فيلم “الحفر” “The Dig” (112 دقيقة / إنتاج بريطاني/ إخراج سيمون ستون) ليس في الواقع فيلمًا ترابيًا رغم الحفر العميق والحذر في التلال وتنحية الأتربة، ولكنه يحمل بين ثناياه قصة تاريخية عن فعل السطو كما مشاعر شخصياته المضطربة التي تبقى مدفونة في الغالب.

يستند الفيلم في مرجعيته إلى علم الحفريات والآثار، وإلى القصة الحقيقية لإديث بريتي، مالكة الأراضي في مقاطعة سوفولك في شرق إنجلترا حيث يتم العثور على أحد أهم المدافن في المملكة المتحدة في أواخر ثلاثينات القرن الماضي، بقيادة عالم الآثار باسيل براون، بالكشف عن سفينة دفن يبلغ طولها 24 مترًا من العصر الأنجلو ساكسوني ومكان دفن به الملك ريدوالد خلال القرن السابع الميلادي. قصة نهب أثري أصبحت اليوم جزءًا من الكنوز الوطنية التي يضمها المتحف البريطاني نُقشت مغامراتها الفيلمية عبر متواليات سردية ينضج فيها التاريخي بالمتخيل الابداعي.

الحفر النفسي

يحاول المخرج خلق أجواء نفسية بوجود قدر من الذكاء والحساسية المرافقة لفعل الاكتشاف، مع قدر كبير من ضبط النفس المزهوة بسحر المكان وأنفة الإنجليزي. فيلم يجسده الممثلان الرائدان كاري موليجان ورالف فين. ينتظم الفيلم بطريقة مقلقة بحيث يُطلب منا أولاً الاستثمار في هاتين الشخصيتين المعقدتين بشكل مثير للفضول بغية الحفر النفسي والجسدي في صلابة الذاتين وغموضهما، لكن بعد ذلك تتلاشى هذه المشاعر بخلق نوع من التقابلات بين الخبرة المكتسبة حياتيا وبين العلم المتحصل معرفيا وبين المواجهة والإذعان والجسارة والخوف… لينتقل التركيز إلى قصة حب ثانوية للزوج الأصغر سناً مع إمكانات رومانسية أكثر وضوحًا، يلعبها جوني فلين وليلي جيمس. يبدو موليجان وفين كشخصيتين تمت كتابتهما من نمط الشخصيات المعتزة بنفسها، وهذا لا يمنع الفيلم من لذة الفرجة والانخراط فيها، يصاحبها إحساس جميل بالمناظر الطبيعية وبسحر القصور الإنجليزية وعمارتها وأثاثها.

دراما الحزن والغموض

يحاول فيلم “الحفر” للمخرج سيمون ستون الغوص والكشف عن سفينة الدفن عام 1939، التي ألقت ضوءًا جديدًا على العصور المظلمة من تاريخ الحفريات، وكيف تحول هذا الفعل إلى منتوج للفرجة ومنتوج قابل لإعادة البيع واستغلاله في أكثر من منحى وإعادة تدوير القصة سينمائيا كموروث شعبي. الفيلم قطعة فنية مكونة من شخصيتين في المقام الأول في جزئه الأول قبل أن تتحول إلى دراما جماعية أكبر وإلى حشد عاطفي وارتزاقي. الفيلم مليء بقصص يلفها خيط لطيف من الحزن والغموض يجعله مؤثرا للغاية بحثا عن النهاية في شوارع لندن.

تتحول السفينة الغارقة بين التلال كفعل تاريخي والتي تم الكشف عنها كبطلة للفيلم لا يمكن المساس بها ولا يمكن العبث بها، (تتحول) إلى فعل واقعي، إلى صراع جذب بين المؤسسة الأكاديمية التي تحاول اقتناص هذا الاكتشاف التاريخي والاستحواذ عليه وبين مالكة الأرض والأرملة إديث بريتي، بحدسها القوي وغريزتها أن هناك شيئًا ما في هذه “التلال” في ممتلكاتها. تم تكييف الفيلم بقوة من قبل كاتب السيناريو مويرا بوفيني من رواية عام 2007 للصحافي والمؤلف جون بريستون.

البحث عن الماضي

يلعب رالف فينيس (باسيل براون) دور رجل قاسٍ واثق الخطوة ومعتز بنفسه بكلمات قليلة وبكاريزما وبخبرة ميدانية طويلة كشخص يعرف قيمة نفسه ويصر على الحصول على جنيهين في الأسبوع من السيدة بريتي لمعرفته بعمله في التنقيب طوال حياته رغم انتمائه الطبقي لفئة العمال. موليجان (إيديث بريتي) هي امرأة ذكية وجميلة ووحيدة صحبة طفلها، متأثرة بشكل غامض بما يكشف عنه بإحساسها الهادئ في غمرة البحث عن الكنز/ السفينة قبل وصول جوقة الباحثين من لندن اللاهطين وراء مجد السفينة الغابرة وتاريخها.

فكرة البحث عن الماضي واستخراج ما تم دفنه مثل الكشف عن العواطف المتناقضة التي تسري في شخصيات الفيلم باختلافات طبيعة المصالح المتضاربة بينها. ينظر أحد السكان المحليين في سوفولك إلى ذلك نظرة قاتمة ويلاحظ أنه “يجب أن يترك تلال السيدة بريتي وشأنها!” في استعارة عن أيادي التخريب التي تطال هذه الأعمال بدعوى حمايتها.

يتوالى الفيلم مثل دارجة (باسيل براون) البسيطة وهي تعبر الحقول في بداية الفيلم بإحساس قوي بالمكان وبالفترة في سياق سينما ذات كليشيات لذيذة تغلف الفيلم البريطاني. تحصل إيديث بريتي على جولة المشي التقليدية بقبعة ومعطف في شوارع لندن المزدحمة في زمن الحرب في مشهد مزدحم بتجمهر من الصحافيين وهم يتابعون قضية السفينة التي تحولت إلى قضية رأي عام ينعدم فيها فعل الحب والإنصاف.

يمكن تقسيم الفيلم إلى فصلين: الفصل الأول عن إديث وباسيل ونظرتهما المثيرة لبعضهما البعض والصامتة في مشاهد مثيرة للإعجاب، وفي مشهد الكشف عن نوم السفينة في التلال، ولكن إلى أين ستذهب علاقتهما؟

الفصل الثاني يعطينا قصة حب صغيرة بعمق أقل بكثير، لكن ربما هذا هو بيت القصيد. اديث وباسيل لهما لحظتهما الخاصة ومقدر لهما أن تدفن مشاعرهما الصامتة غير المصرح بها إلى سفينة محطمة دفينة وئدت من قبل الوافدين الجدد وقوى التاريخ الهائلة التي تحول كل عمل تطوعي إلى فعل رأسمالي مع استمرار الحواجز الطبقية في تهميش عالم الآثار باسيل براون المنحدر من البروليتاريا.

الحفر السردي والاعتزاز

في بناء الشخصيات هناك محاولة من خلال تقليل الفارق العمري للشخصيات الرئيسية في الحياة الفيلمية ربما لتحصين همسة شبه رومانسية، ولخلق نوع من التقارب النفسي بين الشخصيات.

إن احترام إيديث الثابت لباسيل، وهو مياوم يتم رفضه من قبل خبراء الآثار في متحف إبسويتش باعتباره تقليديا وغير مدرب ولا يحمل أي شهادات في مجال علم الحفريات والآثار مع إنكار خبرته المكتسبة ميدانيا، كما أن قرابتها الفكرية مع هذا السلوك الذاتي القاسي، يجلبان العمق والأثر إلى علاقتهما. يكشف حوار هادئ ومتبادل بينهما حول “البحث عن الموتى” عن تقارب في أفكارهما حول العلاقات بين الماضي والحاضر، لا سيما وأن صخب الحرب العالمية الثانية يلوح في الأفق.

يتسلل شعور إلى المتفرج بأن هناك قصة رومانسية محبطة بين إديث وباسيل مقحمة لتكسير قوالب الحكي السردي الفيلمي دون أن تتعمق.

عمل سيمون ستون، وهو مخرج مسرحي أسترالي مشهود له بالنجاحات في كل من أوروبا والولايات المتحدة، على تأطير المشاهد من زوايا مختلفة، مبرزا عمارة المكان (بقايا السفينة في الثلة-عمليات الحفر-القصر-منظر المروج-العمارة الإنجليزية-شوارع لندن….) ومنح الشخصيات ظلالا نفسية تقف عليها وبتحويرات ونقلات خفيفة داخل الفيلم دون أن يبتعد كثيرا عن محور قصة السفينة وبالارتباط بها في عمل سينمائي تقليدي وهادئ، مما يمنحه فيلما مرضيا مختتما بنبرة رنانة من الحزن مع الخطاب الإذاعي لرئيس الوزراء نيفيل تشامبرلين على الأمة يعلن فيه عن دخول بريطانيا في حرب مدمرة.

[embedded content]

hespress.com