قال عدي الراضي، باحث في التاريخ والتراث، إن “الجنوب الشرقي يتميز بنمط عمراني خاص يتجسد في القصور والقصبات المتناثرة على ضفاف أهم الأودية بالمنطقة، لا سيما درعة وزيز، فوق الربا والمرتفعات، فبتصفح المصادر القديمة لم يستعمل مصطلح القصبة إلا في القرن السادس عشر، وقبل هذا التاريخ كانت القلاع والحصون هي المصطلحات الأكثر استعمالا بين المؤرخين والرحالة”.

وأضاف الراضي، في مقال بعث به لهسبريس، أن مفهوم القصبة لم يظهر في المصادر “إلا مع المولى إسماعيل الذي أسس عدة قصبات ناهز عددها السبعين؛ بخصائص ووظائف جديدة لحماية السهول ومنع القبائل من النزول وتأمين الطرق التجارية، ومن أهم القصبات المعروفة نذكر قصبة بولعوان أعليل وأوطاط”.

وتابع: “بالعودة إلى اللغة الأمازيغية المتداولة بالجنوب الشرقي، نجد أن (تغرمت)، الكلمة الموازية للقصبة، معروفة منذ القديم حتى قبل تأسيس سجلماسة، لأن ما يعبر عنه بالحصون والقلاع على صفحات المتن والمخطوطات هي في شكلها قصبات، أو (تغرما تين) بالأمازيغية، مؤنث أغرم الذي يعني القصر، عبارة عن تجمعات سكنية بمواصفات عمرانية وهندسية فرضتها الظروف المناخية والإيكولوجية والأمنية”.

“بالرجوع إلى كلمة (إغرم)، فهي مشتقة من الجذر اللغوي (تغورما)، وتعني الحضارة والاستقرار بدل الانتجاع بين المراعي الصيفية بالجبال والمرتفعات، والشتوية بالسهول والمنخفضات، ومنها كلمة (أغروم) الطعام الرئيسي والأساسي عند المغاربة، وقديما كان الخبز الوجبة الأساسية عند الساكنة المستقرة المختصة بزراعة الحبوب على ضفاف الأودية، فهو طعام القصر (الاستقرار)، بينما اللحم واللبن طعام الخيمة (البداوة والترحال)”.

“اشتهر الجنوب بقصبات في غاية الدقة والبراعة العمرانية، خاصة قصبة أيت بوحدو التاريخية ذات الصيت العالمي؛ إذ تستقبل سنويا نسبة مهمة من السياح من مختلف بقاع المعمور”، وفق كاتب المقالة الذي أشار إلى أن “أواخر القرن 19 كان الحقبة التاريخية لظهور القصبات الخاصة بأعيان القبائل بمواصفات عمرانية جديدة، والأكثر تطورا على المستوى الهندسي والمعماري، نتيجة التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي عرفها المغرب، حيث ساهمت الظروف التاريخية المميزة لهذه الحقبة بظهور القيادات الاقطاعية من ذوي النفوذ وأعوان الاستعمار؛ إذ يعتبر الكلاوي وعدي نماذج حية من الجنوب الشرقي”.

وبشأن قصبة عدي وبيهي بالريش، أكد الباحث أنها تتموقع “فوق درع صخري يمتد من ضفة واد زيز بالريش أقديم، حيث تنتصب قصبة عدي وبيهي جالسة تحكي قصص وتاريخ ماضيها الزاخر بأحداث الأيام الخوالي؛ إذ تعج بالزوار والخدم والحشم بأشكال معمارية أصيلة تقاوم عوائد الزمن، حيث تشرف على المحكمة الابتدائية من جهة، وعلى المحطة الطرقية من جهة أخرى، لتستقبل كل زائر لمدينة الريش بعبق التاريخ وعبير الحضارة المغربية المتجذرة في أعماق التاريخ بعمرانها الأصيل بنكهة أمازيغية متوغلة بين شعاب العصور”.

واستطرد: “لتكون شاهدا على حقبة تاريخية بكل تفاصيلها وتلخص مسار رجل غامض إلى حد التناقض بكاريزمية قل نظيرها؛ فهو صديق مخلص للاستعمار، ولما امتدت يداه لتقليم سلطاته المطلقة تمرد، وقصة الكلب المشهورة التي يعرفها العام والخاص من أبناء الريش جعلت اليوتنان غوسي يتهمه بالجنون ويودع بمستشفى الأمراض العقلية ببرشيد سنة 1949 عقابا له على رفض إجراء الاستعمار وليس بدوافع وطنية كما يقول البعض، وإنما من غرور الرجل الذي يريد الانفراد بقيادة المنطقة بدون منافس”.

وأورد الراضي أنه “بعد الاستقلال، تم تعيينه عاملا على تافيلالت؛ ولما عملت الدولة الجديدة على التدخل في تعيين القواد بمجاله الترابي، تمرد من جديد وقاد العصيان المعروف بأحداث تافيلالت يناير 1957″، لافتا إلى أن عدي وبيهي “ينحدر من قبيلة أيت يحيى، وخليفة إحدى فروع قبيلة أيت يزدك، وكان أبوه بيهي نايت رهو شيخا على واحة تعلا لين، بعد خضوع القبيلة للاستعمار الفرنسي سنوات قليلة بعد معركة بوذنيب غشت 1908”.

وشدد المصدر عينه على أن تعيينه خلفا لوالده ابتداء من 1920، “ساهم إلى جانب الجيوش الفرنسية بنصيب أكبر في استعمار أعالي زيز، حيث اصطف إلى جانب سلطات الاحتلال ضد الأهالي من المقاومين، وسهل احتلال الأطلس الكبير الشرقي؛ لهذا عين قائدا على أيت يزدك سنة 1933 مكافأة له على الخدمات التي أسداها للاستعمار بالمنطقة، حيث أبان عن شجاعة وشراسة لا مثيل لها في ردع القبائل المقاومة، خاصة أيت مرغاد بأود يم اغف أمان وأيت حديدو بمعركة أيت يعقوب”.

وأوضح الكاتب أنه “بهدف الاستقرار بمركز الريش، تم تشييد قصبة على أرض تم انتزاعها من عائلة ازدكية للسكن قريبا من مقر الإدارة الاستعمارية للقيام بالمهمة الجديدة فوق مرتفع صخري بالريش أقديم، ولكونه حليف الفرنسيين الأوفياء عمل على بناء هذه القصبة اعتمادا على سواعد أيت يزدك عن طريق السخرة (أربعة أيام)، وهو أسلوب استعماري نهجته سلطات الاحتلال وفرضته بالقوة على القبائل، وهو نظام العمل على إصلاح الطرق وشقها بين الشعاب والجبال، وبناء القناطر والمباني الاستعمارية ومنازل ودور الأعيان بصفة مجانية دون مقابل”.

وبشأن “السخرة”، أبرز الراضي أن “كل رب أسرة عليه العمل مدة أربعة أيام مع إحضار دابته، بغلا أو حمارا، لحمل الأحجار والأتربة، وغيرها من المواد الأولية اللازمة، وذلك عن طريق التناوب، حيث يسهر أمغار بوصفه شيخ القبيلة على مراقبة المداومة بكل قرية أو قصر”.

وكشف أنه “بهذه الطريقة تم بناء قصبة عدي وبيهي في ظرف وجيز عن طريق اللوح، وهي تقنية بناء معروفة بالجنوب الشرقي تعتمد على ألواح خشبية (تفريوين) والتراب المدكوك الممزوج بأجزاء حجرية لضمان تماسك الجدران، وجلب خشب الأرز من غابات يتزر للسقف”.

هكذا، “استقدم الصناع من المزخرفين والنجارين والكباصين من تودغا، أغلبهم ذوو خبرة عالية في زخرفة وتنميق القصبات، والكثير منهم قام بهذه المهمة في مباني وقصور الكلاوي، لأن عدي وبيهي يحاول تقليد هذا الأخير في السلطة والمكانة الاجتماعية رغم وجود الفارق في المجال الترابي الخاضع لسلطة القائدين، فالأول حاول إخضاع كل الجنوب الشرقي إضافة إلى مراكش وأجوازها، ولم يمنعه من الوصول إلى زيز وتافيلالت إلا كاريزمية عدي وبيهي والقوة الحربية المتميزة لقبائل المنطقة أيت يفلمان وأيت عطا”، وفق الباحث.

تبعا لذلك، حاول عدي وبيهي بناء قصبات في غاية الروعة والجمال تضاهي قصبات الكلاوي بكل من “تلوات”، عاصمة هذا الأخير، تورد المقالة، مضيفة أنه “بإجراء مقارنة بسيطة بين قصبات الكلاوي وقصبتي عدي وبيهي بكل من الريش وكراندو، يلاحظ تشابه ظاهري على المستوى الهندسي الخارجي على الأقل؛ فهي مباني عالية ذات أبراج رباعية عالية، بينما على المستوى الداخلي، فإن المواد المستعملة في قصبات الكلاوي عصرية استوردها من الخارج، خاصة من فرنسا”.

ولفت الراضي إلى أن “من الأحداث الرئيسية التي كانت قصبة عدي وبيهي مسرحا لها نهاية الخمسينات من القرن الماضي، جعلها قاعدة أساسية لتوزيع الأسلحة على القبائل خلال يناير 1957 للرحال من أيت جرهور. أما البقية من القبائل التي شكلت العمود الفقري لقوة عدي وبيهي، تم تسلحها بقصبة المدخل الشمالي لواحة تعلا لين بكراندو مسقط رأسه”.

نافلة القول لدى الباحث إن “قصبة عدي وبيهي بالريش تحفة تاريخية تحتوي على مكونات عمرانية غنية برموز ونقوش بقيم جمالية، تلخص الكثير من الأحداث التاريخية التي ميزت مغرب ما بعد 1956 عامة، والجنوب الشرقي بصفة خاصة، ومسألة الحفاظ عليها نقاش جدير بالاهتمام، لأنها قد تتعرض للضياع بفعل المؤثرات الطبيعية والمناخية، ورد الاعتبار إليها واجب مفروض على ورثة عدي وبيهي والمجلس البلدي بالريش والمجتمع المدني، ثم وزارة الثقافة بجعل تنمية المدينة فوق كل اعتبار، وترك الضغائن والأحقاد بين مختلف الحساسيات السياسية بالمدينة، والبحث عن الحدود الأدنى، إذا كان بالفعل هاجس التنمية الفعلية للمدينة وساكنتها هو المحرك الأساسي لكل الفعاليات المعنية”.

“التنمية السياحية وصيانة التراث المادي للمدن من الصلاحيات المخولة لرئيس الجماعة والمنقولة إليه من الدولة حسب القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات، بضرورة المساهمة في المحافظة على المواقع الطبيعية والتراث التاريخي والثقافي وحمايته من الضياع باتخاذ التدابير اللازمة، فمن الاختصاصات المشتركة بين الدولة والجماعة؛ نذكر التأهيل والتثمين السياحي للمدن والمعالم السياحية والمواقع التاريخية”، حسَب المقالة.

لذلك، وفق هذا المنظور، يرى الباحث أنه “من الواجب على كل الأطراف المعنية تسخير هذه المعلمة لأهداف سياحية بترميمها وتغيير بابها الرئيسي، لأنه لا ينسجم مع شكل القصبة، وضرورة الاستعانة بالمختصين في التراث المعماري لإعادة الباب القديم من الخشب المزين بمسامير مع خلخال حديدي يستعمل للطرق على شاكلة هاتف الأبواب المستعمل في الفيلات الحديثة، وهو المناسب لهذا النوع من العمران التقليدي المحلي، والحل بيد أحفاد القائد لإعادة الاعتبار لجدهم”، متسائلا: “لماذا لا يتم التفكير في جعل هذه المعلمة التاريخية متحفا يجمع التراث المادي المحلي بكل مكوناته بدل تركها عرضة للضياع والإهمال؟”.

hespress.com