أيها الصديق الأثير، إنني أتطلع إليك من دار الشقاء، وأنت في دار البقاء والنقاء والصفاء، أبعث إليك بكلمات نسجت خيوطها السنون بأحرف من نور سرمدي، وأترحم على روحك الطاهرة، بعد أن خطفتك منا يد المنون في عز شبابك على حين غرة التي ما زالت تخبط فينا وبيننا خبط عشواء بدون شفقة، وبدون هوادة، تسلبنا أحباءنا وخلاننا وأقرباءنا، وتتركنا حيارى في قبضة الزمن الغاشم الذي لا يرحم.
إنني ما زلتُ أتذكر صورتك في حزن عميق وأنت تحضن فلذات أكبادك الصغار، ولسان حالك يخاطب صروف الدهر، ويعاتب نوائبه مع الحطيئة: (ماذا تقولُ لأفراخ بذي مرخ / زغب الحواصل لا ماء ولا شجر..) ما زلت أنظر إلى صورتك وحرقة في النفس، وغصة في الحلق، وحزن في القلب، وفي الدماغ ما انفك يكبر لفقدانك المفاجئ.
إفصاحات وإجهاشات
كانت آخر كلماتك الجميلة لي قبل رحيلك بأيام قليلة بالحرف الواحد: “أهلا يا صديقي العزيز وأخي الكريم أستاذ محمد”.. وإنني عندما أفتح “الفيس” وألقي نظرة على البريد الخاص الذي كان يجمعنا على العمل والإنتاج والكتابة والإبداع منذ سنوات بعيدة خلت أشعر بألم ممض، وبحزن عميق خاصة عندما تتبدى أمامي من جديد صورتك مع أنجالك (عون ـ إبراهيم ـ يوسف والشقيقتان) الذين ما فتئوا يشقون طريقهم في مسالك هذه الحياة الوعرة وهم في شرخ العمر وريعانه، الذين كنت تسميهم بـ”وجوه الخير”.
لقد ودعتَ هذه الحياة المرة والمريرة ولسان حالك يقول: “الاشمئزاز المطلق، أمضي بقوة. لا شيء سوى الصور القاسية، صور تفتقر إلى الغفران والبراءة والتبرئة… صور يسجلها توحش الصمت الذي يفوق كل وصف وحكاية…”، وتطلق صرخة عالية كتومة في الأفق البعيد لا يسمعها إلا الله، وتقول متحسرا منكسرا حزينا: “للقلب المنكسر صوت لا يسمعه سوى الله..”. وشوقك واشتياقك إلى والدتك الرؤوم رحمها الله عندما كتبت إليها من غياهب السجون تقول: “رسالة إلى أمي: اشتقت لك، ليت للكلمات أشكالا من صوت الروح”. وها هو ذا العيد يعود إليك ولا بهجة، ولا مهجة، ولا حبور، ولا سرور حيث تقول في ذلك: “تهاني العيد لم تُنسني رحيل أمي وأخي رائد.. اللذين لم أعلم بأمر رحيلهما إلا بعد خروجي من السجن، الفاتحة على روحهما”. ولم يسمح لك القدر القاسي بأن ترى والدتك وأن تلتقي بها بعد خروجك من ظلمات السجون، فقلت في ذلك متحسرا في ذيل صورة تجمعك بها: “أمي التي رحلتْ وأنا بالسجن: كانت كلما نظرت إلى السماء طلبتْ من الله رؤيتي، الفاتحة على روحها”، وتضاءلت ثقتك بالناس عملا بنصيحة ابن الرومي الذي كان يقول: (عدوك من صديقك مستفاد / فلا تستكثرن من الصحاب)، ونشرت ذات يوم من أيام الله الخوالي تقول في هذا الخصوص: “يقول الطغاة: إذا أردت أن يكون لديك صديق فاشترِ كلبا”!. وعندما كان يضيق بك الحال، ويشتد السقم بجسمك النحيل كنت تتذرع إلى الله رافعا يديْك إلى السماء وتقول: “صوت الحق يعلو دائمًا، حتى وهو صامت. وصوتي يعلو حتى وأنا صامت لأن صوتي ضمن نسيج صوت الحق. والله وحده من وراء القصد والمقصد. اللهم أنت الشافي والمُعافي”. ومنذ خروجك من السجن النائي البعيد لحقتك الانتكاسات الصحية تلو الانتكاسات التي لازمتك حتى أسلمتَ الروح لباريها.. كنت حينها تقول في ذلك: “انتكاسات صحية متوالية. حسبي الله ونعم الوكيل”.
عجبا أيها الحِمَام الزؤام
أيها الصديق، إنني ما زلت أتذكر ابتسامتك المعهودة، وتواضعك الجم، وكلماتك المنتقاة المتناغمة المتراصة، كنت تبادل خلانَك وأصدقاءَك وأحباءَك الحديث، عبر الأثير كأنك مخلوق بلوري، كنتَ طيبَ القلب، هادئَ البال، خفيضَ الصوت، يكاد حديثك أن يكون همساً، وديع النفس، رقيق المشاعر، حلو الكلام، صافي السجايا، حميد الخصال، بلطفك، وببراءتك، وبكلماتك الهادئة.
عجبا لهذا الحِمَام الزؤام الذي خطفك منا في لمح من البصر، في غمضة عين، بين عشية وضحاها؛ فقبل أيام قليلة جدا من رحيلك المفاجئ كنت تكتب لي وتحدثني عبر البريد الإلكتروني الخاص في العالم الأزرق الغريب الذي يسمح لنا باللقاء روحيا على ثبج مطايا الكلمات، كنا نتبادل أطراف الحديث عن أحوالنا وعن أحوال الدنيا وأهوالها، عن جِدك، واجتهادك، وتطلعك وطموحك، في الإشراف على مواقع ومجلات وعلى مشاريع إعلامية آمنت بها، وكنتُ رفيقك في هذه الدروب منذ انطلاقها، كنا نتحدث عن نجاحاتك وإخفاقاتك، عن سعادتك وهمومك، عن وقوعك في الأسر في خضم مواجهتك لمعركة الحياة، والزج بك مسجونا، وكان يجرنا الحديث عن عودتك إلى وطنك، وعن أهلك، وأولادك، وخلانك، وذويك، وأسرتك الصغيرة والكبيرة، عن معاناتك مع جسمك الهزيل الذي أنهكه الغياب، وأضناه الاغتراب، والاستلاب وهده التوىَ الذي سلمه للردىَ، وأخيرا دون سابق إنذار أو إخبار اختطفتك يدُ المنون، وأكاد أن لا أصدق فأنا ما برحتُ أنتظر اتصالك بي كالمعتاد بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي التي اعتدنا التحاور والتشاور عبرها على امتداد العِقد الفارط الذي انصرم وولى بدون رجعة.
الموت عند الكتاب والمبدعين
رحيلك المُؤسف أيها الصديق الأصيل جعلنا نتساءل عن الموت وأحواله، وأهواله، وكأننا ننساه أو نحاول أن نتناساه عن قصد إلى حين، ولكنه سرعان ما يعود إلينا بعيونه الجاحظة الرهيبة عندما يخطف أحدَ أصدقائنا وخلاننا مثلك؛ ففي مختلف العصور والدهور كُتب الكثير عن الموت، وهناك عشرات الكتب والمجلدات والقصص والحكايات والأساطير التي تتناول هذه الظاهرة الطبيعية، فالموت يعيش فينا وبيننا، ونجد هذا المفهوم مبثوثا في العديد من الحِكم والأشعار والأمثال السائرة، فالموت في هذه الموروثات هو رفيق كل من تدب فيه الحياة على أديم هذه الدنيا.
ليس في الآداب العالمية شاعر أو كاتب لم يتعرض لموضوع الموت في أعماله، وهو موضوع كان له وجود في مختلف العصور، في ملاحم بلاد الرافديْن وفي مصر القديمة، وعند الرومان والإغريق، وعند قدماء السكان الأصليين في أمريكا اللاتينية، وفي الأدب العربي قديمه وحديثه. وهناك العديد من الشعراء والفنانين الذين تغنوا بالموت، أو كتبوا عنه، ففي الأدب الإيبروأمريكي نجد ممن كتبوا عن الموت الكثيرين؛ منهم على سبيل المثال وليس الحصر: داريو، وبُورخيس، ونيرودا، وساباتو، وغاليانو، ولوركا، وألبرتي، وفياروتيا، وخوسيه بوسادا، وبرونو ترافين، وأوكتافيو باث، وبرناردو أورتيس، وتامايو، وفريدا كاحلو، وريفيرا، وخوان رُولفو الذي قدم لنا في قصته الشهيرة “بيدرو بارامو” بطلا من الأموات، وهذا الشاعر الكوبي اليسُيو دييغو يحاور الموتى في كتاباته وأشعاره، ويتعرض المكسيكي كارلوس فوينتيس لموضوع الموت في شخص رجل مُسن يأتي من الولايات المتحدة الأمريكية بحثا عن الحِمَام (بكسر الحاء) خلال الثورة المكسيكية؛ لأنه يعتقد أن استشهاده في هذه المعركة أكثر شرفا له من أن يموت موتة طبيعية في غربته. كما نجد موضوع الموت عند شعرائنا: زهير، وطرفة، والأعشى، والخنساء، وأبو العتاهية، وأبو تمام، وابن الرومي، والمتنبي، والمعري (في داليته الشهيرة وسواها)، والرصافي، وعند عمر الخيام، وطاغور، وبودلير، ورامبو، وكافكا، وباسكال، وريلكه، وكامو، وبيسووا، وهمنجواي، وسواهم. ويدفعنا التفكير في الموت إلى التأمل وإعمال النظر والفكر في الحياة الحاضرة، والحياة الأخرى التي تنتظر المرء، فنهرع إلى مراجعة أنفسنا، ونحاسبها حتى لا ننسى أننا مجرد أطياف عابرة، أو ظلال زائلة في هذه الدار، وأننا لا بد راحلون لا محالة يوما نحو العالم الآخر.
الموت في الحضارات القديمة
لقد عرفت مختلف الحضارات البشرية القديمة هذا النوع من المشاعر والطقوس عن الموت كظاهرة طبيعية محيرة. وقد خلفت لنا تلك الحضارات معالمَ، ومآثرَ، ومقابرَ أشهرها أهرامات مصر، والحضارات السابقة للوجود الكولومبي في أمريكا، ومُجسمات ترمز إلى الموت أو إلى الموتى، حيث كان الموت يُعتبر في هذه الحضارات نوعا من التصرف العلوي، حدوثه لا يثير فيها أي حزن أو هم أو ألم أو حسرة أو حداد. وكان الناس يتقبلونه كحدث طبيعي، ويعتقدون أن الموت ليس سوى شكل جديد للحياة، كما كانوا يعتقدون في العالم الآخر، وكل ميت يأخذ طريقه نحو هذا العالم، ويصنف حسب الأعمال التي قام بها في حياته. وكان السكان الأصليون في أمريكا السابقة للوجود الكولومبي على سبيل المثال يؤمنون بالبعث وهم يفسرون ذلك باختفاء النجوم وراء الأفق، ثم تعود إلى الظهور من جديد، كما كانوا يشبهون عالمَ الأموات عندهم كذلك بالذرة التي بعد أن تُرمىَ في أحشاء الثرىَ وتموت تعود إلى الحياة من جديد في شكلِ نبات قائم جميل مُثمر، كانوا يعتقدون أن الوجود الحقيقي هو للروح وليس للجسد الذي يلحق به الفناء مهما طال وجوده على وجه هذه الأرض.
وقديما قال المتنبي:
أصارع ُخيلاً من فوارسها الدهرُ / وحيداً وما قولي كذا ومعي الصبرُ
تمرستُ في الآفاتِ حتى تركتها / تقولُ أماتَ الموتُ أو ذُعر الذعرُ
ويقول شاعر آخر :
الموتُ باب وكل الناس داخلُه / فيا ليت شعري بعد الباب ما الدارُ
الدارُ دارُ نعيم إن عملتَ بما / يرضي الإله وإن عصيت فالنارُ
وقال آخر:
تزود من الدنيا فإنك لا تدري / إذا جن الليلُ هل تعيش إلى الفجرِ
فكمْ من سليم مات من غيرِ علة / وكمْ من سقيم عاش حينا من الدهرِ
وكمْ من فتىً أمسَى وأصبحَ لاهياً / وقد نُسجت أكفانُه وهو لا يدري.
عليك رحمة الله الواسعة أيها الصديق العزيز ما طلعت شمسٌ، أو استدار واستتب في الأفق قمرٌ.**
كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا.
المرحوم الصديق تيسير النجار الذي وافته المنية في 18 فبراير الفارط (1972 ـ 2021)، كاتب وصحافي أردني، كان قيد حياته عضوا في هيئة تحرير موقع “ضفة ثالثة” التابع لصحيفة “العربي الجديد” التي تصدر في لندن .عمل في عدة صحف ووكالات أنباء. له رواية “أنثى عذراء” وصاحب أول كتاب مراسلات أدبية في الأردن “رسائل نازك الملائكة مع عيسى الناعوري”. والعديد من الدراسات النقدية والأدبية، وديوان “خروج مؤقت”. وحقق عددًا من المخطوطات. كان عضواً في نقابة الصحافيين الأردنيين. وأبًا صالحًا لثلاثة أولاد وابنتيْن.