تمهيد:
لا شك أننا جميعا واعون بكون توثيق عقد الزواج يعتبر اللبنة الأساسية في تنظيم العلاقة الأسرية وضبطها، وهو بذلك يشكل مرتكزا للمحافظة على الروابط الأسرية والهوية الوطنية بالنسبة للمغاربة المقيمين بالخارج، وعاملا مهما للحماية والمحافظة على حقوق المرأة المغربية المقيمة بالخارج وعلى أبنائها باعتبار أن المرأة هي المتضررة الأولى من عدم توثيق العلاقة الزوجية أو حتى من وجود خلل قانوني في توثيق هذه العلاقة، لذلك اهتمت مدونة الأسرة بتوثيق الزواج بالخارج وأفردته بمقتضيات خاصة تميزه عن تلك المعمول بها ضمن الحدود الجغرافية لتراب المملكة.
ومن هذه الخلفية المتفتحة على هموم وانشغالات المغاربة المقيمين بالخارج ورعيا لظروفهم وأحوالهم ببلد الإقامة، نصت مدونة الأسرة على إمكانية إبرام عقود زواجهم، طبقا للإجراءات الإدارية المحلية لبلد الإقامة، حيث ورد في المادة 14 منها: “يمكن للمغاربة المقيمين في الخارج أن يبرموا عقود زواجهم، وفقا للإجراءات الإدارية المحلية لبلد إقامتهم إذا توفر الإيجاب والقبول والأهلية والولي عند الاقتضاء، وانتفت الموانع ولم ينص على إسقاط الصداق، وحضره شاهدان مسلمان، مع مراعاة أحكام المادة 21 بعده. كما نصت المادة 15 على أنه “يجب على المغاربة الذين أبرموا عقد الزواج طبقا للقانون المحلي لبلد إقامتهم، أن يودعوا نسخة منه داخل أجل ثلاثة أشهر من تاريخ إبرامه، بالمصالح القنصلية المغربية التابع لها محل إبرام العقد…”.
المادتان 14 و15: منظور جديد ومبتكر لتعامل المشرع مع عقود زواج المغاربة المقيمين بالخارج، ولكن…
لا يمكن إنكار الفوائد الجمة التي شكلتها هذه المقتضيات في حماية حقوق الأسرة المغربية المقيمة بالخارج، وكذا الجوانب الإيجابية الواضحة التي أتت بها هاتان المادتان، فقد حلتا كثيرا من المعضلات والمشاكل التي كانت تعاني منها الأسرة المغربية المقيمة بالخارج بصفة عامة والمرأة المغربية المهاجرة على الخصوص، والتي كانت تواجه بالتشدد في توثيق علاقتها الزوجية ببلد الإقامة، وفرض أن يكون الزواج موثقا وفق الإجراءات الشكلية للقانون الوطني، مما كان ينتج عنه أوضاع مستغربة وشاذة أحيانا تلحق أضرارا بالأسرة وباستقرارها وتولد مشاكل لاحقة قد لا تعرف حلا، وهكذا كنا نجد في حالات كثيرة أن الأزواج المغاربة المقيمين بالخارج كانوا يبرمون عقدين للزواج أحدهما وفق الإجراءات الإدارية لبلد الإقامة، وآخر في المغرب طبقا لقانون الأحوال الشخصية المغربي…إلخ، إلا أن هذا الأمر انقضى نهائيا ولم يعد مطلوبا من المواطنين المغاربة المقيمين في الخارج إلا أن يبرموا عقد زواج واحد طبقا لقانون بلد الإقامة وهو منتج لآثاره في أرض الوطن، ما دام أن نسخته يتم إيداعها لدى القنصليات المغربية بالخارج التي تتولى توجيهها إلى المصالح المختصة في المغرب.
وبالنظر إلى مقتضيات المادة 14، يمكن القول إنها تعتبر تطبيقا لقواعد القانون الدولي الخاص التي ترتكز على خضوع القواعد والشروط الشكلية الخاصة بالأحوال الشخصية لقانون الموطن، في حين أن الشروط الموضوعية تبقى خاضعة للقانون الوطني، ومن هنا تظهر الأهمية الحيوية لمسألة التمييز بين الشروط الشكلية والأخرى الموضوعية التي تضمنتها هذه المادة، بالنظر للآثار التي تترتب عن هذا التمييز في تقرير صحة عقد الزواج من بطلانه، وأيضا باعتبار هذا التمييز مدخلا لإيجاد صيغة الحل الذي يمكن أن نصل إليه في الإشكال الجوهري الذي طرحه تطبيق مقتضيات المادة 14 على أرض الواقع.
فبالرجوع إلى الشروط التي أوردتها هذه المادة من أجل صحة إبرام عقد الزواج في الخارج طبقا للإجراءات الإدارية المحلية لبلد الإقامة، فقد تطلبت احترام القواعد التالية:
توفر الإيجاب والقبول؛
الأهلية القانونية لإبرام عقد الزواج والولي عند الاقتضاء؛
انتفاء الموانع الشرعية؛
عدم التنصيص على إسقاط الصداق؛
حضور شاهدين مسلمين لمجلس العقد.
فإذا كانت الشروط الأربع الأولى لا تثير إشكالا من حيث كونها تعتبر شروطا موضوعية، يترتب عن الإخلال بها اعتبار عقد الزواج المبرم وفق قانون بلد الإقامة غير صحيح أو باطلا، والأمر نفسه إذا أبرم العقد فوق التراب الوطني، فإن الشرط الأخير المتمثل في وجوب حضور شاهدين مسلمين أثار مفارقة من حيث كونه يدخل في صميم الشروط الشكلية التي من المفروض أنها تخضع لقانون بلد الإقامة، وفي نفس الوقت مدد بعض الصيغ الشكلية التوثيقية الوطنية خارج التراب الوطني المغربي، مما خلق إشكالات عدة في التطبيق اعتبارا لصعوبة تحقق هذا الشرط الشكلي في كثير من بلدان المهجر التي لا تتطلب أصلا حضور شاهدين لمجلس العقد فبالأحرى أن يكونا مسلمين.
المادة 14 في محك التطبيق: محاولة التوفيق
لقد دفعت هذه المفارقة إلى التفكير في حل للمعضلة حتى يتأتى عدم تعطيل المادة 14 والاستفادة من مقتضياتها إلى أقصى ما يمكن، وفي نفس الوقت عدم مخالفة الشروط المضمنة بها، وكان من نتائج ذلك أن قامت وزارة العدل، وبعد شهرين فقط من دخول مقتضيات مدونة الأسرة محك التطبيق العملي، بإصدار منشور بتاريخ 12 أبريل 2004 تحت عدد 13 س2 حول تطبيق مقتضيات مدونة الأسرة على أفراد الجالية المغربية المقيمين بالخارج، وتطرقت من جملة المواضيع التي شملتها الدورية، إلى تطبيق المادة 14 وكيفية تدارك بعض الشروط التي لم يتضمنها عقد الزواج المبرم طبقا للإجراءات الإدارية المحلية لبلد الإقامة. وخاصة حضور شاهدين مسلمين، والحل الذي تم التوصل إليه آنذاك هو إنجاز إشهاد عدلي أمام العدول المنتصبين للإشهاد لدى القنصلية المغربية المختصة (وهي قنصلية محل إبرام العقد)، بحضور الزوجين المعنيين والشاهدين المراد تضمين شهادتهما على حضورهما لعقد الزواج ويتضمن هذا الملحق الإشهادي ما يلي:
التنصيص على مراجع الزواج المدني؛
الإشارة إلى حضور الشاهدين المسلمين وهويتهما…؛
تحرير هذا الملحق العدلي وضمه إلى نسخة العقد المدني المنجز طبقا للإجراءات الإدارية المحلية لبلد الإقامة؛
توجيه العقد والملحق الإشهادي المرفق به إلى ضابط الحالة المدنية وقسم قضاء الأسرة، طبقا للكيفية المشار إليها في المادة 15 من مدونة الأسرة.
غير أن صيغة الحل هذه، والمعمول بها إلى غاية يومه، وإن كانت تبدو أنها حلت مشكل التوفيق بين مفهوم الإشهاد على عقد الزواج المعمول به في القانون الوطني، والقواعد الشكلية لإبرام عقد الزواج ببلد الإقامة، فإنه مع مرور الوقت بينت أنها بدورها خلقت صعوبات جديدة، لعل أبرزها فرض شكليات وإجراءات مستحدثة على المغاربة المقيمين بالخارج من دونها يعتبر زواجهم الذي تم وفق قانون بلد الإقامة غير مقبول في وطنهم الأم، فعوض التقليل من الشكليات وتبسيط الإجراءات تم إضافة إجراءات أخرى زادت من إثقال كاهل مغاربة العالم وهي: البحث عن شهود مسلمين، الحضور الشخصي للزوجين وإحضار الشاهدين اللذين حضرا بمجلس العقد إلى مقر القنصلية، سماع شهادتهم من طرف العدلين وتوثيقها، إلحاق الإشهاد العدلي بالعقد المدني، الإيداع بقنصلية محل إبرام العقد، مما جعل مواطنينا في الخارج وفي كثير من الحالات يختارون عدم إيداع عقود زيجاتهم بالقنصليات المغربية طبقا لما تحدده مقتضيات المادة 15 من مدونة الأسرة،
وما فاقم من إشكال هذه الوضعية (وفي بعض الأحيان الفهم غير الموفق لمقتضيات المادة 14 حول حضور الشاهدين المسلمين)، أنه وحتى في ظل الاتفاقية المغربية الفرنسية لسنة 1981 والتي تشير في مادتها الخامسة بوضوح إلى ضرورة تطبيق قانون إحدى الدولتين التي ينتمي لها الزوج أو الزوجة في ما يخص الشروط الجوهرية للزواج وحددت هذه الشروط فقط في: سن الأهلية الزواج، والإيجاب والقبول، والخلو من الموانع، وتشير أيضا في مادتها السادسة بوضوح إلى أن تطبيق الشروط الشكلية للعقد يخضع لقانون الدولة التي أقيم بها الزواج، لوحظ من الناحية العملية أن كثيرا من عقود زواج المغاربة التي تتم في فرنسا يتم إلحاق ملحق إشهادي بها يتضمن حضور شاهدين مسلمين لمجلس العقد أو علمهما بإبرام عقد الزواج (رغم أننا نجد في هذه العقود حضور شاهدين إما فرنسيين أو شاهدين مسلمين أحدهما أو كلاهما من النساء) وهو ما ظهر معه تعطيل واضح لمقتضيات الاتفاقية المذكورة التي يفترض أن لها الأولوية في التطبيق.
المادة 14: تشبث بالمضمون وتوجه نحو إعطاء نفس جديد للتطبيق
إذا بالنظر للإشكالات والصعوبات التي خلقها هذا الحل المضمن بالمنشور المومأ إليه أعلاه، فقد أصبح مثارا لانتقادات شديدة من قبل بعض الفقهاء القانونين الذين وصفوه في بعض الأحيان ب”بدعة الإشهاد الملحق” و”العبث الإجرائي”، كما أثار جملة من المؤاخذات من قبل عدد من المهتمين بشؤون المغاربة المقيمين بالخارج، على اعتبار أنه ووفقا لما ذهب إليه بعضهم “شكل عبئا إجرائيا غير منتج، ترتب عنه عزوف العديد من المواطنين عن إيداع زواجهم، واللجوء في أحسن الأحوال إلى الاستلحاق لتسوية وضعية الأبناء رغم وجود عقد زواج صحيح وفقا لأحكام مدونة الأسرة”، فكان التدخل الثاني والذي جاء في سياق تنفيذ التعليمات الملكية السامية الواردة في الخطاب العرش بتاريخ 30 يوليوز 2015، وهذه المرة في إطار تنسيق مشترك بين وزارة العدل وكل من وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي ووزارة الداخلية والوزارة المكلفة بالمغاربة المقيمين بالخارج وشؤون الهجرة، حيث عقدت عدة اجتماعات من أجل دراسة الإشكالات التي تواجه أفراد جاليتنا في الخارج على مستوى تطبيق مدونة الأسرة والحالة المدنية ومحاولة إيجاد سبل لمعالجتها، وتم الاتفاق على بعض الحلول التيسيرية ضمنت في الدورية المشتركة عدد 352 بتاريخ 30 غشت 2016، الموجهة إلى رؤساء البعثات الدبلوماسية والمراكز القنصلية المغربية بالخارج والولاة وعمال العمالات والأقاليم وعمالات المقاطعات، والرؤساء الأولين لمحاكم الاستئناف والوكلاء العامين للملك لديها ورؤساء المحاكم الابتدائية ووكلاء الملك لديها وكذا القضاة الملحقين بسفارات المملكة بالخارج، والتي وإن كانت حافظت على نفس التوجه من حيث ضرورة إنجاز الإشهاد الملحق بالنسبة لعقود الزواج المبرمة طبقا للإجراءات الإدارية المحلية لبلد الإقامة التي تفتقد لشرط حضور الشاهدين، فإنها خففت من بعض الالتزامات الواردة في المادتين 14 من خلال اعتبارها ما يلي:
أولا: أنه في حالة عدم التنصيص في عقد الزواج المبرم طبقا للإجراءات الإدارية المحلية لبلد الإقامة على حضور الشاهدين المسلمين، فإنه يحق للمعنيين بالأمر إنجاز ملحق لهذا العقد لدى المصالح القنصلية يتم فيه التنصيص على شهادة شاهدين عالمين بواقعة الزواج يكون سند علمهما الحضور الشخصي لمجلس العقد أو فقط العلم بإبرام عقد الزواج.
ثانيا: إمكانية تلقي المكلفين بمهام العدول بالقنصليات للإشهاد الملحق بعقد الزواج طبقا للإجراءات الإدارية لبلد الإقامة من طرف أحد الزوجين فقط (ما لم يتعلق مضمون الإشهاد بإنشاء التزامات مالية على عاتق الزوج الآخر، كالإشهاد على تحديد الصداق حيث يتعين في هذه الحالة حضور الزوجين معا وإقرارهما بذلك.)
المادة 14: البحث عن الحسم النهائي للإشكال المطروح
وهنا يمكن أن نطرح التساؤل التالي: هل مكنت هذه التدخلات من التيسير على المغاربة المقيمين بالخارج وتطبيق مقتضيات المادة 14 وفقا لما رام إليه المشرع المغربي عندما سنها؟
الموضوعية تفرض علينا القول بأن الرد بالإيجاب على هذا التساؤل يبقى نسبيا، على اعتبار أن الإجراءات التي قامت بها وزارة العدل قد خففت فعلا من الوطأة الإجرائية لمقتضيات المادتين المذكورتين، ولكنها بكل تأكيد لم تنه الإشكال المطروح الذي أفرزه التطبيق العملي للمادة 14 طيلة ما يزيد عن 16 سنة، وهو المحاولة الدائمة والصعبة للمزاوجة بين تفسيرنا لمفهوم الشهادة في عقد الزواج وتوثيقه الذي تشبت به المشرع المغربي عند وضعه لهذه المقتضيات، وبين خصوصيات القواعد القانونية الواجب تطبيقها على وضعية المغاربة المقيمين في بلدان الإقامة، هذه البلدان التي تختلف مفاهيمها القانونية حول إبرام عقد الزواج عن تلك التي تتضمنها مدونة الأسرة والنظام التوثيقي للزواج لدينا، ويبقى من الظلم الإجرائي للمغاربة المقيمين بالخارج أن نلزمهم في تدبير وضعياتهم العائلية بقواعد شكلية نابعة من القانون الوطني لتسري عليهم حتى في بلدان المهجر.
لقد أصبحت وضعية تطبيق مقتضيات المادة 14 كما هي عليه حاليا تطرح بحدة ضرورة البحث عن حلول تشريعية أكثر جرأة وملاءمة لما يعيشه أفراد جاليتنا بالخارج، نعتمد من خلالها على ما تراكم من تجربة إدارية وقضائية في تطبيق هذه المقتضيات، و نراهن أيضا على تغيير نظرتنا لعملية توثيق عقد الزواج أمام المصالح الإدارية المحلية لدول الإقامة، وذلك باعتبارها تصرفا قانونيا مبرما أمام جهة رسمية لها صلاحية توثيق التصرفات والعقود، واعتبار العملية التوثيقية للعقد في حد ذاتها كافية دون الحاجة إلى ضرورة الإشهاد على العقد من طرف الغير بعد إنجازه من طرف من له صلاحية التوثيق وفقا لقوانين بلد الإقامة، إضافة إلى الاستئناس بما راكمه الاجتهاد القضائي المغربي عند تصديه للبت في موضوع توثيق عقد زواج المغاربة في الخارج.
وارتباطا بما سبق تصدى القضاء الوطني ممثلا في رأس الهرم القضائي (محكمة النقض) إلى شرط الشاهدين المسلمين عند إبرام عقد الزواج طبقا للمادة 14، ويستخلص من موقفه أن تخلف هذا الشرط لا يترتب عنه بطلان عقد الزواج المبرم بين المغربيين المسلمين، استنادا إلى أن حالات بطلان عقد الزواج منصوص عليها في مدونة الأسرة على سبيل الحصر وليس من ضمنها عدم حضور الشاهدين المسلمين، ونسوق هنا مثالا واضحا لقرار صادر عن الغرفة الشرعية لمحكمة النقض بتاريخ 9 غشت 2011 في الملف الشرعي عدد 676/2/1/2010 الذي ورد فيه ما يلي: “لكن حيث إن حضور شاهدين مسلمين إنما يكون مطلوبا عند العقد كما تنص على ذلك المادة 14، أما وقد أبرم العقد وتم تحريره وحصل البناء، فإن هذا المقتضى قد أصبح متجاوزا، خاصة وأن المشرع لم يرتب أي جزاء على خلو عقد الزواج المبرم بالخارج أمام ضابط الحالة المدنية، والمتوفر على ركن الزواج الأساسي وهو الرضا من حضور شاهدين مسلمين، كما أن ذلك لا يتعارض مع النظام العام المغربي مادام أن الزواج قد أبرم بدون موانع مؤقتة أو مؤبدة، مما يبقى معه القرار مرتكزا على أساس ولم يخرق مقتضيات الفصلين المحتج بهما، وما بالوسيلة غير جدير بالاعتبار”.
ويظهر من نموذج هذا القرار ومن قرارات أخرى صادرة عن نفس المحكمة وتواترها بنفس الصيغة حول موضوع حضور الشاهدين المسلمين في المادة 14، أن محكمة النقض حسمت في مدى صحة عقد الزواج المبرم طبقا للإجراءات الإدارية المحلية لبلد الإقامة، واعتبرته عقدا صحيحا على حالته إذا توفرت فيه الشروط الموضوعية لإبرام عقد الزواج وهي الأهلية، الإيجاب والقبول، انتفاء الموانع الشرعية، وعدم الاتفاق على إسقاط الصداق، وبالتالي لم يعد هناك من مجال للقول بإلزامية حضور الشاهدين لمجلس العقد كإجراء “جوهري” لصحته، أو القول بتصحيحه أو تدارك ما نقص فيه من شروط المادة 14 عن طريق إشهاد عدلي ملحق يتضمن شهادة شاهدين مسلمين، ما دام أن عقد الزواج متوفر على أركانه وشروط صحته عند انعقاده.
تطبيق المادة 15: المهم تحقيق الغاية
أما بخصوص تطبيق مقتضيات المادة 15 من مدونة الأسرة، فإنها وإن كانت لا تطرح إشكالات بنفس الحدة التي طرحتها مقتضيات المادة 14 فيبقى أمرا محمودا الاجتهاد الذي ذهبت إليه الدورية المشتركة، المشار إليها سابقا، على مستويين:
– المستوى الأول: من خلال اتاحتها الفرصة للمغاربة المقيمين بالخارج الخيار بين إيداع هذه النسخة بالقنصلية حيث محل إبرام عقد الزواج، أو بالقنصلية حيث محل الإقامة، ومنطق هذا التدبير المتخذ يتأسس على أن الغاية من إيداع نسخ عقود الزواج بالقنصليات هو أن يتم توجيهها إلى قسم قضاء الأسرة وإلى ضابط الحالة المدنية لمحل ولادة الزوجين في المغرب أو لقسم قضاء الأسرة ووكيل الملك بالرباط إن لم يكن للزوجين أو لأحدهما محل ولادة في المغرب، وهذ الغاية تتحقق في جميع الأحوال لأن وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج تتوصل بنسخ هذه العقود من طرف جميع القنصليات في العالم ولا يؤثر في ذلك أن تكون القنصلية التي وجهتها هي قنصلية محل إبرام العقد أو السكنى لأنها في جميع الأحوال تقوم بتوجيهها للجهات المعنية في المادة 15.
– المستوى الثاني: قبول إيداع نسخة عقد الزواج ولو بعد مرور أجل ثلاثة أشهر المنصوص عليها في المادة 15، انطلاقا من كون هذا الأجل الممنوح هو بالأساس تحفيزي للمستفيد من الإجراء ولم يرتب المشرع المغربي أي أثر في حالة قانوني في حالة تجاوزه، ما دام أنه لا يترتب سقوطا لحق أو تغييرا في المراكز القانونية للأطراف، وهذا من شأنه تبسيط الإجراءات على المغاربة المقيمين بالخارج المعنيين بمقتضيات المادة 14 ويخفف عنهم أعباء التنقل في ديار المهجر، ويقرب الخدمات الإدارية الوطنية منهم ويشجعهم على القيام بإجراءات إيداع نسخ عقود زواجهم المبرمة بالخارج، وبالتالي تحقيق المصلحة المتوخاة من إقرار مقتضيات هذه المادة، وهي ضبط وضعيتهم العائلية ببلدان الإقامة ولدى المصالح الإدارية والقضائية الوطنية، وهذا التوجه هو ما تبناه مؤخرا أحد الفرق البرلمانية من خلال تقديمه مقترح قانون يروم تعديل المادة 15 المذكورة وفق الصيغة التي أوردتها الدورية المشتركة.
خاتمة:
وختاما، وباعتبار أن التوجه العام الحالي يذهب في اتجاه تقييم تطبيق أحكام مدونة الأسرة وتقويم ما ظهر من نقص فيها وأصبح يشكل عائقا نحو خدمة صالح مواطنينا في الخارج، فلا يمكن إلا تزكية التوجه الذي خلص إليه الاجتهاد القضائي في تفسيره لمقتضيات المادة 14 ويمكن اتخاذه كسند في القراءة القانونية لهذه المادة وتأويلها، وبالتالي ترتيب الأثر العملي لهذا الاجتهاد حالا بإعفاء مواطنينا في الخارج من ملحق الإشهاد، ومستقبلا عند التدخل التشريعي لتعديل المادة 14، ما دام أن الاجتهاد القضائي يعتبر بدوره من مصادر التشريع، وعليه يمكن الاقتصار في إطار التعديلات التي يمكن التفكير في القيام بها، عند تنظيم إبرام عقد الزواج طبقا للإجراءات الإدارية المحلية لبلد الإقامة، على الشروط الموضوعية الأربع الواردة في المادة 14 وحذف شرط حضور الشاهدين المسلمين، مع استحضار ضرورة مواكبة ما أسفر عنه التطبيق العملي لها للمادة 15، وتعديلها تشريعيا بجعل مقتضياتها تسمح لمواطنينا بالخارج بإيداع نسخة رسم الزواج بقنصلية محل إبرام العقد أو بقنصلية محل الإقامة أو بأي قنصلية مغربية أخرى.