ولِمَ لا؟

والمغرب بإرث سينمائي مشرف، وبجمهور تربى سينمائيا، على مدى أجيال؛ انخرط قديما في كل التفاصيل اليومية لرعاة البقر في الغرب الأمريكي، وتألم مع الهنود الحمر وهم يبادون؛ كما انخرط في الأفلام الرومانية، بين تيجان القياصرة وسنابك الخيل والعربات والعضلات المفتولة.

ثم غنى مع الهنديات الرعاشات في رقصهن المحبوب؛ أحب بالهندية وغنى بها؛ وفرح للنهايات، حيث يموت السحرة، وتستعيد الأجساد الممسوخة سيرتها الأولى، ويمتطي الأمير، وفي حضنه محبوبته الشعبية، الحصان الأبيض رمز الحب والسلم.

ولما غربت شمس هذه الصَّرْعات، وانكشفت له -بفضل النقد السينمائي المواطن والناشئ- الخطابات الثاوية في ثنايا الإنتاج الهوليودي، المغرض غالبا؛ يمم شطر سينما عربية مصرية، عرف الرواد كيف يستميلون إليها قلوب الجماهير العربية؛ من خلال استثمار المعيش اليومي العربي الاقتصادي، السياسي والعاطفي.

وضمن هذا المسار السينمائي العابر للقارات، وُلدت السينما المغربية، غذاء فنيا يُطبخ على مهل، لشعب سينمائي بامتياز.

ولأمور عديدة، من عناوينها البارزة، ضعف الدعم المالي الرسمي واستنكاف مستثمرينا عن الاستثمار في المجال الفني والثقافي عموما، ظل الإنتاج السينمائي المغربي مغامرة محفوفة بكل المخاطر، لا تُقبل عليها سوى فئة قليلة، تؤمن بهذا الفن كرافعة للتنمية؛ لكن ليس بين يديها سوى جهودها الذاتية، المتواضعة غالبا.

والحال أن خرائطنا البيئية المتنوعة، وقضايانا الاجتماعية، وتعدد مواردنا الثقافية؛ يضاف إلى هذا طموحنا القاري الساعي إلى إحلال البديل الإفريقي الثقافي والقيمي والاقتصادي محل النموذج الكولونيالي، الذي انكشف للجميع مدى تضمنه لعوامل التعرية والتهجير. كل هذا يستدعي عنفوانا سينمائيا مغربيا، يواكب مجهودات الدولة ويساهم في التعبئة لإنجاح كل رهاناتها.

لقد سبق أن تحدثت عن إعمار صحرائنا، واستغربت أن تكون، ربما، أغلى منطقة مغربية، من حيث إنفاق الدولة -وهذا مفهوم- ومن حيث وجود كبير لقواتنا المسلحة الملكية، جعل منها جنات أمان شامل؛ لكن مع كل هذا تظل هذه الصحراء بعيدة عنا، كمواطنين، ككتاب، كشعراء، كفنانين، كسينمائيين، وكمجرد سائحين مغامرين في مجاهلها.

وللمقارنة أوردت مثال دول الثلج الاسكندنافية؛ حيث لا تحُول حتى أدنى درجات الحرارة دون انفتاح شعوبها على كل خرائطها الجامدة.. إنها فعلا شعوب ثلجية؛ في الوقت الذي لا نشجع نحن على ممارسة صحرائنا، وفي كل الفصول، بدل الاكتفاء بالدفاع عنها فقط.

حتى مخيمات أطفالنا لا تعرف طرق الجنوب.

هنا توجد كل توابل النشاط السينمائي، المتعدد التخصصات؛ لا بد من تحرك الكاميرا حتى تتحرك أقدامنا في جميع الاتجاهات.

قصة ميلاد “هوليود المغرب”:

وفي نفس الوقت حكاية كتابتي عن السينما اليوم، ولأول مرة.

تصادف أن استمعت إلى حلقة إذاعية لقناة chaîne inter، حيث استضافت المنشطة ثلة من السينمائيين الشباب؛ أو قل الرضع في مجال الإنتاج السينمائي المسوق وطنيا، وبطموح دولي.

مع توالي المداخلات ارتسمت أمامي صورة واضحة لتجربة سينمائية مغربية فتية، في طريقها ليس لإثراء الساحة الفنية الوطنية فقط، بل لتغيير نظرتها التقليدية إلى الفيلم المغربي، وتحقيق رغبتها في رقيه إلى المستوى ألتشويقي الدولي؛ مضمونا إنتاجا، إخراجا، تركيبا وعرضا.

ومما رغبني في عرض تجربة “موريودmorywood ” على القراء، كونها عصامية، تتحرك في حَبْوها بجهودها الذاتية المتواضعة جدا.

جمع حب السينما -منذ سنوات معدودة- بين الشابين أيوب حداد والمخرج، والممثل، رشيد محب، ذي التكوين السينمائي الأكاديمي؛ يحدوهما -حسب ما عبرا عنه في الحوار- طموح كبير لإنتاج وإخراج باكورة أعمالهما السينمائية المغربية المرتقبة.

هو ذا النص بين يديهما، تتعاوره الرؤى، عبر جلسات وجلسات؛ ليستوي “سيناريو” قابلا للمقاربات الإخراجية.

لكن أين “عصَبُ الحرب” حسب تعبير نابوليون؟ المال الذي يتحكم، مع الأسف، حتى في الإبداع والفن؛ خصوصا إذا كان إنتاجا سينمائيا يحتاج إلى موارد بشرية وفنية ولوجيستيك كامل، دونه خرط القَتاد.

كل شيء على الشباب يهون؛ ما دام الدعم الرسمي غير موجود؛ وما دام مستثمرونا لا تنتظر منهم أريحية المغامرة مع شباب سينمائي مبتدئ؛ شرع أيوب ورشيد في أعمال سينمائية محدودة، مكنتهما من تجميع رصيد الانطلاق، والكمال على الله.

وما دامت الطيور على أمثالها تقع، فقد التأم حولهما جمعٌ من الممثلين الشباب؛ لم يكونوا ينتظرون غير فرصتهم، وها هي تواتيهم مع من يفهم في البدايات والانطلاقات الواعدة.

ربيع الصقلي، لبنى البكري، جواد السايح ومحمد لمهيول؛ أسماء جديدة ترددت على مسامعي، وأنا أتتبع الحوار، فبدت لي بغير خانات أصنفها فيها؛ ومن هنا رونق الجدة في كل شيء؛ أولسنا أمام ميلاد؟ ألم يتخطف منا الموت العديد من الأسماء اللامعة في المجال، حتى خلنا كل الميلاد ينتمي للماضي فقط.

لا يا سادة الرحم المغربية ولادة، وستتربع “موريود” -هوليود المغرب- صلبة العود حاضنة لانطلاقة جديدة للسينما المغربية؛ ومن هنا أوجه النداء للجنة النموذج التنموي لتستدخل في حسابها الاشتغال السينمائي رافعة للتنمية وليس ترفا فقط.

“وأوحينا إليه أن اصنع الفلك” السفينة جاهزة بطاقمها، وفي نيتها الوصول قريبا إلى كل المرافئ الوطنية والعالمية؛ وهي تحمل للعالم تباشير مغرب سينمائي جديد؛ يقطع مع كونه ملاذا، جغرافيا فقط، لكبار المنتجين؛ ومع كونه مستهلكا فقط لسينما الغير.

اختفاء نادين:

هو محور فيلم “نادين” باكورة “موريود ” الفتية والمنتج أيوب والمخرج رشيد.

على خلفية، يختلط فيها الاجتماعي الثقافي، بالغرائبي الخارج عن المألوف، تختفي “نادين” من منزل أسرتها، مخلفة للأسرة والشرطة متاهات “كافكاوية” من الغموض والالتباس؛ يحاول مفتشان للشرطة، ناصر وشرف، فك طلاسمها، رغم ما يحيط بهما، كشرطيين، من صعوبات ذاتية وموضوعية.

منحى أساسي ليقدم الشريط لوحات عن قساوة وصعوبة العمل البوليسي؛ خصوصا حينما يتصادم الشخصي مع المهني، في دوامة من المتاعب.

أما الرَّكح الذي وسِع هذا العمل السينمائي المتعدد الأبعاد، فلم يكن غير غابات بنسليمان وشعابها.

من حيث اللوجستيك، تم الاشتغال بكاميرات ووسائل بمقاييس عالمية؛ بُذلت جهود كبيرة للتحرك بها ليلا في الشعاب والجبال.

يمتَحُ المخرج رشيد محب، حسب ما صرح به، في أسلوبه الإخراجي، من المدرسة الأمريكية لأفلام الرعب thriller؛ وبصفة خاصة أعمال “ستانلي كوبريسك”.

إننا في الانتظار؛ خصوصا وقد آلمنا الفقد الفني والسينمائي، في هذا العام الاستثنائي؛ وفي الوقت نفسه توالت علينا مآسي اختطاف الأطفال، في إطار عجائبي غرائبي لا يصدقه العقل؛ ونحن في قرننا هذا.

أما “نادين” فستظل مختفية، إلى أن تظهر في قاعاتنا السينمائية؛ خصوصا وقد عقدت “كوفيد” العزم على الرحيل، إلى غير رجعة.

يا مستثمرينا المثقفين، انتبهوا إلى طاقات سينمائية شابة عاقدة العزم على بلوغ العالمية.

أسسوا رجاء لدبلوماسية سينمائية تنافسية، ما دام المغرب يراهن على الحضور في الدينامية التنموية الإفريقية، وفي غيرها.

إن السينما تُكسِب المعارك وتُخسِرها..

طبعا السينما المبدعة والمتوثبة والشجاعة؛ والمنخرطة في الاستراتيجية التنموية للبلاد.

hespress.com