تدور أحداث الفيلم الإنجليزي “العش” (the nest) (إنتاج 2020/المدة 107 دقائق) في أواسط عقد الثمانينات من القرن الماضي، وبالضبط عام 1986، ويقوم ببطولته الممثل “جود لو” في دور روري أوهارا، وهو وسيط استثماري بريطاني يعيش في نيويورك مع زوجته الأمريكية أليسون (كاري كون) وابنته المراهقة سام (أونا روش) وابنه الصغير بين (تشارلي شوتويل).
يقرر روري أوهارا في أحد الأيام أن ينتقل رفقة أسرته إلى إنجلترا حيث يعتقد أنه سيكون قادرا على الاستفادة من بعض الفرص التجارية الجديدة هناك. تبدو الزوجة أليسون حذرة وينتابها شعور من القلق والارتياب والخوف-لقد انتقلوا مرات عدة على مدار السنوات العشر الماضية دائما بسبب يقين روري من مستقبل مشرق-ومع ذلك سرعان ما تجد نفسها وعائلتها في دوامة الانتقال والتأقلم. تجد الأسرة حياة جديدة صعبة في منزل مخيف بالريف الإنجليزي تحت ضغط اجتماعي واقتصادي يهدد بتدمير الأسرة من الداخل ولكن يبدو أن هناك شيئًا ينذر بالخطر وبداية التشققات في الظهور داخل عائلة أوهارا.
يبدأ الفيلم بلقطة طويلة لمنزل واسع في الضواحي مع سيارتين متوقفتين أمام باب المنزل. يعيش الزوج الحلم الأمريكي الذي حقق من خلاله مستوى من النجاح الاقتصادي والعاطفي الذي يسمح لعائلته بالعيش بشكل مريح أكثر من الغالبية العظمى من الأمريكيين، لكن هذا لا يكفي؛ فرجل العائلة يريد المزيد من المال ومن الانغماس في الماديات في مجتمع رأسمالي متوحش.
بين فيلم “العش” وفيلم “التوهج” (The Shining) للمخرج لستانلي كوبريك، المشاهد الخادعة نفسها تقريبا من السكينة والهدوء التي سرعان ما تنقلب مع توالي المشاهد بين الفيلمين. فيلم “التوهج” يتناول قصة رجل سافر مع زوجته وابنه للعناية بفندق مهجور في شهور الشتاء ليهبط ببطء في هاوية الجنون والاندحار.
لا يأخذ الأب الشاب والمهووس “جود لو” في فيلم “العش” مقود الأسرة بنوع من الصرامة بشكل متقن، بل ينقل الرعب إلى عتبات المنزل ويعمل على تفكيك العائلة، والذي يتبع بمشاهد الانتقال إلى المسكن الجديد بأمتعة يطالها الموت.
بعد تسع سنوات من فيلم “Martha Marcy May Marlene” (2011) يعود المخرج سين دوركين إلى السينما بالقلق والغموض ذاته وبفيلم يحمل الكثير من التحديات، ويمكن القول إنه أكثر إنجازا على المستوى الفني على الرغم من أن نهايته ليست نهاية تقليدية.
تكمن نقط المقارنة بين “The Nest” و”The Shining” في الخسائر النفسية التي يلحقها الأب الأناني بعائلته بمعنى من المعاني… أي أن له قواسم مشتركة أكثر عن الأنا الذكورية المدمرة التي يتم سردها جزئيا على الأقل من وجهة نظر أنثوية. قد يكون روري هو الشخصية الأولى التي نلتقي بها لكن الفيلم يفضل في نهاية المطاف أليسون (كاري كون) الزوجة المسؤولة ذات الملاحظات الدقيقة، التي تتغير نفسيتها بتغير المكان وبتغير مكان إقامتها بمنزل فخم في إحدى الضواحي بلندن. يوحي منظر المنزل بالهدوء والانسياب وبالخوف جراء الفراغ العاطفي المتباعد بين الشخصيات رغم لحمة الأسرة الواحدة.
بعد ما لا يقل عن عقد من العيش في الولايات المتحدة، يقرر روري المزداد في انجلترا التخطيط لاقتلاع جذور أليسون وطفليهما، الابن (تشارلي شوتويل) وابنته سام (أونا روش) من أجل متابعة “فرصة الثراء” مرة أخرى في لندن. على الرغم من أنها تحب زوجها بصدق، إلا أن أليسون لها ما يبرر قلقها عندما تخبر والدتها بأن “هناك شيئا ما ليس على ما يرام”. تجيبها والدتها: “ليس من وظيفتك أن تقلقي”، “اتركي هذا لزوجك”. إنه قول مؤثر ويعكس الاتجاهات السائدة في تلك الفترة لعش الزوجية. أمضى الزوج بعض الوقت في التنقل بين كل من إنجلترا والولايات المتحدة. كما أن السياق التاريخي للفيلم منتصف الثمانينات لم يكن الطلاق شائعا بشكل كبير وكانت النساء “تكرم” أزواجهن بأكثر من اتجاه ومنحى.
للمنزل الريفي في ضواحي لندن تكلفته المادية والنفسية الباهظة؛ استأجره الزوج بأكثر مما يستطيع تحمله، ومعها يزداد قلق أليسون عندما ترى المكان، في حين إن الأطفال (غافلين عن الشؤون المالية للأسرة) يخافون من المنزل نفسه الذي يمكن أن يكون مسكونا. حتى في عملية الانتقال يبدي الحصان رغبة بعدم التأقلم وزيادة في الصهيل والعصيان. حصان أليسون وترنحه وعنفه يتنامى بعد انتقال الأسرة إلى المنزل الجديد ويخلف موته ندوبا دائمة على نفسية أليسون وعلى تفكك الأسرة بكاملها. الطفل تنتابه نوبات من الخوف… الابنة تدمن على معاقرة المخدرات والرقص، والأم تبدو بحالة من الجنون بعد موت الحصان كأن الحصان هنا هو رب الأسرة.
يعمل روري في مجال التمويل والحسابات المعقدة للمخاطرة والمكافأة هي تخصصه، لكن في هذه الحالة فهو يراهن على راحة أسرته وسعادتها. يقول: “لقد كانت طفولتي تعيسة وأنا أستحق ذلك!”، فهو يسعى لمزيد من تحصيل الثروة دون أن يدري أنه يقود العائلة بكاملها إلى حافة الدمار. وفي وقت متأخر من الفيلم، يحاول زيارة والدته التي لم يرها منذ سنوات ويكشف الكثير عن دوافعه. يريد روري من والدته أن ترى منزله الجديد وأن تقابل “الفتاة الأمريكية الشقراء الجميلة” التي تزوجها، وأن تُظهر لابنه العاطفة التي حرم منها (يتجاهل بشكل ملائم ذكر اسم سام، التي ليست ابنته البيولوجية والتي يرسلها إلى مدرسة ثانوية بينما كان يدفع لولده “بين” لحضور أفضل في أكاديمية خاصة له). في المقابل، تسود نغمة صامتة وغامضة في الفيلم تنطلق مع البداية حتى النهاية وتنمو وتمنعه من التواصل بشكل كامل مع جماهير واسعة.
لم تتخيل أليسون أبدًا أن هويتها الخاصة المحاطة بالحيطة والحذر لن تتغلب على ما يسمى بـ “قلق الحالة” عندما تزوجت من روري، لكن يبدو أن حالته غير قابلة للشفاء: كلما حاول الزوج أن يثبت نفسه للآخرين أصبح أكثر خطورة على نفسه وعلى عائلته (هناك سبب وجيه لإخفاء أليسون أموالها عن زوجها) وبالاستفادة من الجانب المظلم من جاذبيته الخاصة. دور الممثل “جود لاو” رائع، على الرغم من أن المشاهد التي يستخدمها المخرج له لإضفاء نوع من الطابع الدرامي على دوامة الزوج ستدفع معظم الناس إلى الملل والضجر.
في فيلم المخرج السابق “مارثا ميرسي” دراما مشحونة بالقلق بشكل رائع حول طائفة خطيرة، لكن المخرج يتابع تشرذم وحدة عائلية تعاني من الوهم في فيلم “العش”. من المثير للاهتمام مع ذلك أن المخرج لم يحدد أبدًا ما يزعج عائلة الزوج، وبدلاً من ذلك يقدم أدلة مختلفة تتعلق بمصدر الخلاف. ربما يكون ذلك لأن روري لديه أحلام كبيرة ولكن القليل من الانضباط. ربما يرجع ذلك إلى أن أليسون لا تحترم زوجها تمامًا. أو ربما لأنه كما اقترح في وقت ما أن المنزل مخيف للأطفال حقًا، وذلك باستخدام التكبير البطيء والتصغير لبعض المشاهد بالإضافة إلى اللقطات الطويلة الثابتة التي تثير الفزع. يخلق الفيلم القلق الذي نشعر به ولكن لا يمكننا عزله وذلك بطرح السؤال هل المنزل مسكون؟ أم هي الشخصيات مسكونة بالوهم؟
يقدم الفيلم نقدا مبطنا بشكل أفضل للمجتمعات الرأسمالية وعن الجشع المادي. هذا ينطبق بشكل خاص على الزوج روري الذي يصور في الفيلم ولو بشكل رفيع تسلقا اجتماعيا طموحا تتمثل صفته الوحيدة في أنه يريد أن يكون ثريا وأبا وزوجًا لا يمكننا الوثوق به في أداء رائع للمثل “جود لو”.
يبدو الزوج مثيرا للشفقة بينما الزوجة أليسون امرأة تدافع عن نفسها وتحاول الحفاظ على وحدة الأسرة وعلى نفسها مع بعض السيطرة على حياتها، بينما يؤكد زوجها سلطته على جميع قرارات الأسرة. فغضب أليسون المتزايد بسبب ضغط الظروف هو الأقرب لتوفير صمام إطلاق لهذه الدراما المقيدة والغامضة.
تنتهي مخططات روري المالية دون جدوى وينمو التوتر فقط داخل العائلة وكذلك الشعور بأن شيئًا فظيعًا حقًا يمكن أن يحدث في أي لحظة. لا يتعلق الأمر بتجنب المفسدين ولا بالمؤامرة بقدر ما يقدم الفيلم دراسة لخطوط التصدع غير المرئية في عائلة معرضة للخطر بسبب تغير مشهد الانتقال. قد يشعر البعض بأن الفيلم ينتهي بشكل مفاجئ للغاية مع ترك الكثير من الأسئلة المعلقة دون إجابة وهم مجتمعون على الطاولة، لكن الحقيقة أن الإجابات المتولدة من المشهد الأخير والمصاحبة للكثير من الرعب والقلق في إدراك أن الرباط الأسري ربما انكسر بشكل دائم.