاط، من خلال جريدة ألمانيا -المغرب Deutsche Marokko-Zeitung، التي كانت تنشر مواد إشهارية للبضائع الألمانية المختلفة، وكذلك على الحماية القنصلية الممنوحة للكثير من الأسر القائدية والدينية، التي تحظى بنفوذ معنوي وروحي وسياسي داخل أوساط المجتمع المغربي.
لم تقتصر ألمانيا على الاستثمار في قطاع التجارة، بل اتجهت نحو قطاعات أخرى، أهمها الأشغال العمومية (الطرق، المرافئ، السكك الحديدية…)، إلى جانب الشركات الفرنسية، بعد الاتفاق مع هذه الأخيرة، سنة 1909، على العمل المشترك، وعدم عرقلة المصالح الاقتصادية الألمانية داخل المغرب. ثم الاستثمار في المعادن، بعد دراسة العلماء الألمان للبنية الجيولوجية للمجال المغربي، لتقوم بعدها بإرسال عدد من المهندسين والشركات للتنقيب عن الثروات المعدنية، وفي هذا الإطار برزت شركة الإخوة مانسمان Mannesmann في مجال استغلال المناجم.
على سبيل الختم
عملت ألمانيا بكل الوسائل على توطيد وجودها بالمغرب، حيث وظفت الرحلات الاستكشافية بداية، ثم البعثات الطبية بعد ذلك، وانتقلت إلى ربط علاقات مع مكونات المجتمع المغربي، وتشييد شبكة من القنصليات، وتشجيع الشركات والبنوك على الاستثمار في المغرب، لكن تطلعاتها الاستعمارية تبخرت في النهاية بسبب نتائج الحرب العالمية الأولى الوخيمة عليها، والتي جعلتها في موقع ضعف. والنتيجة أنها خسرت كل شيء في المغرب، في حين ربحت فرنسا كل شيء.