في البدء كانت هناك دولة تسمى فلسطين، ثم جاء ما يسمى “الانتداب البريطاني” الذي استمر ما بين 1920 و 1948(على فلسطين وشرق الأردن)، في إطار تقاسم مناطق نفوذ الإمبراطورية العثمانية المتداعية نحو السقوط. خلال هذه المرحلة، ظهرت حركة عالمية تتبنى عقيدة صهيونية، مفادها: “على اليهود أن يجدوا لهم وطنا خاصا بهم (أرض الميعاد)، بدل تشتتهم في مختلف دول العالم”، إذ عقَدَ قادة الحركة الجديدة، أكثر من مؤتمر ولقاء، اختلفوا حول نقط محددة، واتفقوا على مواضيع معينة، لكنهم لم يستطيعوا إقناع جميع يهود العالم بتأسيس دولة خاصة بهم، وإنما حصدوا في البداية ردود أفعال يهودية مستنكرة لهذه الخطوة، وذلك بأن رفضت طائفة من اليهود هذه الفكرة بناء على أسباب مبدئية إنسانية أو دينية، معتبرين أن الله لم يشأ لهم أن يكونوا ضمن بلد واحد، من هؤلاء حاخمات كبار كانوا يعيشون في فلسطين إلى جانب المسيحيين والمسلمين وغيرهم، وبعضهم لا زال على موقفه إلى حدود اليوم، كما رفضت طائفة أخرى من اليهود وجود دولة خاصة بهم، من منطلق براغماتي مفاده: “تجميع اليهود في دولة واحدة، سيعجل بنهايتهم”، لذلك فضلوا البقاء في بلدانهم، في تعايش مع مواطنيهم من مختلف الديانات.
لم تكلّ الحركة الصهيونية ولم تملّ، وإنما قامت، منذ نشأتها، بكل ما تقدر عليه من أجل إقناع اليهود بوطن خاص بهم، وأيضا بهدف إيجاد حلفاء يساعدونها على إقامة دولة “إسرائيل”، إلى أن تكلّل الأمر بوعد مشهور، سمي بـ “وعد بلفور”، بموجبه وعَد وزير خارجية بريطانيا “آرثر بلفور” عبر رسالة خطية لـ “اللورد روتشيلد” سنة 1917، بأن بريطانيا لن تنسحب من فلسطين إلا إذا أمّنت “وطنا لليهود” National Home، وهو الوعد الذي يقال عنه اليوم: “وعد من لا يملك لمن لا يستحق”.
وإلى جانب الجهود الدبلوماسية التي قامة بها الحركة الصهيونية، كانت هناك جهود أخرى في الميدان، تمثلت في المجازر التي اقترفها أعضاؤها ضد الفلسطيين الخاضعين للاستعمار البريطاني، وبدعم وتسليح من دول متعددة، مما ترتب عنه تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين (مسلمين ومسيحيين…)، واستقدام سكان جدد لأرض فلسطين، عن طريق الإغراءات المادية، وافتعال التضييق على اليهود في الدول التي يوجدون بها، من أجل إقناعهم بأنهم أصبحوا مهددين، وأن المكان الآمن لهم هو “إسرائيل”، وقد نجحت “الوكالة الصهيونية” المختصة بتجير اليهود نحو “أرض الميعاد” فعلا في إقناع العديد منهم من خلال الإغراء والتغرير، لكنها لم تستطع التأثير في كل اليهود، الذين فضلوا البقاء في مواطنهم الأصلية، منهم من لا زالوا على مواقفهم إلى حدود اليوم، علما أن اليهود قد تعرضوا فعلا لأنواع من الانتهاك في العديد من البلدان وخاصة البلدان الكاثوليكية (ما يفسر تحمس بعض الدول لإقامة “دولة إسرائيل”، وذلك من أجل “طرد” اليهود نحو فلسطين وليس دعمهم من أجل وطن خاص بهم).
هكذا، وبناء على عقيدة متطرفة، ومصالح دولية، تم إحَلال شعب مكان شعب آخر (وليس احتلال)، من أجل إقامة دولة دينية، على حساب أرواح الملايين من المواطنين، الذين تم رميهم إلى المنافي والشتات، ما شكّل ويشكل أكبر جريمة في حق الانسان.
ما الذي قام به المجتمع العالمي إزاء هذا الوضع؟
اجتمعت الأمم المتحدة سنة 1947 (57 دولة)، وأصدرت القرار رقم 181، القاضي بتقسيم فلسطين بين اليهود (حول 57.7%، رغم أنهم كانوا قلة آنذاك، ولم يكونوا متواجدين إلا على حوالي 7 % من المساحة) والفسلطينيين (42.3% من المساحة). على أن تخضع منطقتي القدس وبيت لحم ومحيطهما للوصاية الدولية (الأمر الذي خرقه الرئيس الأمريكي “ترامب”، عندما نقل عاصمة بلاده من تل أبيب إلى القدس خلافا لكل قرارات المنتظم الدولي).
وقد كاد قرار التقسيم ألاّ ينال الأغلبية النسبية المطلوبة من أجل المصادقة عليه، لولا الضغوط التي مارستها الحركة الصهوينية وداعميها (وصف وزير خارجة أمريكا آنذاك، في مذكراته التي صدرت فيما بعد، طبيعة تلك الضغوط بـ “الفضيحة”). وهكذا صوتت33 دولة على قرار التقسيم من ضمنها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي وجنوب إفريقيا…إلخ، بينما صوتت ضده13 دولة هي: تركيا (الأتاتوركية)، إيران (الشاه)، أفغانسان، مصر، باكستان، سوريا، العراق، لبنان، السعدوية، اليمن، إضافة إلى كل من الهند، كوبا واليونان (أما باقي الدول العربية الاسلامية فلم تكن عضوا في الأمم المتحدة، لأنها كانت مستعمرة= من شروط العضوية أن يكون البلد مستقلا). بينما امتنعت مجموعة من الدول عن التصويت، بما فيها الدولة صاحبة وعد بلفور (بريطانيا)، إضافة إلى كل من: الأرجنتين، هندوراس، المكسيك، الصين، إثيوبيا، تشيلي، السالفادور.
هل احترمت “إسرائيل” قرار التقسيم؟
طبعا لم تحترمه، بل قال عنه بن غوريون: “إسرائيل تعتبر قرار التقسيم غير مشروع وغير موجود”. هكذا وبجرة قلم، تملصت الحركة الصهيونية من القرار، رغم كل الجهود التي قامت بها من أجل الحصول عليه. والحال أن الصهيونية هذا هو ديدنها: “اطلب، حقق، ثم تملص”.
هل عاقب العالم “إسرائيل” على هذا الخرق للقانون الدولي؟
طبعا، “عاقبها” العالم، بأن قبل عضويتها في الأمم المتحدة، وذلك باعتبارها “محبة للسلام، قادرة على الوفاء ببنود ميثاق الأمم المتحدة…!” (يَشترط الميثاق أن تكون الدولة الراغبة في الالتحاق بالأمم المتحدة، محبة للسلام).
وقد لقي طلب العضوية ترحيبا من قِبل 37 دولة. بينما رفضته 12 دولة هي: أفغانستان، العراق، إيران، الهند، اليمن، بورما، باكستان، سوريا، لبنان، مصر، إثيوبيا، السعودية. في مقابل امتناع الدول التالية عن التصويت: السلفادور، البرازيل، السويد، بريطانيا، اليونا، بلجيكا، تركيا، سيام (التايلاند).
الجذير بالذكر، أن قرار قبول عضوية “إسرائيل” بالأمم المتحدة، كان مشروطا من طرف الجمعية العامة بشرطيين أساسيين: الالتزام بقرار الأمم المتحدة (194 الصادر سنة 1948) المتضمن لعودة اللاجئين وتعويضهم ماديا عن الأضرار التي لحقت بهم، وهو ما لم تلتزم به إسرائيل إلى حدود كتابة هذه الأسطر، وقبول قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة سنة 1947، الذي جاء بناء على بروتوكول “لوزان” الذي أعدته لجنة التوفيق التي تضم الطرفين “الإسرائيلي” و”الفلسطيني” سنة 1948، وتم توقيعه سنة 1949.
لكن هل طبقت “إسرائيل” هذين الشرطين، حتى تستمر في عضويتها بالأمم المتحدة؟
لقد اعتبرت الخارجية “الإسرائيلية” أن “الساعة لا يمكن أن تعود إلى الوراء…إن عودة أي لاجئ عربي إلى مكان إقامته الأصلية هي شيء مستحيل”.
والجذير بالتنويه إليه أيضا في هذا السياق، أن فلسطين ليست عضوا في الأمم المتحدة إلى حدود اليوم، لأنها ليست مستقلة ولا تملك القدرة على الوفاء بواجباتها داخل المنظمة (حسب شرط الميثاق). لكن المسغرب له هو أن “إسرائيل” التي رفضت قرار التقسيم ولم تسمح بقيام دولة فلسطين، هي في عرف الذين قبلوا عضويتها في الأمم المتحدة، محبة للسلام، بينما فلسطين التي هي مستعمَرة من قِبل “إسرائيل”، لا يمكنها أن تكون عضوا لأنها غير مستقلة. فيكون المستعمِر عضوا (وكأنه هناك مستعمرٌ محب للسلام!) بينما المستعمَر لا يسمح له أن يكون عضوا!
واستمرت “إسرائيل” في انتهاك القانون الدولي، ترفض القرار تلو القرار، وتتفنن في خرق بنود ميثاق الأمم المتحدة، وتقيم المستوطنات/المستعمرات في الأراضي التي لم يمنحها إياها قرار التقسيم، بينما يتفرج العالم ويؤيد، وفي أحسن الأحوال يصدر توصيات تفتقد إلى عنصر الإلزام أو قرارات لا تجد القوة التي تنفذها، بل يدين أحيانا الفلسطينين عندما ينتفضون من أجل إيقاف قادة الحركة الصهيونية عند حدودهم. إلى أن جاء اتفاق أسلو (1993)، الذي قبلته بعض الفصائل الفلسطينية على مضض (فصائل منظمة التحرير) بزعامة ياسر عرفات، ورفضتها فصائل أخرى (يسارية وإسلامية)، والذي بموجبه تم إنشاء “السلطة والوطنية الفلسطينية” منذ 1996، بعد أن أصحبت منظمة التحرير تعترف بـ “حق إسرائيل في الوجود بسلام”.
لكن منذ ذلك الاتفاق، الذي أعطى “إسرائيل” كل ما تريده، بينما لم يحقق للفسلطينيون أي شيء، لا هُم حققوا حلم الدولة التي تسود فوق كامل التراب الفسلطيني، ولا هُم حققوا نصف دولة بناء على قرار التقسيم، ولا هم حققوا ربع دولة بناء على اتفاقية أوسلو، ولا هُم حافظوا على أرواحهم ووحدتهم الوطنية، وإنما تمزقوا بسبب هذه التنازلات المتتالية، واقتتلوا فيما بينهم بسبب ذلك، بينما واصلت “إسرائيل” جرائمها في حقهم، بل وصل بها إجرامها إلى حد تسميم ياسر عرفات زعيم منظمة التحرير وعراب اتفاق أوسلو.
هذه إذن، هي “إسرائيل”، وهذه هي قصتها، ولهذه الأسباب وغيرها، لا نجد أي من أساتذة القانون الدولي والمهتمين بحقوق الانسان، من يؤيدها، لأنها في عرفهم منتهكة للقانون الدولي، معتدة بنفسها، ورافضة لحقوق الانسان، بل إنها ترفض حتى ترسيم حدودها، لكي تحقق شروط “دولة” المتمثلة في: السلطة، السيادة، الشعب والإقليم. لأنها ترفض الحدود التي منحها إياها القانون الدولي، وتفضل عنها الحدود الواردة في تصورات الحركة الصهيونية، أي: “إسرائيل الكبرى”. فهل يمكن النظر إلى “إسرائيل” على أنها دولة، وهي التي ترفض ترسيم حدودها؟ أكيد أن الجواب هو بالنفي بالنسبة للقانون الدولي بما أنها لا تحدد إقليمها، وتستمر في التنكر للمواثيق الدولية، ورفض الانصياع لتوصيات الجمعية العامة للأمم المتحدة وقرارت مجلس الأمن، وأكيد أن الجواب بالنفي أيضا بالنسبة للمدافعين عن حقوق الشعب الفلسطيني من منطلق إنساني، لأنه لا يمكن الدفاع عن منطق إحلال شعب مكان شعب آخر، من منطلق تصورات دينية أو أيديولوجية أو استعمارية امبريالية.