يستعرض الكاتب عبد السلام انويكة، في مقال له، قضية الحدود المغربية الجزائرية وما حصل للتراب المغربي من اقتطاع وتقطيع ممنهج من قبل الاستعمار الفرنسي منذ احتلاله للجزائر.

كما يتناول الكاتب مسار القضية وتطوراتها منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى غاية استقلال المغرب وحدوث ما عرفت بحرب الرمال بين البلدين، مستحضراً ما كان عليه المغرب من وعي وحرص على حدوده الترابية منذ احتلال الجزائر، ومن دعم للقضية الجزائرية واستقلال الجزائر لحل هذه المشكلة العالقة.

ويتحدث الكاتب، في مقاله، عن مسار قضية الحدود المغربية الجزائرية، وحلّ هذه المشكلة “على روح الإخاء بين البلدين الجارين، وهو ما تضمنه اتفاق سري بينهما عام 1961″، مستدركا: “لكن، للأسف الشديد لم تلتزم به الجزائر فكانت حرب الرمال وكان بقاء هذا المشكل عالقا إلى حد الآن”.

وهذا نص المقال:

بخلاف رؤيتها ووجودها في المغرب، كانت سياسة ضم فرنسا لأراضي مغربية ودمجها في تراب مستعمرة الجزائر نتاج قناعة بقائها في هذه الأخيرة إلى الأبد، ولبلوغ مطامعها الإستراتيجية في المنطقة، استغلت كل ما كان يعيشه المغرب من ظروف سياسية؛ وهو الذي بمجرد استقلاله عام ألف وتسعمائة وستة وخمسين رفض الاعتراف بجميع ما كان له من اتفاقيات سابقة مع فرنسا، ما عدا اتفاقية لالة مغنية عام ألف وثمانمائة وخمسة وأربعين. وعليه، لإعادة النظر في قضية الحدود بينهما تشكلت لجنة مشتركة فرنسية مغربية ارتأى نظر المغرب الانسحاب منها، مفضلاً اعترافه بحكومة مؤقتة جزائرية، وعياً منه بما سيكون لها من صلاحية تباحث في هذا الشأن.

تطورات سياسية وغيرها انتهت إلى اتفاقية سرية مغربية جزائرية عام ألف وتسعمائة وواحد وستين، تخص معالجة مسألة الحدود بين البلدين، مقابل دعم المغرب للثورة الجزائرية.

ولا شك أن قضية الحدود المغربية الجزائرية تعد واحدة من أعقد القضايا السياسية العالقة بين البلدين؛ ذلك أنها بقدر ما تعود في مسارها إلى أواسط خمسينيات القرن الماضي، حيث استقلال المغرب، بقدر ما كانت بأثر معبر في تعطيل جملة رهانات وأوراش تهم المنطقة ككل، بل مازالت قضية الحدود بجدل كبير بين باحثين وسياسيين لِما تغذيه وتحدثه من توتر مستمر يهم أمن المنطقة واستقرارها. وكانت الجزائر اختارت الهروب إلى الأمام في تعاملها مع هذا الملف، بحديثها عن أهمية الحفاظ على ما خلفه الاستعمار من إرث ترابي، ما ارتأته مسلكاً ممكناً، مع بحث عن موقع للقضية وتصفيتها عبر انصهار في رهان اتحاد مغرب عربي.

وفي علاقة بقضية الحدود المغربية الجزائرية بعد احتلال الجزائر، من المفيد الإشارة إلى أنه بعد دخول الجنرال “بيجو” إلى وهران ودعوته “ابن الكًناوي” حاكم وجدة للحديث عما كانت عليه المنطقة من تطورات سياسية وعسكرية، وبعد ما حصل من هجوم مفاجئ لفرقة من جيش “ابن الكًناوي” على الطرف الفرنسي أثناء اللقاء، وهو ما ذهل له “بيجو” واعتبره خيانة، إلى درجة عزمه احتلال وجدة لولا اعتذار “ابن الكًناوي”. بعد كل هذا وذاك كان جواب “بيجو” كالتالي: “إن جل المقصود الأهم (في إشارة إلى اللقاء) هو أمر الأمير عبد القادر وتحديد الحدود التي كانت بينكم وبين حكومة الأتراك الجزائرية، وليس مقصودنا ما يخص بكم من البلاد. وإننا نلح عليكم ألا تقبلوا إقامة عبد القادر في بلادكم وألا تساعدوه علينا، فإن قبولكم إقامته في أرضكم نعده حرباً لنا وعداوة لا صداقة”.

ومعلوم أن حدود المغرب مع أتراك الجزائر كانت تشمل بشار وتوات وعين صالح والساورة، باعتبارها تراباً ومناطق مغربية كان أعيانها يحملون ظهائر وطوابع تولية من ملوك علويين، مثل الحسن الأول وعبد العزيز… وكان قد تم الاتفاق من خلال الشرط الأول من تحديد الحدود بين المغرب وفرنسا بالجزائر، عام ألف وثمانمائة وأربعة وأربعين، على إبقائها كما كانت من قبل بين ملوك الترك وملوك المغرب السابقين دون اعتداء ولا بناء ولا تمييز بحجارة، بل تبقى كما كانت قبل استيلاء الفرنسيين على الجزائر.

وكان “با احماد” الوصي على العرش بعد وفاة السلطان الحسن الأول لما بلغ خبر احتلال الفرنسيين لبلاد توات، بعث العربي المنيعي لطنجة ليحتج أمام القوى الكبرى على ما حصل، لكنه لم يحصل سوى على تعاطفها. وبعد وفاة “با احماد” (أحمد بن موسى) وبسبب غياب ما هو كاف من وسائل لدى السلطان عبد العزيز للقيام بما ينبغي صوب تراب البلاد، اختار التخلي إلى حين، متجهاً للعمل على وضع الحدود التي تترك له أكثر ما يمكن من منطقة الجنوب الشرقي، ومن هنا ما حصل مع بعثة المغرب إلى باريس برئاسة عبد الكريم بن سليمان عام ألف وتسعمائة وواحد.

وكان جزء هام من التراب المغربي لما وقع مولاي عبد الحفيظ على عقد الحماية عام ألف وتسعمائة واثنا عشرة تحت المراقبة الفعلية للجيش الفرنسي، بحيث على مدى ثلاثة عقود كانت فرنسا تتسلل تدريجياً صوب الأراضي المغربية بدعوى تعاونها أحياناً وتوسيع الحدود الجزائرية أحيانا أخرى. وغير خاف عن الباحثين المؤرخين أن التدخلات الفرنسية الاستعمارية قبل فرض الحماية على المغرب طبعتها أربع خطوات أساسية عسكرية وسياسية، أولاً احتلال الدار البيضاء في يوليوز ألف وتسعمائة وسبعة، ثم احتلال السواحل المغربية (الشاوية) خلال السنتين المواليتين.

وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر حصلت اصطدامات بين قبائل مغربية وفرق عسكرية فرنسية على طول الحدود الشمالية الشرقية انتهت باحتلال وجدة خلال السنة نفسها. أما واحات الصحراء الوسطى (كورارة وتوات وتدكلت) فتم إلحاقها بالجزائر ما بين ألف وتسعمائة وألف وتسعمائة وواحد، حيث انطلق الفرنسيون منها لغزو بلاد الطوارق والقبائل الصحراوية الأخرى، ومن ثمة ما حصل من دخول متقطع للجنوب الشرقي المغربي باتجاه وادي زيز وتافيلالت.

وكانت اتفاقية لالة مغنية همت تعيين الحدود على أساس احترام الحدود التي كانت بين المغرب وتركيا، وهو ما نص عليه الفصل الخامس من اتفاقية طنجة في مارس ألف وتسعمائة وخمسة وأربعين. وقد قسمت الحدود إلى ثلاثة أقسام، الأول حدد بتدقيق من مصب وادي كيس في البحر المتوسط إلى ثنية الساسي على بعد مائة وعمسين كلم إلى الجنوب، أما الثاني فهو الذي امتد من ثنية الساسي إلى فجيج، وأما الثالث فهو الذي هم جنوب بلاد فجيج؛ وقد أصر المفاوضون على أن تبقى دون تعين حدود على أساس أنها صحراء ومرعى لرعايا الدولتين. وقد احتج المغرب على ما حصل، معتبراً إياها مؤامرة فرنسية، كما احتج على عدم الإبقاء على الحدود كما كانت قائمة بناء على الاتفاقية المغربية التركية عام ألف وخمسمائة واثنين وخمسين (واد تافنا).

ولعل الحديث عن الحدود المغربية الجزائرية يقتضي الرجوع إلى فترات متأخرة من تاريخ المغرب، أي منذ القرن السادس عشر، على أساس حدود مفترضة، إثر ما حصل من تصادم بين القوات التركية والسلطة السعدية، وهي الحدود الموضوعة منذ القرن السابع عشر، تم بموجبها تحديد مناطق نفوذ السلطة التركية ومناطق نفوذ السلطة المغربية باعتماد وادي تافنا حداً سياسيا بين المغرب الأقصى والمغرب الأوسط.

وللإشارة فإن اتفاقية الحدود عام ألف وثمانمائة وخمسة وأربعين لم تشر مطلقاً إلى منطقة توات، نظراً لمغربيتها منذ قرون أولاً وبحكم أن النفوذ الفرنسي لم يكن قد اقترب منها حتى يمكن إثارة قضيتها مع الفرنسيين ثانياً. علماً أن حدود المغرب في الصحراء الشرقية والجنوبية الشرقية كانت تتصل بتونس، كما أن الأتراك لم يكن لهم نفوذ في الصحراء سواء الوسطى أو الجنوبية، بل كان نفوذهم يقتصر على منطقة التل وعلى المدن خاصة، إلى درجة أنهم لم يكونوا يسيطرون سوى على سدس مساحة الجزائر الحالية. وعليه، لم تكن من المهم إثارة قضية الحدود ومناطق توات وغيرها في اتفاقية “مغنية” لأن مغربيتها أمر لا نقاش فيه.

وعن الأطماع الاستعمارية الفرنسية في التراب المغربي أواخر القرن التاسع عشر انطلاقا من مستعمرة الجزائر، ورد في “التنبيه المعرب” للحسن بن الطيب بن اليمني ما يفيد حول تطور الوضع: “وبطُل العمل الذي كانت عليه المملكة في الملاقات مع سفراء الروم، ومَلَك الفرنصيص بلاد تينبكتو، وبلاد قطر توات ومَلَك الصحراء، كلها إلى أن جاور تافيلالت. وقامت القيامة في الدنيا لأجل ذلك وكثر الكلام واغتاظت القلوب وانحل النظام وانهدمت رسوم المملكة من خلف ومن أمام، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وانطلقت الألسن بثلب الدولة وتنقيصها ونسبة القصور إليها”.

وعلى إثر ما حصل له من تقطيع ترابي ممنهج منذ نهاية القرن التاسع عشر، وحرصاً منه على وحدة مجاله، ظل المغرب متشبثاً دوماً في بياناته، بما في ذلك أثناء المفاوضات الجزائرية الفرنسية (ايفيان)، بأن الصحراء الشرقية المغربية لا توجد ضمن السيادة الجزائرية، إلى درجة أنه خلال التفجيرات النووية الفرنسية في “رقان” أكد أن مكان التفجيرات هو أرض مغربية، بحيث رفع في هذا الشأن مذكرة إلى الجامعة العربية من أجل التدخل لدعم مطالبه الترابية التاريخية.

ولم يكن قبول فرنسا التفاوض حول قضية الحدود مع المغرب والحالة هذه سوى مناورة أجاد لعبها “ديكًول” لإبعاده عن كل تضامن مع الثورة الجزائرية، وحتى يدخل في صراع مع جبهة التحرير الوطني التي كانت ترى أن تسوية الملف لا يمكن أن يتم إلا بعد تحقيق الجزائر لاستقلالها. ودليل مناورات فرنسا لإبعاد ما حصل من تقارب في مؤتمر طنجة بين تونس والمغرب من أجل مساعدة الثورة التحريرية الجزائرية ما جاء في مذكرات “ديكًول”: “إن تنمية تنقيبنا عن البترول في الصحراء واستثمارنا له سيصبح غداً بالنسبة إلينا نحن معشر الفرنسيين عنصراً رئيسيا للتعاون مع الجزائريين، فلماذا نقضي مسبقاً عليه بتسليمنا إلى الآخرين أرضاً تعود في وضعها الحالي إلى الجزائر؟”، مضيفاً أنه إذا استجابت فرنسا لمطالب تونس في حدودها مع الجزائر فإنها ستحرك مطامع المغرب في كولمب بشار وتندوف.

يذكر أنه أمام مناورات فرنسا وضغوطاتها لتجنب مفاوضات حقيقية مع الحكومة الجزائرية المؤقتة بدعوى عدم أهليتها لتمثيل الشعب الجزائري، كان موقف المغرب هو دعم الجزائر والوقوف إلى جنبها مع شجب كل ما تقوم به السلطات الفرنسية. بل وبمناسبة الدورة الخامسة عشرة لمنظمة الأمم المتحدة في أكتوبر ألف وتسعمائة وستين، اتصل السلطان محمد الخامس بعدد من رؤساء الدول لنصرة القضية الجزائرية والتصويت لها، والأمر نفسه هو ما حصل مع عدد من رؤساء الدول الغربية، ومنهم الرئيس الأمريكي إزنهاور. بل وحرصا على هذا الملف تم تكليف ولي العهد الحسن الثاني شخصياً لإبراز موقف المغرب الداعم لاستقلال الجزائر.

وفي إطار المفاوضات المغربية الجزائرية حول الحدود والصحراء الشرقية المغربية خلال يوليوز ألف وتسعمائة وواحد وستين، حصل اتفاق سري بين الطرفين بقوة مسودة في الموضوع أعلنها المغرب عام ألف وتسعمائة وثلاثة وستين، وتخص اعترافا رسميا جزائريا بحق المغرب في استرجاع أقاليمه، وهو ما ترتب عنه نزاع مسلح عرف بـ”حرب الرمال”.

وكانت هذه الاتفاقية السرية التي أمضتها الحكومة الجزائرية المؤقتة بقدر ما طمأنت الطرف المغربي، بقدر ما تضمنت إشارات تخص تفهمها لمشكلة الحدود بين البلدين وأهمية إيجاد حل لها بعد الاستقلال: “المشكل الجزائري الناشئ عن تخطيط الحدود المفروض تعسفاً ما بين القطرين سيجد حلا له في المفاوضات بين الحكومة المغربية وحكومة الجزائر، لدراسة المشكل وحله في إطار روح الإخاء”.

وأمام إلحاح المغرب على ضرورة حل قضية الحدود اضطرت الحكومة الجزائرية المؤقتة في بداية عام ألف وتسعمائة وواحد وستين للتجاوب مع المطلب المغربي، فتشكلت لجنة مشتركة عن البلدين لدراسة المشكل الذي أقحمت فيه الجزائر دراسة مشروع وحدة المغرب العربي، وذلك من أجل تمييع قضية الحدود ووضع المغرب أمام الأمر الواقع.

هكذا بسبب مشكل الحدود كانت أولى المواجهات العسكرية المغربية الجزائرية بعد استقلال الجزائر حول “تندوف”، لمَّا قمعت الجزائر مظاهرات طالبت بانضمام الإقليم للمغرب. وهكذا بدأ المغرب يطالب بالوفاء للاتفاقيات، رافضاً كل حدود موروثة عن فترة الاستعمار، عندما انضم إلى منظمة الوحدة الإفريقية عام ألف وتسعمائة وثلاثة وستين، وهو ما ترتب عنه نزاع حدود بين البلدين الجارين عرف بـ”حرب الرمال”.

وكان المغرب قبل هذه الواقعة بعث بوفدين متلاحقين إلى الجزائر لتسوية الملف سلمياً بناء على ما هو سابق بينهما من اتفاق في هذا الشأن، بل تلت ذلك زيارة رسمية للملك الحسن الثاني خلال مارس ألف وتسعمائة وثلاثة وستين، أثيرت فيها قضية الحدود التي فضل الرئيس الجزائري “بن بلة” تأجيلها إلى ما بعد انتهاء انتخابات رئاسة الجمهورية وسريان الدستور الجزائري.

وتبقى قضية الحدود المغربية الجزائرية ومنها الصحراء الشرقية المغربية، التي عبثت بترابها الآلة الاستعمارية والأطماع الفرنسية زمن الاستعمار، واحدة من أعقد القضايا السياسية بين البلدين، وكانت وراء تعطيل جملة أوراش إستراتيجية ورهانات ذات طبيعة إقليمية. بل شكل النزاع المغربي الجزائري حول الحدود منذ استقلال المغرب واحداً من قضايا النزاع العربية الكبرى العالقة إلى حين، لأسباب عدة ومتداخلة، لِما هناك من تدخلات وأطراف معنية ذات مصالح سياسية واقتصادية.

وإذا كان هذا الإشكال الترابي هو نتاج إرث استعماري، فإن وعي المغرب بأهمية حله ضمن ما هو إخاء يجمع بين بلدين شقيقين جارين جعله يبرم اتفاقاً سريا مع الحكومة المؤقتة للثورة الجزائرية برئاسة فرحات عباس عام ألف وتسعمائة وواحد وستين. إلا أن ما حصل من عدم التزام جزائري بعد استقلال الجزائر ومن تجاوز تبين من خلال ما تفاقم من ضغط على أهل تندوف لمنعهم من الانضمام إلى المغرب عام ألف وتسعمائة واثنين وستين، اضطر المغرب لنشر بنود ما حصل من شأن سري حول قضية حدود كان قد تم الاتفاق على حلها في إطار ما يجمع بلدين شقيقين جارين من روح إخاء.

hespress.com