عُرف بانتمائه لِما نُعت قبل عدة عقود ب”صلحاء المغرب الحداثيين”، على أساس ما كان عليه من تنظير ونظر راقٍ وأثر علمي رفيع وكفاية بحث وتأطير وتكوين كذا نزاهة فكر وطرح وغِنى رأي وتحليل. ولعل ثمانينات القرن الماضي فترة بروزه، كانت بمساحة نقاش دولي واسع حول جميع ما هو منهجي نظري بين عدد من أعلام علم الاجتماع (السوسيولوجيا) مثل “بيير بورديو” و”ريمون بودون” و”ادغار موران” وغيرهم. إنه فقيد علم الاجتماع المغربي الدكتور “محمد كًسوس” رحمه الله الذي ارتأينا ورقة حوله في ذكرى وفاته قبل سبع سنوات، من باب استحضار روح علامات فكرية مغربية مشرقة ومن ثمة نبوغ مغربي ونابغين. ولعل بقدر ما ارتبطت بداية علم اجتماع محمد كًسوس بفترة سبعينات القرن الماضي من خلال مسار علمي وأوراش ذات طبيعة اجتماعية وإنسانية ومجالية، بقدر ما كان عليه من قناعة حول جوهر علاقة علم الاجتماع بالتاريخ كمقاربة بحث ودراسة لسيرورات التحول المجتمعي.

وغير خاف عن الأكاديميين السوسيولوجيين المغاربة أن محمد كًسوس يشكل علامة فاصلة في علم الاجتماع المغربي، لِما كان عليه منذ سبعينات القرن الماضي من درس أكاديمي وانفتاح على مقاربات نظرية ودراسات ميدانية سمحت بخطاب سوسيولوجي نقدي رصين، ومن هنا ما تميز به من ريادة ونموذج درس في مناهج البحث ومن ثمة ما طبعه من معالم عالِم وأستاذ باحث ومن جهد نظري، أسهم به لفائدة تراث علم الاجتماع وخدمته وتقريبه للباحث والقارئ والمهتم على حد سواء. فبقدر ما اهتم بكل ما هو حقب ومدارس فكرية ومناهج تخص هذا المجال منذ نهاية القرن التاسع عشر حيث النشأة إلى غاية نهاية القرن الماضي، بقدر ما عمل على رصد ما هناك من تقاطع يحكم علاقة علم الاجتماع بباقي العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى من أنتروبولوجيا وتاريخ واقتصاد وسياسة وغيرها. علما أن غياب وحدة نظرية متكاملة هو ما سجل حول علم الاجتماع خلال العقود الأخيرة، وأن البحث الميداني من خلال ما هو منوغرافي وبيوغرافي كان خيطاً ناظماً حافظ على تماسات وعلاقة مختلف المقاربات في هذا المجال.

ولم يكن محمد كًسوس سجين مجال بحثي نظري عام وضيق، بل بانفتاح على ما هناك من حقول تفاعل ومعرفة مجاورة لعلم الاجتماع، لعل منها ما هو تربوي ومدرسة مغربية وعياً منه بما كانت عليه من إكراه عميق وحاجة لطرح مؤسس صريح، فكان ممن وقف من رجالات الفكر العلمي المغربي بعيون سوسيولوجية على واقع حالها ومن خلالها على واقع حال تربية وتكوين. فقد أورد في إحدى لقاءاته العلمية أن قضية التربية قبل كل شيء مسألة اجتماعية بطابع تركيبي تعتمد مصادر معرفية متعددة، أخطر ما هددها تحولها إلى عملية كونية ونموذج واحد موحد، كما لو أن هناك نظاما قيما موحدا ومصالح وتطلعات واحدة- يضيف-. ومن هنا تحديده لثلاثة أدوار أساسية للمدرسة، أولا: مهمة نماء اجتماعي واقتصادي أي جعل المجتمع قادرا على تلبية الحاجيات، فضلا عن قدرة استثمار وتوظيف المعارف العلمية والتكنولوجية لتحسين وضع الإنسان وتطوير الإنتاج في كل الميادين. ثانيا: مهمة بناء ديمقراطي من خلال مشاركة ومسؤولية مع ما ينبغي من تدبير حديث يقوم على مهارات وكفايات خدمة للمجتمع، ثالثا مهمة مسايرة النظام التعليمي ومن ثمة المدرسة لجميع ما هو علمي وتكنولوجي.

هذا ما قال عنه رائد علم الاجتماع المغربي محمد كًسوس قبل عقود، أنه لا يزال دون وعي ولا إرادة ولا قبول في المجتمع المغربي إلا بعد تكييفه وتوظيفه في خدمة استمرارية ما، مضيفا أنه ما دام نظامنا التعليمي مجرد آلة دون موجه ولا وظيفة واضحة فهو قضية مشروع مجتمع. وفي علاقة بمسألة البحث التربوي والمدرسة المغربية أورد قبل عقود من الزمن أن هذا المجال لن يعرف أي تطور إلا مع الانتقال إلى المرحلة المعرفية، وبما أن الإشكال يرتبط بطبيعة مشروع مجتمع وهذا إشكال سياسي إيديولوجي، وإلى جانب ما هناك من تحفظ للبحث فيه وعدم قدرته على الإسهام إلا بنصيب ضعيف، تبقى المسألة قضية ميزان قوة بالدرجة الأولى وليست قواعد استدلال علمي عاد. وإذا كان ما يطبع البحث التربوي هو ما يسجل عليه من تقصير، فلأن معالم ما ينبغي أن يسهم فيه غير واضحة والسؤال المركزي فيه غير متفق ولا متوافق عليه.

ويذكر محمد كًسوس في هذا الإطار أن البحث التربوي في جزء هام منه يتعامل مع جزء صغير من مستلزمات البحث في غياب شروط سياسية وأيديولوجية أولية، علما أن هذا البحث في إطار سياسي وإداري لا يحتاج معه الأمر لمعارف أكثر. مشيراً إلى أنه في مسار حقل التربية والتكوين تقررت إصلاحات كبرى وتعديلات عدة إنما دون دراسات وتقويم للحصيلة والإنجازات، وأن ما حصل في هذا السياق حدث إثر قرارات سياسية وتعليمات عوض أبحاث ودراسات، وأنه حتى لمَّا تكون هناك دراسات فإن إنجازها يتم تحت توجيه مؤسسات دولية، وهو ما يتم توظيفه لتبرير ما يتم اتخاذه من قرارات جديدة.

إن من عناصر تقصير حقل البحث التربوي بالمغرب من وجهة نظر محمد كًسوس، كونه يرتبط بمنظومة عامة لا ينفصل عنها بل يعكسها في عدد من جوانبها فضلا عما هناك من إشكال مرتبط بالتطور المعرفي والاجتهاد الفكري العلمي. وهو ما يجعل من هذا البحث سجين واقع معين يتجاوب مع واقع ممكن وليس مع واقع سائد. من هنا فهو يرى أن عملية البناء التربوي ليس هو الانخراط والاندماج في تنظيمات وتدابير كائنة فقط مثل ما يسجل من اهتمام بيداغوجي ليس سوى مرحلة لما قبل الأخيرة، بل المهم رسم معالم مشروع مجتمعي ومنظومة تربوية عامة مع أدوات كبرى لأجرأة هذا الرهان قبل الحديث عن ميكانيك (ديداكتيك) هذه الأدوات (سبل تدريس.. إجراء امتحانات..)، فهذه عناصر وقضايا من السؤال مهمة إنما الأهم يبقى هو الحسم فيما هو أساسي وأولي.

وبعيدا عن البحث التربوي ومتاهاته، وحول ما انخرط فيه المغرب من تعريب نهاية ثمانينات القرن الماضي كورش توقف في المسار الجامعي. أورد عنه محمد كًسوس أنه لم يكن فيه نية استكماله منذ بدايته، وأن ما حصل ليس إصلاحاً حضارياً شمولياً واسعاً بل معالجة بناء على اعتبارات سياسوية ضيقة أو إدارية تقنية لا غير. مضيفاً أن غياب الفاعلين من هيئة المدرسين خاصة جعل ما تم بلوغه مجرد عمل ضمن إطار ضيق، مشيراً إلى أن الجهات التي قامت بالعملية ربما تبين لها أن الرهان لا فائدة منه وأن عدم توفير ما ينبغي من شروط لتحقيق التعريب كان من أجل إظهاره أنه بدون آفاق.

وحول عدم بلوغ التعريب للجامعة، اعتبر أن الإشكال ليس سهلاً ولا يمكن تحقيق ذلك بين عشية وضحاها، مضيفاً أن ما حصل من توقف دليل على غياب خطة وتخطيط بالنظر لِما تحتاجه العملية من تحضير جيد لفترة من الزمن عوض ما هو تلقائي في بادرة ذات منحى قومي ووطني. معتبراً تجربة التعريب هدر زمني ومضيعة وقت كبير، وعياً بما تعرفه عدد من المجالات من تطورات سريعة.

ولعل من مظاهر العمل غير العقلاني في ورش وتجربة التعريب هذه -يقول- هناك قضية المصطلحات معتبراً أن الترجمة سجن وقمع للحياة وللعقل وللقدرة على التصرف، مؤكداً أن عملية التعريب لن تكون مفيدة إلا عندما تتجاوز الترجمة صوب ما هو إنتاج مباشر باللغة العربية وفق ما يسير ويساير تطور المعارف. بحيث خلص إلى أنه ما دام أن عملية التعريب لم يكن مخطط لها بشكل جيد فقد كانت عملاً محدوداً أو جزئياً لم يخرج عن انتاج كتب مدرسية بالطور المدرسي، وهو ما صعب تحقيقه على مستوى الطور الجامعي لكونه لا يتوفر على برامج رسمية بل يعتمد الاجتهاد والأبحاث العلمية والمرجعيات الأكاديمية، وأن حول موضوع ما وفكرة ما ونقطة ما ومفهوم ما يمكن أن تكون هناك آراء عدة وقراءات. ففي الجامعة -يضيف- ليس هناك (درس نموذجي) ولا (كتاب نموذجي) مثلما نجد في  الطور المدرسي، وعليه فإن مسألة التعريب في الجامعة تقتضي شروط عدة ومتداخلة ذات علاقة بما هو تحضير علمي ولغوي.

إن عملية التعريب في قراءة محمد كًسوس، ورش لا ينبغي أن يقتصر مجاله على ما هو أسهل بل أهمية أن يشمل ويستهدف كل الميادين الأخرى، ولا ينبغي أن يكون قراراً وزارياً بل مخططاً على امتداد فترة من الزمن. مشيراً إلى أن التعريب في معناه النضالي العلمي الشمولي لم ينطلق بعد، وأن القضية هي بعلاقة مع ما هناك من صراع سياسي إيديولوجي واجتماعي وثقافي، وأن استمرارية عمل التعريب ليست مسألة بيروقراطية إدارية بل منعطفاً يقتضي تخطيطاً وتشاوراً وليس إجراء إداريا عادياً. وليس انتقاد تجربة التعريب بالمغرب أمراً سلبياً ولا عداء له، إنما هناك أمور حدثت -يقول- لم تخدم هذا الورش بل هدمت كل إمكانات تطوره وبنائه.

ومن هنا ما حصل من فهم ضيق لعدد من عناصر ورش تكلف بها مؤطرون تربويون وتكلفت بها أجهزة إنتاج كتب مدرسية، حيث تم إقرار برنامج دون إقرار تعبئة وإشراك يسهم فيه الجميع، ما يجعل من التجربة مجرد قرار إداري وليس ثورة ثقافية في المدرسة المغربية ومنظومتها التربوية ومن ثمة في المجتمع. هكذا تحدث محمد كًسوس عن تجربة التعريب ما عاشه المغرب قبل حوالي ثلاثة عقود من الزمن، وهكذا ما أورده حول ورش تم اختزاله باعتباره قضية لغة وترجمة لا غير عوض النظر إليه في بعده الشمولي كلغة ومناهج ومضامين…

إن أكبر ما رافق عمل التعريب من إشكالات تجلى أساساً في غياب منظور ورؤية تحديثية، وأن عدم الانطلاق فيه من أسس صحيحة هو اختيار طبقي سياسي إيديولوجي، وأن التعريب هو مسألة لغة أم لها مقومات ومشاكل يمكن معالجتها بطرق جماعية وعقلانية والتخطيط لها على مدى سنوات، علماً أن التعريب أيضاً هو نظام مَسعَى لجيل حاضرٍ وجيل مستقبلٍ مثله في ذلك مثل الديمقراطية التي في الحقيقة لا نهاية لها.

وحول تصور محمد كسوس رحمه الله لإصلاح التعليم قبل حوالي ثلاثة عقود أورد أن هناك ثلاثة مستلزمات جوهرية وأساسية، أولاً تحديد اختيارات أساسية ذات علاقة بطبيعة مجتمع مغرب المستقبل في معالمه الكبرى ليعمل التعليم على تحضير المواطن لهذا الأفق، ثانياً تحديد إجراءات وتدابير لازمة لتحقيق الاختيارات على مدى ما بين خمسة عشرة سنة وعشرين سنة وهو ما لا ينبغي أن يتغير مع تغير الوزارات، وأن هذا يقتضي ميثاقاً وطنياً يحول مساره إلى تشريعات وبرامج على مدى قريب متوسط وبعيد. ثالثاً الحاجة لتدبير ديمقراطي للمؤسسات التربوية وإلى لامركزية ومعها بحث علمي باعتباره ركيزة أساسية من أجل اتخاذ القرار، فضلاً عن خلق حراك واسع يسهم فيه الجميع كل من موقعه من أجل “المدرسة”، ولعل هذا وذلك من طروحات محمد كًسوس هو ما تبلور ضمن ميثاق وطني للتربية والتكوين تم الاشتغال عليه أواخر تسعينات القرن الماضي قبل أجرأته عام 2000.

يذكر أن الراحل محمد كًسوس يعد من أبرز العلامات العلمية البحثية في مجال السوسيولوجيا المغربية، كان بفضل كبير في تأطير وتكوين جيل بأكمله من الباحثين المغاربة في هذا الحقل (مدرسة محمد كًسوس)، من أعماله العلمية هناك “رهانات الفكر السوسيولوجي بالمغرب” و”طروحات حول المسألة الاجتماعية” و”طروحات حول الثقافة والتربية والتعليم” و”طبيعة ومآل المجتمع المغربي المعاصر”، ولعل إلى جانب ما طبعه من نشاط سياسي ونضال من أجل الدمقرطة وحقوق الإنسان فقد اشتهر بمقولة “إنهم يريدون خلق جيل من الضباع”.

hespress.com