لم يتقبل كثير من المواطنين ورجال الدين فكرة الحديث عن “الزواج عن بعد” في زمن كورونا، وإذا كان هذا الأمر منطقيا بسبب صعوبة تخيل إبرام علاقة افتراضية بين رجل وامرأة، فإن معاملات كثيرة صارت تنتقل في غفلة منا إلى العالم الافتراضي، حيث لا يفترض أن تكون هناك مقرات ملموسة لاستقبال الضيوف والخدمات.

في المدرسة، هناك من مازال يتحدث عن مشكل الاكتظاظ داخل الأقسام، بينما أثبت الجائحة أن بإمكان العالم الانتقال في أي لحظة إلى التعليم عن بعد، حيث يكون بإمكان الأستاذ (ة) أداء عمله من بيته، والأمر نفسه بالنسبة للتلميذ أو التلميذة، أو الطالب أو الطالبة، بعدما بات النقر على الأزرار كفيلا بتحطيم مسافة التحصيل العلمي، وكذا تحطيم العوائق التقليدية مثل بعد المدرسة أو غياب الطريق. ورغم أن كثيرين سيثيرون في هذه الحالة مشكلة ضعف الإمكانيات (الله غالب)، وعدم قدرة كثير من الأسر المغربية على مواكبة هذا النمط من التعليم، إلا أنه مع الأسف لن تكون هناك فرصة لإيقاف هذا الزحف الافتراضي.

تخيل هذا العالم، حيث بات الإنسان يرتمي في أحضان باردة مجردة من كل إحساس، حيث يتم دفن الأقارب وصلة الرحم عن بعد، حيث تتم المشاركة في أعياد الميلاد والأعياد الدينية بمجرد تقاسم رابط على الإنترنت، ولا عزاء لمن مازال يصر على أداء فواتير الهاتف النقال واستهلاك الكهرباء والماء نقدا في إحدى الوكالات المخصصة لذلك.

ما فائدة بناء مقر للبنك، وما فائدة المقاطعة، وما فائدة ملايين الموظفين، إذا كان مجرد الربط مع الأنترنت كفيلا بإدارة حسابك البنكي وتدبير مشترياتك، واستخراج عقود الازدياد ودفاتر الحالة المدنية وشواهد السكنى وشواهد العزوبة وشواهد الحياة… بل إن خدمة تصحيح الإمضاءات ستكون قريبا خدمة بليدة في عصر “الخدمات عن بعد”.

اليوم، باتت كبريات الشركات والمتاجر الإلكترونية تتعاقد مع مندوبين تجاريين يشتغلون من بيوتهم، وتجهز لهم المكاتب في بيوتهم، وقد لاحظنا في عز الجائحة كيف حول بعض الصحافيين غرف نومهم إلى قاعات للتحرير وتقديم نشرات الأخبار، بل إن فنانين كبارا من مختلف أنحاء العالم سجلوا أغان جديدة واستدعوا الجمهور لمشاركتهم إبداعاتهم عن بعد. صحيح أن الحفلات لم يكن لها طعم، لكنها كانت مؤشرا على تغير في السلوك الإنساني.

بإمكانك أخي المواطن البسيط أن تقدم مئات البراهين على صعوبة الثقة في العالم الافتراضي، وقد تتشبث مثلي بآخر قلاع الحرية والفوضى التي يمنحنا إياها العالم الواقعي، حيث مازال بإمكان الملايين من المأجورين والموظفين الاعتقاد بأنهم يشتغلون لمجرد أنهم يستيقظون كل صباح ويتوجهون إلى مقر العمل.

بينما العمل عن بعد يفترض دائما وجود خدمة مقابل الأداء، بل إن من يشتكي اليوم من دكتاتورية المدير (ة)، أو طريقة لباسه، عليه أن يحضر نفسه لـ”دكتاتورية الإدارة عن بعد”، حيث يمكن أن يكون المدير بكل بساطة عبارة عن آلة أو “ربوت” متخصص في إدارة الموارد البشرية.

إن الانتقال إلى “عالم الخدمات عن بعد” يفرض علينا الاستعداد لعالم لا يرحم، عالم تسقط فيه كل الحدود أمام تدفق الخدمات والسلع، وهو بالتأكيد عالم لن يقبل بانعدام الكفاءة أو انعدام الدراسة أو عدم الإلمام بلغات التواصل العالمية… باختصار وفروا مشاعركم الفياضة لمواجهة “جبروت الآلة وجبروت الإنسان الجديد “العدو لأخيه الإنسان”، ذلك الإنسان المتكبر المرتبط بالأنترنت، الذي يربح ملايين الدراهم مستغلا جهلنا، وعاداتنا البليدة في الاستهلاك، حيث نستمر نحن في الإنفاق البسيط ويستمر هو في التحصيل والاستثمار، بينما الحل هو التعجيل بامتلاك المعرفة المعلوماتية، وإذا فاتنا ذلك فلا ينبغي بأي حال من الأحوال أن نفوته على أبنائنا، مهما كان الثمن، حتى لا نتحول جميعنا إلى قطيع افتراضي.

hespress.com