قبل أن تطوق جائحة “كورونا” العالم، وتحدّ من حركة الإنسان في الزمان والمكان، وتدق مسامير من حديد في العجلة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لجل البلدان، زرت مدينة تافراوت، فأسرّتني بمؤهلاتها الطبيعية وغناها الثقافي وحفاوة سكانها، فكان ذلك مناسبة لتأليف هذه القراءة الكاشفة عن جمال فضاءاتها وحركة أهلها.

تافراوت كلمة أمازيغية تدل في عمقها المعجمي على الإناء المنحوت من الصخر، والمخصّص لسقي الدواجن. وتقع من الناحية الجغرافية في جنوب المغرب، مبتعدة عن مدينة أكادير بسبعين ومائة كيلو مترا. وتعرف بكونها مدينة اللوز والخروب والنخيل وزيت الزيتون والأركان. فقد حباها الله بمؤهلات طبيعية وجغرافية زاخرة؛ مما يشكل غطاء نباتيا مرصَّعا، يزين وجه الأرض بزهوره ووروده في فصل الربيع.

وزائر هذه المدينة يجد نفسه أمام لوحات طبيعية آسِرة، تسحر الألباب قبل الأبصار. إذ تبدو له الطبيعة على المدى البعيد مُشِعّة تفيض حياة وحيوية، بفطرتها وصفائها وتنوع مكوناتها وعناصرها. يتغلغل جمالها إلى الوجدان، فتنشرح النفس وينسلخ المرء من أعباء الحياة والتزاماتها ومسؤولياتها. إذّاك يشرع في البحث عن سرّ الشعور الفيّاض الذي يتملكه، ومحاولة القبض على ما انتابه من نفحات ولمسات فنية، لا تقدر على إبداعها سوى أنامل الطبيعة.

تلك مدينة سياحية تستقطب إليها نسبا كبيرة من السياح والزوار من داخل البلاد وخارجها (فرنسا وإيطاليا) بسبب سحرها الطبيعي الفاتن، وتنوع تضاريسها الجغرافية، وحفاوة استقبال زوارها؛ مما يلغي الفروق الثقافية واللغوية والدينية بين الجميع، فيتم التعايش والتفاعل والتناغم في أبهى صوره. ويجد المسافر إليها كذلك ما تشتهيه نفسه وتلذه عينه، من المواقع الجيولوجية والتاريخية والصخور العملاقة الملونة على جانب الطريق.

وبمُكنة هذه المشاهد الجغرافية الموصوفة أن تُفتِّح قريحته، وتُفَتِّق موهبته للإبداع، مثلما حصل للرسام البلجيكي جون فيرامJohn Ferram الذي فضل سنة أربع وثمانين وتسعمائة وألف أن يصبغ تلك الصخور العملاقة بألوان زادت المنطقة جمالية، كما تروي الروايات الشفوية.

أما ما يصنعه أبناء تافراوت من منسوجات ومنتوجات تقليدية، فهو ضارب في عمق التاريخ، فعلى الرغم من انفتاحهم على رياح الحضارة المعاصرة، وتلاقحهم الثقافي مع الآخر، فإنهم يظلون على الدوام مستمسكين بعرى جذورهم التاريخية والثقافية، مما يجسد أصالة منتوجاتهم وعراقتها. وتتصدر البلغة “التافراوتية” تلك المنتوجات التقليدية التي تتلمس طريقها على يد الجمعيات التنموية نحو التألق والتنافس ومواكبة العصر.

ثم إن تافراوت تعتبر معقلا للطرب والموسيقى الشعبية، التي تمتد أهازيجها ونغماتها في عمق التاريخ. يترجم الفولكلور الشعبي طبيعة ساكنة المنطقة وسَعة صدورهم، وتقبلهم للآخر وانفتاحهم عليه؛ مما يقوي أواصر الترابط والتماسك بين الزائرين والقاطنين، فتتطور أحيانا إلى صداقات وعلاقات حميمة، تتجدد في كل المواسم.

ومن الأسماء اللامعة التي أنجبتها هذه المدينة في ميدان الثقافة والأدب الشاعر والروائي محمد خير الدين (ت 1995م)، الذي لقبه جون بول سارتر Jean-Paul Sartre (ت 1980م) بـ”الطائر الأزرق”، لتمرده على الجاهز المألوف، وثورته على القبح بصوره المختلفة. تترجَّع بين ثنايا كتاباته أصداء تافراوت، في مناحيها وأبعادها اللغوية الأمازيغية والثقافية والأدبية والتاريخية والاجتماعية. برز اسمه في ستينيات القرن المنصرم في مجلة “أنفاس”، إلى جانب مصطفى النيسابوري، وعبد اللطيف اللعبي، والطاهر بن جلون. ونذكر من أعماله الأدبية ديوان “انبعاث الورود البرية”، وديوان “نصب تذكاري”، ورواية “أسطورة وحياة أغونشيش”.

نساء تافراوت نموذج للتحدي والصمود في وجه جبروت الجغرافيا وسلطان التاريخ. يحملن على كواهلهن الجِرار، بحثا عن السقيا علّهن يروين ذلك الظمأ الدفين إلى التراث، والتعطش الجامح إلى الانفتاح على الحداثة والمعاصرة. ستغدو تيمة الماء، بحمولاتها الرمزية العميقة، الأنشودة التي لن تعيى من ترديدها أبد الدهر الألسنةُ والأسماع، ولا غرابة في ذلك إن كان اسم المدينة (تافراوت) يستلهم دلالاته من الماء ذاته كما أسلفنا الذكر. وقد كانت المرأة واعية بقيمة الماء؛ بوصفه أساس الحياة ودعامة التنمية، لما انخرطت في الجمعيات انخراطا فاعلا: جمعية “أنامرْن” للتنمية والبيئة، جمعية “إسَافارن”، جمعية “أنارُوز” للتواصل الثقافي والرياضي، اتحاد جمعيات “أمْلْن”، اتحاد جمعيات أمانوز، جمعية أصدقاء تافراوت، جمعية شباب تافراوت، جمعية محمد خير الدين للثقافة والتنمية وجمعية “أفُولْكي” النسوية..

وعن سحر المكان في تافراوت، فإنه يعود في جزء كبير منه إلى جبالها وهضابها السامقة التي تخفي في طياتها عنادا وجموحا وشموخا وتوْقا إلى العلا، شأنها في ذلك شأن سكانها الذين لا تحول عاتيات الزمان بينهم وبين التعبير عن أفراحهم وأتراحهم في المناسبات الدينية والفلاحية والاجتماعية المختلفة (مهرجانات/ مواسم/ أعراس/ عقيقة/ ختان/ رأس السنة الأمازيغية/ مناسبة إدرنان..). وعلى شاكلة الجبال، تبدو أشجار النخل شوامخ الرؤوس مرفوعات الهمم، لا ترضى بغير العلا سبيلا. فهي لا تعبأ بشحّ الطبيعة وقساوتها، فتستحق بذلك من السكان والسياح على حد سواء قولهم: إلى العلا أيتها النخلة، كنتِ ولا تزالين رمزا للعزة والإباء والعناد والإصرار.

وبالرغم من قساوة الظروف الطبيعية للمنطقة، ووعورة مسالكها، وشح وديانها ومجاريها المائية، فقد استطاعت أن تفرض نفسها ليس على الصعيد المحلي فحسب، بل على الصعيد الوطني كذلك في مجالات مختلفة (الأدب/ الإعلام/ الثقافة/ الاقتصاد/ السياسة..). ولئن بعدت المدينة عن المجال الحضاري، فإن سحرها وفتنتها التي تستمدها من طابعها السياحي مع ذلك لا يقاوم. فقد استطاع أبناؤها بحكمتهم أن يجعلوا من مدينتهم الصغيرة عروسا، تنضح سلما وأمانا وتنمية وتقدما وازدهارا. يحج إليها الزوار من كل حدب وصوب، بحثا عن الراحة والاستجمام والترويح عن النفس. ولم تأت زيارة محمد الخامس، تغمده الله برحمته، لها سنة تسع وخمسين وتسعمائة وألف من فراغ، بل كانت نابعة من الوطنية الصادقة لأهلها، وبلائهم البلاء الحسن في مقاومة الاستعمار.

مدينة تافراوت مدينة الفرح والبهجة والحبور، ليلها في فصل الصيف نهارها، لا تتوقف دقات “البندير” عن النقْر، فتوقّع بذلك سمفونية بديعة، تمتد أصداؤها إلى المناطق المجاورة، نِجادها ووِهادها، جبالها وسهولها، فتتجدد الحياة على الدوام. ويعد مهرجان “تيفاوين” من المهرجانات التي تنتظم خيوطها في فصل الصيف، فيحضر الحاضر والبادي، القاصي والداني، ويلتئم الجميع على الصينية والمائدة، يلتذون بعذوبة الكلمة وسحر النغم. وبموازاة مع المهرجان، تعرف المنطقة مواسم أخرى، مثل موسم زاوية “تيمكيدشت” وموسم سيدي عبد الجبار العلوي.

كم تتوق النفس البشرية إلى التحرر من زحمة الطوْق الذي فرضه الوباء على الرقاب، بتدابيره واحترازاته وهواجسه وكوابيسه وضغوطه المادية والرمزية، فتستعيد أنفاسها وعافيتها، وتنطلق من جديد في عوالم فسيحة داخلية وخارجية، لا يحدّها حدّ ولا يقيدها قيد.

hespress.com